246- تنبه إلى النبأ العجيب عن جماعة من بني إسرائيل بعد عهد موسى طلبوا من نبيهم في ذلك الوقت أن يجعل عليهم حاكماً يجمع شملهم بعد تفرق ويقودهم تحت لوائه إعلاء لكمة الله واسترداداً لعزتهم ، سألهم ليستوثق من جدهم في الأمر : ألن تجبنوا عن القتال إذا فرض عليكم ؟ . . فأنكروا أن يقع ذلك منهم قائلين : وكيف لا نقاتل لاسترداد حقوقنا وقد طردنا العدو من أوطاننا ؟ . . فلما أجاب الله رغبتهم وفرض عليهم القتال أحجموا إلا جماعة قليلة منهم ، وكان إحجامهم ظلماً لأنفسهم ونبيهم ودينهم ، والله يعلم ذلك منهم وسيجزيهم جزاء الظالمين .
ثم ساق القرآن قصة من قصص بني إسرائيل مع أنبيائهم ، فيها العظات والعبر ، وملخص هذه القصة : أن قوما من بني إسرائيل كانوا قد انهزموا أمام أعدائهم هزيمة منكرة جعلتهم يولون الأدبار تاركين ديارهم وأبناءهم ، فقالوا لنبي لهم بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة : ابعث لنا ملكا يقودنا للقتال في سبيل الله ، ففال لهم نبيهم بعد أن حذرهم من عاقبة الجبن والكذب : اختاره الله قائدا لهم ، ولكن نبيهم ساق لهم من الحجج التي تدل على صلاحية طالوت لهذا المنصب ما أخرس ألسنتهم . . ثم سار طالوت بجنوده لقتال أعدائه ، وفي الطريق قال لمن معه { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } ثم بعد هذه المخالفة جبن أكثرهم عن قتال أعدائهم وقالوا { لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } ولكن الفئة القليلة المؤمنة منهم استطاعت أن تنتصر على كل عقبة في طريقها ، وأن تقاتل أعداءها بشجاعة وصبر واعتماد على الله ، فكانت النتيجة أن انتصرت الفئة القليلة المؤمنة بقيادة طالتوت على الفئة الكثيرة الكافرة بقيادة جالوت . هذا تلخيص لتلك القصة العامرة بالعظات ، ولعل من الخير قبل أن نبدأ في تفسير آياتها أن نقرأها بتدبر وتأمل كما صورها القرآن بأسلوبه البليغ المؤثر .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ . . . }
قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى } إلخ استئناف ثان بعد قول قبل ذلك : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } وقد سيق هذا الاستئناف مساق الاستدلال لقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } حتى تتشجع النفوس على الجهاد ، وتهون عليها المصاعب في سبيل حياة العزة والكرامة .
و { الملإ } الأشراف من الناس . وهو اسم للجماعة لا واحد له من لفظه . وإنما سمى الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور ، أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون في شئونهم ، وأصل الباب الاجتماع بما لا يحتمل المزيد .
والمعنى : كما سبق أن بينا في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } قد علمت أيها العاقل حال أولئك القوم من بني إسرائيل الذين كانوا بعد وفاة موسى - عليه السلام - إذ قالوا لنبي لهم أقم لنا أميراً لكي نقاتل معه في سبيل الله . ومن لم يعلم فها فنحن أولاء نعلمه بحالهم فعليه أن يعتبر ويتعظ .
فقوله : { مِن بَعْدِ موسى } بيان للزمن الذي كان يعيش فيه أولئك الملأ من بني إسرائيل والمراد بالنبي الذي قالوا له { ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله } على الراجح - " شمويل بن حنة " وكان السبب في طلبهم هذا من نبيهم أن العمالقة أتباع جالوت كانوا قد أخرجوهم من ديارهم ، وأنزلوا بهم هزائم شديدة ، فطلبوا من ذلك لكي يستردوا مجدهم الضائع ، وعزهم المسلوب ، على يد هذا القائد المختار من جهة نبيهم .
