8- يا أيها الذين آمنوا : ارجعوا إلى الله من ذنوبكم رجعة بالغة في الإخلاص ، عسى ربكم أن يمحو عنكم سيئاتكم ، ويُدخلكم جنات تجرى من تحت قصورها وأشجارها الأنهار . يوم يرفع الله شأن النبي والذين آمنوا معه ، نور هؤلاء يسير أمامهم وهم بأيمانهم ، يقولون - تقرباً إلى الله - : يا سيدنا ومالك أمرنا ، أتمم لنا نورنا ، حتى نهتدي إلى الجنة ، وتجاوز عن ذنوبنا إنك على كل شيء تام القدرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ تُوبُوَاْ إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نّصُوحاً عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللّهُ النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين صدّقوا الله تُوبُوا إلى اللّهِ يقول : ارجعوا من ذنوبكم إلى طاعة الله ، وإلى ما يرضيه عنكم تَوْبَةً نَصُوحا يقول : رجوعا لا تعودون فيها أبدا . وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله نَصُوحا قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد بن السّريّ ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن النعمان بن بشير ، قال : سُئل عمر عن التوبة النصوح ، قال : التوبة النصوح : أن يتوب الرجل من العمل السيء ، ثم لا يعود إليه أبدا .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير ، عن عمر ، قال : التوبة النصوح : أن تتوب من الذنب ثم لا تعود فيه ، أو لا تريد أن تعود .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب ، قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحا قال : يذنب الذنب ثم لا يرجع فيه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير ، قال : سألت عمر عن قوله تُوبُوا إلى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحا قال : هو العبد يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه أبدا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سماك بن حرب ، عن النعمان بن بشير ، قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : التوبة النصوح ، أن يتوب من الذنب فلا يعود .
حدثنا به ابن حميد مرّة أخرى ، قال : أخبرني عن عمر بهذا الإسناد ، فقال : التوبة النصوح : الذي يذنب ثم لا يريد أن يعود .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله تَوْبَةً نَصُوحا قال : يتوب ثم لا يعود .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : التوبة النصوح : الرجل يذنب الذنب ثم لا يعود فيه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحا أن لا يعود صاحبها لذلك الذنب الذي يتوب منه ، ويقال : توبته أن لا يرجع إلى ذنب تركه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثني الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : تَوْبَةً نَصُوحا قال : يستغفرون ثم لا يعودون .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوديّ ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله : تَوْبَةً نَصُوحا قال : النصوح : أن تحول عن الذنب ثم لا تعود له أبدا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحا قال : هي الصادقة الناصحة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ابن زيد ، في قول الله : تُوبُوا إلى اللّهِ تَوْبَةً نَصُوحا قال : التوبة النصوح الصادقة ، يعلم أنها صدق ندامة على خطيئته ، وحبّ الرجوع إلى طاعته ، فهذا النصوح .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة الأمصار خلا عاصم : نَصُوحا بفتح النون على أنه من نعت التوبة وصفتها ، وذُكر عن عاصم أنه قرأه : «نُصُوحا » بضمّ النون ، بمعنى المصدر من قولهم : نصح فلان لفلان نصوحا .
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بفتح النون على الصفة للتوبة لإجماع الحجة على ذلك .
وقوله : عَسَى رَبّكُمْ أن يُكَفّرَ عَنْكُمْ سَيّآتِكُمْ يقول : عسى ربكم أيها المؤمنون أن يمحو سيئات أعمالكم التي سلفت منكم وَيُدْخِلَكُمْ جَنّاتٍ تجري مِنْ تَحْتِها الأنْهارُ يقول : وأن يدخلكم بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار يَوْمَ لا يَخْزِي اللّهُ النّبِيّ محمدا صلى الله عليه وسلم وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَينَ أيْدِيهِمْ يقول : يسعى نورهم أمامهم وبأيمَانِهِمْ يقول : وبأيمانهم كتابهم ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : يَوْمَ لا يَخْزِي اللّهُ النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ . . . إلى قوله : وبأيمَانِهِمْ يأخذون كتابهم فيه البشرى .