وفي الإِتيان بلفظ هذا النبي بصيغة التنكير إشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي وإنما المقصود معرفة حال أولئك القوم ، وما جرى لهم مع نبيهم من أحداث من شأنها أن تدعو إلى الاعتبار والاتعاظ . وهذه طريقة القرآن في سرد القصص لا يهتم بالأشخاص والأزمان إلا بالقدر الذي يستدعيه المقام . أما الاهتمام الأكبر فيجعله لما اشتملت عليه القصة من وجوه العظات والعبر .
ويبدوا أنه كان يتوجس منهم خيفة لأنه أعرف بطبيعتهم ، فنراه يقول لهم كما حكى القرآن عنه : { قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ } .
فالاستفهام للتقرير والتحذير . أي إني أتوقع عدم قتالكم إذا فرض عليكم القتال ، فراجعوا أنفسكم وقوتكم قبل أن تطلبوا هذا الطلب ، لأنه إذا فرض عليكم ثم نكصتم على أعقابكم فإن عاقبتكم ستكون شراً لا شك في ذلك .
وعسى هنا بمعنى التوقع والمقاربة . والجملة استئناف بياني .
قال صاحب الكشاف ؛ والمعنى : هل قاربتم ألا تقاتلوا ؟ يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون ؟ أراد أن يقول : عسيتم ألا تقاتلوا بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال فأدخل { هَلْ } مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه .
وخبر { عَسَيْتُمْ } : " ألا تقاتلوا " والشرط فاصل بينهما .
ثم حكى القرآن ردهم على نبيهم فقال : { قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } .
أي قال الملإِ من بني إسرائيل على سبيل الإِنكار والتعجب مما قاله نبيهم : وأي صارف يصرفنا عن القتال وحالنا كما نرى ؟ إننا قد أخرجنا من ديارنا وحيل بيننا وبين أبنائنا وفلذات قلوبنا فكيف لا نقاتل مع أن الدواعي موجودة ، والبواعث متوفرة ، والأسباب مهيئة ؟ فأنت تراهم في إجابتهم هذه يستنكرون ما توقعه نبيهم منهم ، ويجزمون بأن الطريق الوحيد لعزتهم إنما هو القتال وأن هذا الأمر لا مراجعة فيه ولا جدال . وهكذا شأن الجبناء والمغرورين في كل زمان ومكان يرحبون بالمعارك قبل قدومها فإذا ما جد الجد كذبت أعمالهم أقوالهم ، وأعطوا أدبارهم لأعدائهم !
ثم حكى القرآن أن نبيهم كان صادقاً فيما توقعه منهم من جبن وكذب ، وأنهم قو م يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فقال- تعالى- : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } .
أي : فحين فرض عليهم القتال بعد أن الحوا في طلبه ، أعرضوا عنه ، ونفروا منه إلا عدداً قليلا منهم فإنه ثبت على الحق ، ووفى بعهده .
قال الآلوسي : وقوله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء - رضي الله عنه - والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير .
ثم ختم الله - تعالى - عليم بالظالمين الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد ، وبترك ما أمرهم الله به بعد أن عاهدوه على عدم الترك .
جملة : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } استئناف ثان من جملة { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } [ البقرة : 243 ] سيق مساق الاستدلال لجملة { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله ، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال ، حباً للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة ، ومصائب المذلة ، فضرب الله لهذين الحالين مثلين : أحدهما ما تقدم في قوله : { ألم تر إلى الذين أخرجوا من ديارهم } والثاني قوله : { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما .
ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم ، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم ، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة ؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة ، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم : { وما لنا ألا نقاتل } إلخ . فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم ، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم ، فلله بلاغة هذا الكلام ، وبراعة هذا الأسلوب تقديماً وتأخيراً . وتقدم القول على { ألم تر } [ البقرة : 243 ] في الآية قبل هذه .
والملأ : الجماعة الذين أمرهم واحد ، وهو اسم جمع كالقوم والرهط ، وكأنه مشتق من الملْء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه ، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم : تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء ؛ فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد ، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئاً مهماً ؛ لأن الماء قوام الحياة ، فضربوا ذلك مثلاً للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول علي « اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي » تمثيلاً لإضاعتهم حقه .
وقوله : { من بعد موسى } إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبيء بعد موسى ، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم ، فكانوا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم ، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم .
وتنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه ، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه ، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل : إذ قالوا لنبيهم ، إذ لم يكن هذا النبي معهوداً عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة .
وفي قوله : { لنبيء لهم } تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر ، ومعنى { ابعث لنا ملكاً } عين لنا ملكاً ؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم ، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ملكاً فكأنه كان غائباً عنهم فبعث أي أرسل إليهم ، أو هو مستعار من بعث البعير أي إنهاضه للمشي .
وقوله : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال } الآية ، استفهام تقريري وتحذير ، فقوله : { ألا تقاتلوا } مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع ، ودليل على جواب الشرط { إن كتب عليكم القتال } وهذا من أبدع الإيجاز فقد حكى جملاً كثيرة وقعت في كلام بينهم ، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختباراً وسبراً لمقدار عزمهم عليه ، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى « هلْ لاَ تقاتلون » ولم يقل : هل تقاتلون ؛ لأن المستفهم عنه هو الطرَف الراجح عند المستفهم ، وإن كان الطرَف الآخر مقدراً ، وإذا خرج الاستفهام إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة . وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم ، فجملة : { ألا تقاتلوا } يتنازع معناها كل من هَل وَعسى وإنْ ، وأُعطيت لعسى ، فلذلك قرنت بإنْ ، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه . والمقصود من هذا الكلام التحريض لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إلى التقصير ، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل ، كما يقول من يوصي غيره : افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل .
وقرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس ، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لغتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب ، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإماتة سكون الياء .
وقوله : { قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } جاءت واو العطف في حكاية قولهم ؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفاً على قولهم : { ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله } ما يؤدَّى مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم ، في تعيين ملك يدبر أمور القتال ، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال ، فجعلوا كلام نبيئهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه ، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم ، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل :
{ وعلى الله فليتوكل المؤمنون } [ آل عمران : 122 ] ، { وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا } [ إبراهيم : 12 ] .
و ( ما ) اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم : { هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا } لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه . واسم الاستفهام في موضع الابتداء ، و { لنا } خبره ، ومعناه ما حصل لنا أو ما استقرَّ لنا ، فاللام في قوله : { لنا } لام الاختصاص و« أن » حرف مصدر واستقبال ، و { نقاتل } منصوب بأن ، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر ، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجروراً بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق ( لا نقاتل ) بالخبر ما لنا في ألا نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لأَلا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا ، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال ، أو سبب لأجل تركهم القتال ، أي لا يكون لهم ذلك . وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلاً من ضمير { لنا } : بَدَل اشتمال ، والتقدير : ما لنا لِتَرْكِنا القتال .
ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة : مثل { مالك لا تأمنا على يوسف } [ يوسف : 11 ] { ومالي لا أعبد الذي فطرني } [ يس : 22 ] { ما لكم كيف تحكمون } [ النساء : 88 ] فمالك والتلدد حول نجد { فما لكم في المنافقين فئتين } [ الصافات : 154 ] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال ، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد .
و« ما » مبتدأ و« لنا » خبره ، والمعنى : أي شيء كان لنا . وجملة « ألا نُقَاتل » حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري ، أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال . وهذا كنظائره في قولك : مالي لا أفعل أو مالي أفعل ، فإن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر ، متعلق بما تعلقَ به { لنا } .
وجملة { وقد أخرجنا } حال معللة لوجه الإنكار ، أي إنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال ؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء .
وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه ، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه ، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملاً محذوفاً تقديره وأبعدنا عن أبنائنا .
وقوله : { فلما كتب عليهم القتال تولوا } الخ . جملة معترضة ، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم ، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله : { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } [ البقرة : 249 ] إلخ .