يَقُولُونَ رَبّنا أتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِر لَنا يقول جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل المؤمنين يوم القيامة : يقولون ربنا أتمم لنا نورنا ، يسألون ربهم أن يبقي لهم نورهم ، فلا يطفئه حتى يجوزوا الصراط ، وذلك حين يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : رَبّنا أتْمِمْ لَنا نُورَنا قال : قول المؤمنين حين يُطْفأ نور المنافقين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن الحسن ، قال : ليس أحد إلا يعطى نورا يوم القيامة ، يعطى المؤمن والمنافق ، فيطفأ نور المنافق ، فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره ، فذلك قوله : رَبّنا أتْمِمْ لَنا نُورَنا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن يزيد بن شجرة ، قال : كان يذكرنا ويبكي ، ويصدّق قوله فعله ، يقول : يا أيها الناس إنكم مكتوبون عند الله عزّ وجلّ بأسمائكم وسيماكم ، ومجالسكم ونجواكم وخلائكم ، فإذا كان يومُ القيامة قيل : يا فلانُ بْنَ فلان هاكَ نورَك ، ويا فلانُ بْنَ فلان ، لا نور لك .
وقوله : وَاغْفِرْ لَنا يقول : واستر علينا ذنوبنا ، ولا تفضحنا بها بعقوبتك إيانا عليهاإنّكَ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يقول : إنك على إتمام نورنا لنا ، وغفران ذنوبنا ، وغير ذلك من الأشياء ذو قدرة .
يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا بالغة في النصح وهو صفة التائب فإنه ينصح نفسه بالتوبة وصفت به على الإسناد المجازي مبالغة أو في النصاحة وهي الخياطة كأنها تنصح ما خرق الذنب وقرأ أبو بكر بضم النون وهو مصدر بمعنى النصح كالشكر والشكور والنصاحة كالثبات والثبوت تقديره ذات نصوح أو تنصح نصوحا أو توبوا نصوحا لأنفسكم وسئل علي رضي الله تعالى عنه عن التوبة فقال يجمعها ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تربي نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية عسى ركم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ذكر بصيغة الأطماع جريا على عادة الملوك وإشعارا بأنه تفضل والتوبة غير موجبة وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء يوم لا يخزي الله النبي ظرف ل يدخلكم والذين آمنوا معه عطف على النبي صلى الله عليه وسلم إحمادا لهم وتعريضا لمن ناوأهم وقيل مبتدأ خبره نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم أي على الصراط يقولون إذا طفئ نور المنافقين ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير وقيل تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم فيسألون إتمامه تفضلا .
ثم أمر عباده بالتوبة ، والتوبة فرض على كل مسلم ، وتاب معناه : رجع فتوبة العبد : رجوعه من المعصية إلى الطاعة ، وتوبة الله تعالى على العبد إظهار صلاحه ونعمته عليه في الهداية إلى الطاعة ، وقبول توبة الكفار يقطع بها على الله إجماعاً من الأمة ، واختلف الناس في توبة العاصي ، فجمهور أهل السنة على أنه لا يقطع بقبولها ولا ذلك على الله بواجب ، والدليل على ذلك دعاء كل واحد من المذنبين في قبول التوبة ولو كانت مقطوعاً بها لما كان معنى للدعاء في قبولها ، وظواهر القرآن في ذلك هي كلها بمعنى المشيئة ، وروي عن أبي الحسن الأشعري أنه قال : التوبة إذا توفرت شروطها قطع على الله بقبولها لأنه تعالى أخبر بذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا المسك بظواهر القرآن ، وعلى هذا القول أطبقت المعتزلة ، والتوبة الندم على فارط المعصية والعزم على ترك مثلها في المستقبل ، وهذا من المتمكن ، وأما غير المتمكن كالمجبوب في الزنا فالندم وحده يكفيه ، والتوبة عبادة كالصلاة ونحوها ، فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت ثم عاود الذنب ، فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصل من العبادات ، والنصوح بناء مبالغة من النصح إلى توبة نصحت صاحبها وأرشدته ، وقرأ الجمهور : «نَصوحاً » بفتح النون ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع والحسن والأعرج وعيسى : «نُصوحاً » بضم النون ، وهو مصدر ، يقال : نصح ، ينصح ، نصاحة ، ونصاحة قاله الزجاج ، فوصف التوبة بالمصدر كالعدل والزور وغيره ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : التوبة النصوح ، هي أن يتوب ثم لا يعود ، وقال أبو بكر الوراق : هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلفوا ، وقوله تعالى : { عسى ربكم } الآية ، ترجية ، وقد روي أن { عسى } من الله و اجبة ، والعامل في { يوم } قوله : { يدخلكم } ، وروي في معنى قوله تعالى : { يوم لا يخزي الله النبي } ، أن محمداً صلى الله عليه وسلم تضرع في أمر أمته فأوحى الله إليه : إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال :
«يا رب أنت أرحم بهم » فقال الله تعالى : إذا لا أخزيك فيهم ، فهذا معنى قوله : { يوم لا يخزي الله النبي } ، والخزي المكروه الذي يترك الإنسان حيران خجلاً مهموماً بأن يرى نقصه ، أو سوء منزلته ، وقوله تعالى : { والذين آمنوا معه } يحتمل أن يكون معطوفاً على { النبي } فيخرج المؤمنون من الخزي ، ويحتمل أن يكون ابتداء ، و { نورهم يسعى } جملة هي خبره ، ويبقى النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصاً مفضلاً بأنه لا يخزى ، وقد تقدم القول في نظير قوله : { يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } [ التحريم : 8 ] ، وقرأ سهل بن سعد : «وبإيمانهم » ، بكسر الهمزة ، وقوله تعالى : { ربنا أتمم لنا نورنا } ، قال الحسن بن أبي الحسن هو عندما يرون من انطفاء نور المنافقين حسبما تقدم تفسيره ، وقيل يقول من أعطي من النور بقدر ما يرى قدميه فقط .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار } .
أعيد خطاب المؤمنين وأعيد نداؤهم وهو نداء ثالث في هذه السورة . والذي قبله نداء للواعظين . وهذا نداء للموعوظين وهذا الأسلوب من أساليب الإِعراض المهتم بها .
أُمر المؤمنون بالتوبة من الذنوب إذا تلبسوا بها لأن ذلك من إصلاح أنفسهم بعد أن أمروا بأن يجنِّبوا أنفسهم وأهليهم ما يَزِجّ بهم في عذاب النار ، لأن اتقاء النار يتحقق باجتناب ما يرمي بهم فيها ، وقد يذهلون عما فرط من سيئاتهم فهُدُوا إلى سبيل التوبة التي يمحون بها ما فرط من سيئاتهم .
وهذا ناظر إلى ما ذكر من موعظة امرأتي النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { إن تتوبا إلى الله } [ التحريم : 4 ] .
والتوبة : العزم على عدم العود إلى العصيان مع الندم على ما فرط منه فيما مضى . وتقدمت عند قوله تعالى : { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } في سورة [ البقرة : 37 ] . وفي مواضع أخرى وخاصة عند قوله تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } في سورة [ النساء : 17 ] . وتعديتها بحرف ( إلى ) لأنها في معنى الرجوع لأن ( تاب ) أخو ( ثاب ) .
والنصح : الإِخلاص في العمل والقول ، أي الصدق في إرادة النفع بذلك . ووصف التوبة بالنصوح مجاز جعلت التوبة التي لا تردد فيها ولا تخالطها نية العودة إلى العمل المتوب منه بمنزلة الناصح لغيره ففي ( نصوح ) استعارة وليس من المجاز العقلي إذ ليس المراد نصوحاً صاحبها .