وقوله : { والله عليم بالظالمين } تذييل ، لأن فعلهم هذا من الظلم ؛ لأنهم لما طلبوا القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه . ومن أحسن التأديب قول الراجز :
مَن قال لاَ في حاجة *** مسؤولة فما ظلم
وإنما الظالم مــن *** يقول لا بعد نعـم
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل ، لما فيها من العلم والعبرة ، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليماً للأمة بفوائد ما في التاريخ ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع ، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن . هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية ، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة إلى الصبغة الملكية ، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفي موسى عليه السلام في حدود سنة 1380 قبل الميلاد المسيحي ، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نُون ، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاماً يسوسونهم ويقضون بينهم ، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة ، وكان من أولئك الحكام أنبياء ، وكان هنالك أنبياء غير حكام ، وكان كل سِبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم ، وكان من قضاتهم وأنبيائهم صمويل بن القانة ، من سبط أفرايم ، قاضياً لجميع بني إسرائيل ، وكان محبوباً عندهم ، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالاً بينهم ، ثم كان الانتصار للفلسطينيين ، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل حتى إن تابوت العهد ، الذي سيأتي الكلام عليه ، أسره الفلسطينيون ، وذهبوا به إلى ( أَشدود ) بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر ، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة ، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم ، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين ، لم يكن إلاّ بسبب النظام الملكي ، وكانوا يومئذٍ يتوقعون هجوم ناحاش : ملك العمونيين عليهم أيضاً ، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة ، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكاً يقاتل بهم في سبيل الله ، فاستاء صمويل من ذلك ، وحذرهم عواقب حكم الملوك « إن الملك يأخذ بينكم لخدمته وخدمة خيله ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه ، ويسخر منكم حراثين لحرثه ، وعملة لعُدد حربه ، وأدوات مراكبه ، ويجعل بناتكم عطَّارات وطباخات وخبازات ، ويصطفي من حقولكم ، وكرومكم ، وزياتينكم ، أجودها فيعطيها لعبيده ، ويتخذكم عبيداً ، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم ، فقالوا : لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم ، وقال لهم : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا { وما لنا ألا نقاتل } الخ . وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح .
وقوله : { وقد أخرجنا من ديارنا وأبناءنا } يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل ، وقد صُرح بذلك إجمالاً في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول ، وأنهم أسروا أبناءهم ، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم ، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين من المسلمين على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة ، وفرقوا بينهم وبين نسائهم ، وبينهم وبين أبنائهم ، كما قال تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } [ النساء : 75 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"ألم تر": ألم تر، يا محمد، بقلبك، فتعلم بخبري إياك، يا محمد "إلى الملأ": إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم. "من بعد موسى": من بعد ما قبض موسى فمات. "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".
"ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ"؛ اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك؛
فقال بعضهم: كان من حديثهم: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا نبيهم فقالوا: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطأها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا... هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم.
"قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ": قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله: "هل عسيتم": هل تعدون "إن كتب": إن فرض عليكم القتال "ألا تقاتلوا ": أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ": قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله "وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟... والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل.
وقال آخرون: معنى قوله: "ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت "الواو "فتركت. "وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا": وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم. "فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ": فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله، "تولوا إلا قليلا منهم": أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد. والقليل الذي استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت... "وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ": والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه. وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه فيه، فأنتم بمعصيته -فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى. وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام:"قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا "فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تر إلا الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} في هذه الآية والتي قبلها قوله: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} دلالة إثبات رسالة محمد، عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات، لأن القصة فيهم كانت ظاهرة في أهل الكتاب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلف إلى أحد منهم، ولا نظر على كتبهم، ثم أخبر على ما كان، دل أنه إنما عرف ذلك بالله جل وعلا...
ثم فيه دلالة أن كل نبي منهم كان إنما يشاور الأشراف من قومه والرؤساء منهم، وإليهم يصرف تدبير الأمور لا إلى السفلة والرذلة،
وفيه دلالة أيضا أن الأنبياء، صلوات الله عليهم وسلامه، لم يكونوا يتولون الجهاد والقتال بأنفسهم، ولكن الملوك هم الذين يتولون ذلك، ثم الملوك هم الراجعون إلى تدبير الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في أمر الدين والآخرة حين سألوا ملكا يقاتلون معه عدوهم...
{هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} استخبار عن سؤالهم الذي سألوا: أحق هو أم شيء أجروه على ألسنتهم من غير تحقيق؟ لئلا يستوجبوا العذاب بتركهم ذلك إذا أجيبوا، وأعطوا ما سألوا وتمنوا؛ لما عرف من شدة القتال مع العدو والجهاد في سبيل الله وكراهية ذلك في كل قوم إلى أن بينوا الصلة التي حملتهم على ذلك وغاية رغبتهم فيها ومما لأجله كان السؤال: أن {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} من القتل وأخذ الأموال وسبي الذراري.
[وقوله] {فلما كتب علهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليهم بالظالمين} [فيه دلالة على أنه قد كان فيهم ما كان هذه من قوله: {لم تقولون ما لا تفعلون} [الصف: 2] من كراهية القتال والجهاد في سبيل الله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
استقبلوا الأمر بالاختيار، واقترحوا على نبيِّهم بسؤال الإذن لهم في القتال، فلمَّا أجيبوا إلى ما ضمنوه من أنفسهم ركنوا إلى التكاسل، وعرَّجوا في أوطان التجادل والتغافل. ويقال إنهم أظهروا التصلب والجد في القتال ذَبَّاً عن أموالهم ومنازلهم حيث: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ تَوَلَّوْا إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. فلذلك لم يتم قصدهم لأنه لم يَخْلُص -لحقِّ الله- عزمُهم، ولو أنهم قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، فإنه سيدنا ومولانا، ويجب علينا أمره -لعلَّهم وُفِّقُوا لإتمام ما قصدوه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إذ قالوا لِنَبِي لَّهُمُ ابعث لَنَا}: أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وننتهي إلى أمره، طلبوا من نبيهم نحو ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من التأمير على الجيوش التي كان يجهزها، ومن أمرهم بطاعته وامتثال أوامره. وروي أنه أمر الناس إذا سافروا أن يجعلوا أحدهم أميراً عليهم {نقاتل} قرئ بالنون والجزم على الجواب. وبالنون والرفع على أنه حال، أي ابعثه لنا مقدّرين القتال. أو استئناف كأنه قال لهم: ما تصنعون بالملك؟ فقالوا: نقاتل. وقرئ: «يقاتل» بالياء والجزم على الجواب، وبالرفع على أنه صفة لملكا. وخبر (عسيتم) {أَلاَّ تقاتلوا} والشرط فاصل بينهما. والمعنى: هل قاربتم أن لا تقاتلوا؟ يعني هل الأمر كما أتوقعه أنكم لا تقاتلون؟ أراد أن يقول: عسيتم أن لا تقاتلوا، بمعنى أتوقع جبنكم عن القتال، فأدخل هل مستفهماً عما هو متوقع عنده ومظنون. وأراد بالاستفهام التقرير، وتثبيت أنّ المتوقع كائن، وأنه صائب في توقعه، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] معناه التقرير. {وَمَا لَنَا أَلاَّ نقاتل} وأيّ داع لنا إلى ترك القتال، وأي غرض لنا فيه {وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن ديارنا وَأَبْنَائِنَا}. {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وعيد لهم على ظلمهم في القعود عن القتال وترك الجهاد.
تعلق هذه الآية بما قبلها من حيث إنه تعالى لما فرض القتال بقوله: {وقاتلوا في سبيل الله} ثم أمرنا بالإنفاق فيه لما له من التأثير في كمال المراد بالقتال ذكر قصة بني إسرائيل، وهي أنهم لما أمروا بالقتال نكثوا وخالفوا فذمهم الله تعالى عليه، ونسبهم إلى الظلم والمقصود منه أن لا يقدم المأمورون بالقتال من هذه الأمة على المخالفة، وأن يكونوا مستمرين في القتال مع أعداء الله تعالى...