وإنما لم تلحق وصف ( نصوح ) هاء التأنيث المناسبة لتأنيث الموصوف به لأن فعولاً بمعنى فاعل يلازم الإِفراد والتذكير .
وقرأ الجمهور نصوحاً } بفتح النون على معنى الوصف كما علمت . وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم النون على أنه مصدر ( نصح ) مثل : القُعود من قعد . وزعم الأخفش أن الضم غير معروف والقراءة حجة عليه .
ومن شروط التوبة تدارك ما يمكن تداركه مما وقع التفريط فيه مثل المظالم للقادر على ردّها . روي عن علي رضي الله عنه : يجمع التوبة ستة أشياء : الندامة على الماضي من الذنوب ، وإعادة الفرائض . ورد المظالم ، واستحلال الخصوم ، وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية ، وأن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي .
وتقوم مقام ردّ المظالم استحلال المظلوم حتى يعفو عنه .
ومن تمام التوبة تمكين التائب من نفسه أن ينفذ عليها الحدود كالقود والضرب . قال إمام الحرمين : هذا التمكين واجب خارج عن حقيقة التوبة لأن التائب إذا ندم ونوى أن لا يعود صحت توبته عند الله وكان منَعه من تمكين نفسه معصية متجددة تستدعي توبة .
وهو كلام وجيه إذ التمكين من تنفيذ ذلك يشق على النفوس مشقة عظيمة فلها عذر في الإِحجام عن التمكين منه .
وتصح التوبة من ذنب دون ذنب خلافاً لأبي هاشم الجبائي المعتزلي ، وذلك فيما عدا التوبة من الكفر .
وأما التوبة من الكفر بالإِيمان فصحيحة في غفران إثم الكفر ولو بقي متلبساً ببعض الكبائر بإجماع علماء الإِسلام .
والذنوب التي تجب منها التوبة هي الكبائر ابتداء ، وكذلك الصغائر وتمييز الكبائر من الصغائر مسألة أخرى محلها أصول الدين وأصول الفقه والفقهُ .
إلا أن الله تفضّل على المسلمين فغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ، أخذ ذلك من قوله تعالى : { الذين يجتنبون كبائر الإِثم والفواحش إلا اللمم وقد مضى القول فيه } في تفسير سورة [ النجم : 32 ] .
ولو عاد التائب إلى بعض الذنوب أو جميعها ما عدا الكفر اختلف فيه علماء الأمة فالذي ذهب إليه أهل السنة أن التوبة تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب في خصوص الذنب المعود إليه ولا تنتقض فيما سواه . وأن العود معصية تجب التوبة منها . وقال المعتزلة : تنتقض بالعودة إلى بعض الذنوب فتعود إليه ذنوبه ووافقهم الباقلاني .
وليس في أدلة الكتاب والسنة ما يشهد لأحد الفريقين .
والرجاء المستفاد من فعل { عسى } مستعمل في الوعد الصادر عن المتفضل على طريقة الاستعارة وذلك التائب لا حق له في أن يعفى عنه ما اقترفه لأن العصيان قد حصل وإنما التوبة عزم على عدم العودة إلى الذنب ولكن ما لصاحبها من الندم والخوف الذي بعث على العزم دل على زكاء النفس فجعل الله جزاءه أن يمحو عنه ما سلف من الذنوب تفضلاً من الله فذلك معنى الرجاء المستفاد من { عسى } .
وقد أجمع علماء الإِسلام على أن التوبة من الكفر بالإِيمان مقبولة قطعاً لكثرة أدلة الكتاب والسنة ، واختلفوا في تعيُّن قبول توبة العاصي من المؤمنين ، فقال جمهور أهل السنة : قبولها مرجوّ غير مقطوع ، وممن قال به الباقلاني وإمام الحرمين وعن الأشعري أنه مقطوع به سمعاً ، والمعتزلة مقطوع به عقلاً .
وتكفير السيئات : غفرانها ، وهو مبالغة في كَفَر المخفف المتعدي الذي هو مشتق من الكَفر بفتح الكاف ، أي الستر .
{ يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبى والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَىْءٍ قدير } .
{ يوم } ظرف متعلق ب { يدخلكم جنات } وهو تعليقُ تخلص إلى الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه . وهو يوم القيامة وهذا الثناء عليهم بانتفاء خزي الله عنهم تعريض بأن الذين لم يؤمنوا معه يخزيهم الله يوم القيامة وذكر النبي صلى الله عليه وسلم مع الذين آمنوا لتشريف المؤمنين ولا علاقة له بالتعريض .
والخزي : هو عذاب النار ، وحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام قوله : { ولا تخزني يوم يبعثون } [ الشعراء : 87 ] على أن انتفاء الخزي يومئذٍ يستلزم الكرامة إذ لا واسطة بينهما كما أشعر به قوله تعالى : { فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز } [ آل عمران : 185 ] .
وفي صلة { الذين آمنوا معه } إيذان بأن سبب انتفاء الخزي عنهم هو إيمانهم .
ومعية المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم صحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم .
و ( مع ) يجوز تعلقها بمحذوف حال من { الذين آمنوا } أي حال كونهم مع الشيء في انتفاء خزي الله عنهم فيكون عموم { الذين آمنوا } مخصوصاً بغير الذين يتحقق فيهم خزي الكفر وهم الذين ارتدوا وماتوا على الكفر .
وفي هذه الآية دليل على المغفرة لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ويجوز تعلق ( مع ) بفعل { آمنوا } أي الذين آمنوا به وصحبوه ، فيكون مراداً به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به ولم يرتدوا بعده ، فتكون الآية مؤذنة بفضيلة للصحابة .
وضمير { نورهم } عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه .
وإضافة نور إلى ضمير هم مع أنه لم يسبق إخبار عنهم بنور لهم ليست إضافة تعريف إذ ليس المقصود تعريف النور وتعيينه ولكن الإِضافة مستعملة هنا في لازم معناها وهو اختصاص النور بهم في ذلك اليوم بحيث يميزه الناس من بين الأنوار يومئذٍ .
وسعي النور : امتداده وانتشاره . شبه ذلك باشتداد مشي الماشي وذلك أنه يحفّ بهم حيثما انتقلوا تنويهاً بشأنهم كما تنشر الأعلام بين يدي الأمير والقائد وكما تساق الجياد بين يدي الخليفة .
وإنما خص بالذكر من الجهات الأمامُ واليمين لأن النور إذا كان بين أيديهم تمتعوا بمشاهدته وشعروا بأنه كرامة لهم ولأن الأيدي هي التي تمسك بها الأمور النفيسة وبها بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإِيمان والنصر . وهذا النور نور حقيقي يجعله الله للمؤمنين يوم القيامة . والباء للملابسة ، ويجوز أن تكون بمعنى ( عن ) .
وقد تقدم نظير هذا في سورة الحديد وما ذكرناه هنا أوسع .
وجملة { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } إلى آخرها حال من ضمير { نورهم } ، وظاهره أن تكون حالاً مقارنة ، أي يقولون ذلك في ذلك اليوم ، ودعاؤهم طلب للزيادة من ذلك النور ، فيكون ضمير { يقولون } عائد إلى جميع الذين آمنوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ، أو يقول ذلك من كان نوره أقل من نور غيره ممن هو أفضل منه يومئذٍ فيكون ضمير { يقولون } على إرادة التوزيع على طوائف الذين آمنوا في ذلك اليوم .
وإتمام النور إدامته أو الزيادة منه على الوجهين المذكورين آنفاً وكذلك الدعاء بطلب المغفرة لهم هو لطلب دوام المغفرة ، وذلك كله أدب مع الله وتواضع له مثل ما قيل في استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم سبعين مرة .
ويظهر بذلك وجه التذييل بقولهم : { إنك على كل شيء قدير } المشعر بتعليل الدعاء كناية عن رجاء إجابته لهم .