لم يقل:"لنبيّهم" لأجل مخالفتهم له وعدم اتّباعهم إياه، فلذلك لم يضفه إليهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يتمنون في مكة المشرفة الإذن في مقارعة الكفار ليردوهم عما هم عليه من الأذى والغي والعمى، عجب من حال بني إسرائيل حيث سألوا الأمر بالقتال ثم لم ينصفوا إذ أمروا تحذيراً من مثل حالهم، وتصويراً لعجيب قدرته على نقض العزائم وتقليب القلوب، وإعلاماً بعظيم مقادير الأنبياء وتمكنهم في المعارف الإلهية، ودليلاً على ختام الآية التي قبلها فقال مقبلاً على أعلى الخلق إشارة إلى أن للنفوس من دقائق الوساوس ما لا يفهمه إلا البصراء: {ألم تر} قال الحرالي: أراه في الأولى حال أهل الحذر من الموت بما في الأنفس من الهلع الذي حذرت منه هذه الأمة ثم أراه في هذه مقابل ذلك من الترامي إلى طلب الحرب وهما طرفا انحراف في الأنفس، قال صلى الله عليه وسلم:"لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموه فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ففيه إشعار لهذه الأمة بأن لا تطلب الحرب ابتداء وإنما تدافع عن منعها من إقامة دينها كما قال سبحانه وتعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج: 39]... فحق المؤمن أن يأبى الحرب ولا يطلبه فإنه إن طلبه فأوتيه عجز كما عجز هؤلاء حين تولوا إلا قليلاً، فهذه الأقاصيص ليس المراد منها حديثاً عن الماضين وإنما هو إعلام بما يستقبله الآتون، إياك أعني واسمعي يا جارة! فلذلك لا يسمع القرآن من لم يأخذه بجملته خطاباً لهذه الأمة بكل ما قص له من أقاصيص الأولين... ويجوز أن يكون الخطاب لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
ولما كان الإخلال من الشريف أقبح قال {إلى الملإ} أي الأشراف، قال الحرالي: الذين يملؤون العيون بهجة والقلوب هيبة...
ولما كان ذلك من أولاد الصلحاء أشنع قال: {من بني إسرائيل} ولما كان ممن تقرر له الدين واتضحت له المعجزات واشتهرت عنده الأمور الإلهيات أفحش قال {من بعد موسى} أي الذي أتاهم من الآيات بما طبق الأرض كثرة وملأ الصدور عظمة وأبقى فيهم كتاباً عجباً ما بعد القرآن من الكتب السماوية مثله.
قال الحرالي: وفيه إيذان بأن الأمة تختل بعد نبيها بما يصحبها من نوره زمن وجوده معهم، قالوا: ما نفضنا أيدينا من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا...
{إذ قالوا} ولما كان الإخلاف مع الأكابر لا سيما مع الأنبياء أفظع قال: {لنبي لهم} ونكره لعدم مقتض لتعريفه. قال الحرالي: لأن نبيهم المعهود الآمر لهم إنما هو موسى عليه الصلاة والسلام، ومن بعده إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام إنما هم أنبياء بمنزلة الساسة والقادة لهم كالعلماء في هذه الأمة منفذون وعالمون بما أنزل على موسى عليه الصلاة والسلام كذلك كانوا إلى حين تنزيل الإنجيل فكما قص في صدر السورة حالهم مع موسى عليه الصلاة والسلام قص في خواتيمها حالهم من بعد موسى لتعتبر هذه الأمة من ذلك حالها مع نبيها صلى الله عليه وسلم وبعده...
ولما كان عندهم من الغلظة ما لا ينقادون به إلا لإنالة الملك وكان القتال لا يقوم إلا برأس جامع تكون الكلمة به واحدة قالوا: {ابعث لنا} أي خاصة {ملكاً} أي يقيم لنا أمر الحرب {نقاتل} أي عن أمره {في سبيل الله} أي الملك الأعلى.
قال الحرالي: في إعلامه أخذهم الأمر بمنة الأنفس حيث لم يظهر في قولهم إسناد إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا تصح الأعمال إلا بإسنادها إليه فما كان بناء على تقوى تم، وما كان على دعوى نفس انهدّ {قال} أي ذلك النبي {هل} كلمة تنبئ عن تحقيق الاستفهام اكتفي بمعناها عن الهمزة... {عسيتم} أي قاربتم ولما كانت العناية بتأديب السائلين في هذا المهم أكثر قدم قوله: {إن كتب} أي فرض -كذا قالوا، والأحسن عندي كما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة براءة أن يكون المعنى: هل تخافون من أنفسكم، ولما كان القصد التنبيه على سؤال العافية والبعد عن التعرض للبلاء لخطر المقام بأن الأمر إذا وجب لم تبق فيه رخصة فمن قصر فيه هلك وسط بين عسى وصلتها قوله: {عليكم القتال} فرضاً لازماً، وبناه للمفعول صيانة لاسم الفاعل عن مخالفة يتوقع تقصيرهم بها {ألا تقاتلوا} فيوقعكم ذلك في العصيان.
قال الحرالي: بكسر سين عسى وفتحها لغتان، عادة النحاة أن لا يلتمسوا اختلاف المعاني من أوساط الصيغ وأوائلها، وفي فهم اللغة وتحقيقها إعراب في الأوساط والأوائل كما اشتهر إعراب الأواخر عند عامة النحاة، فالكسر حيث كان مبنى عن باد عن ضعف وانكسار، والفتح معرب عن باد عن قوة واستواء... فكأنه صلى الله عليه وسلم فهم أن بعضهم يترك القتال عن ضعف عنه وبعضهم يتركه عن قوة ولذلك نفى الفعل ولم يقل: أن تعجزوا.
قال الحرالي: فأنبأهم بما آل إليه أمرهم فلم يلتفوا عنه وحاجوه وردوا عليه بمثل سابقة قولهم، ففي إشعاره إنباء بما كانوا عليه من غلظ الطباع وعدم سرعة التنبه...
ولما كان مضمون هذا الاستفهام: إني أخشى عليكم القعود عن القتال أعلمنا الله عن جوابهم بقوله: {قالوا} أي لموسى في المخالفة ولما أرشد العطف على غير مذكور أن التقدير: ما يوجب لنا القعود وإنا لا نخاف ذلك على أنفسنا بل نحن جازمون بأنا نقاتل أشد القتال! عطف عليهم قولهم: {وما} أي وأي شيء {لنا} في {ألا نقاتل}.
ولما كانت النفس فيما لله أجد وإليه أنهض قالوا: {في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له إلهاباً وتهييجاً {وقد} أي والحال أنا قد {أخرجنا} أعم من أن يكون مع لإخراج إبعاد أو لا، وبناه للمجهول لأن موجب الإحفاظ والإخراج نفس الإخراج لا نسبة إلى حد بعينه {من ديارنا} التي هي لأبداننا كأبداننا لأرواحنا. ولما كان في {أخرجنا} معنى أبعدنا عطف عليه {وأبنائنا} فخلطوا بذلك ما لله بما لغيره وهو أغنى الشركاء لا يقبل إلا خالصاً.
قال الحرالي: فأنبأ سبحانه وتعالى أنهم أسندوا ذلك إلى غضب الأنفس على الإخراج وإنما يقاتل في سبيل الله من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا...
ولما كان إخلاف الوعد مع قرب العهد أشنع قال: {فلما} بالفاء المؤذنة بالتعقيب {كتب عليهم} أي خاصة {القتال} أي الذي سألوه كما كتب عليكم بعد أن كنتم تمنونه إذ كنتم بمكة كما سيبين إن شاء الله تعالى في النساء عند قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم} [النساء: 77]، {تولوا} فبادروا الإدبار بعد شدة ذلك الإقبال {إلا قليلاً منهم} أي فقاتلوا والله عليم بهم {والله} أي الذي له الإحاطة بكل كمال {عليم} بالمتولين، هكذا كان الأصل ولكنه قال: {بالظالمين} معلماً بأنهم سألوا البلاء وكان من حقهم سؤال العافية، ثم لما أجيبوا إلى ما سألوا أعرضوا عنه فكفوا حيث ينبغي المضاء ومضوا حيث كان ينبغي الكف فعصوا الله الذي أوجبه عليهم، فجمعوا بين عار الإخلاف وفضيحة العصيان وخزي النكوص عن الأقران وقباحة الخذلان للإخوان.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تمهيد في نسبة قصص القرآن إلى التاريخ والفرق بينهما وبيان حال الأمم قبل القرآن وبعده
بدأ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى تفسير هذه الآيات بمقدمة في قصص القرآن جعلها كالتمهيد لتفسيرها فقال ما مثاله مع إيضاح: تقدم في تفسير {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} أن القرآن لم يعين أولئك القوم ولا الزمان ولا المكان اللذين كانوا فيهما (يعني على القول بأنها قصة واقعة لا ضرب مثل كما قال عطاء). ثم ذكر ههنا قصة أخرى عن بني إسرائيل فعين القوم وذكر أنه كان لهم نبي ولم يذكر اسمه ولا الزمان ولا المكان اللذين حدثت فيهما القصة. ولكنه ذكر بعد ذلك اسم طالوت وجالوت وداود.
يظن كثير من الناس الآن ـ كما ظن كثير ممن قبلهم ـ أن القصص التي جاءت في القرآن يجب أن تتفق مع ما جاء في كتب بني إسرائيل المعروفة عند النصارى بالعهد العتيق أو كتب التاريخ القديمة، وليس القرآن تاريخا ولا قصصا، وإنما هو هداية وموعظة، فلا يذكر قصة لبيان تاريخ حدوثها، ولا لأجل التفكه بها أو الإحاطة بتفصيلها، وإنما يذكر ما يذكره لأجل العبرة كما قال {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف: 111) وبيان سنن الاجتماع كما قال {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف عاقبة المكذبين} (غافر: 85) وقال {سنة الله التي قد خلت في عباده} (غافر: 85) وغير ذلك من الآيات.
والحوادث المتقدمة منها ما هو معروف. والله تعالى يذكر من هذا وذاك ما شاء أن يذكر لأجل العبرة والموعظة، فيكتفي من قصة بموضع العبرة ومحل الفائدة، ولا يأتي بها مفصلة بجزئياتها التي لا تزيد في العبرة بل ربما تشغل عنها. فلا غرو أن يكون في هذه القصص التي يعظنا الله بها ويعلمنا سننه ما لا يعرفه الناس، لأنه لم يرو ولم يدون بالكتاب.
وقد اهتدى بعض المؤرخين الراقين في هذه الأزمنة إلى الاقتداء بهذا، فصار أهل المنزلة العالية منهم يذكرون من وقائع التاريخ ما يستنبطون منه الأحكام الاجتماعية وهو الأمور الكلية، ولا يحفلون بالجزئيات لما يقع فيها من الخلاف الذي يذهب بالثقة، ولما في قراءتها من الإسراف في الزمن والإضاعة للعمر بغير فائدة توازيه، وبهذه الطريقة يمكن إيداع ما عرف من تاريخ العالم في مجلد واحد يوثق به ويستفاد منه، فلا يكون عرضة للتكذيب والطعن، كما هو الشأن في المصنفات التي تستقصي الوقائع الجزئية مفصلة تفصيلا.
إن محاولة جعل قصص القرآن ككتب التاريخ بإدخال ما يروون فيها على أنه بيان لها هي مخالفة لسنته، وصرف للقلوب عن موعظته، وإضاعة لمقصده وحكمته. فالواجب أن نفهم ما فيه، ونعمل أفكارنا في استخراج العبر منه. ونزع نفوسنا عما ذمه وقبحه، ونحملها على التحلي بما استحسنه ومدحه، وإذا ورد في كتب أهل الملل أو المؤرخين ما يخالف بعض هذه القصص فعلينا أن نجزم بأن ما أوحاه الله إلى نبيه ونقل إلينا بالتواتر الصحيح هو الحق وخبره هو الصادق، وما خالفه هو الباطل، وناقله مخطئ أو كاذب، فلا نعده شبهة على القرآن، ولا نكلف أنفسنا الجواب عنه، فإن حال التاريخ قبل الإسلام كانت مشتبهة الاعلام، حالكة الظلام، فلا رواية يوثق بها، للمعرفة التامة بسيرة رجال سندها، ولا تواتر يعتد به بالأولى، وإنما انتقل العالم بعد نزول القرآن من حال إلى حال، فكان بداية تاريخ جديد للبشر كان يجب عليهم ـ لو أنصفوا ـ أن يؤرخوا به أجمعين...
أقول إن الذي يسبق إلى الذهن من هذا القول هو أن ما كان من شؤون الأمم وسير العالم بعد الإسلام لم ينطمس ولم تذهب الثقة به، ولم ينقطع سند روايته كما كان قبله. وبيان ذلك بالإجمال أن القرآن قد جاء البشر بهداية جديدة كاملة كانوا قد استعدوا للاهتداء بها بالتدريج الذي هو سنة الله تعالى فيهم، فكان من عمل المسلمين في حفظ العلم والتاريخ العناية التامة بالرواية ما يقبل منها وما لا يقبل، ولذلك ألفوا الكتب في تاريخ الرواة لتعرف سيرتهم، وتبين الصادق والكاذب منهم، وتعرف الرواية المتصلة والمنقطعة، وبحثوا في الكتب المؤلفة متى يوثق بنسبتها إلى مؤلفيها، وبينوا حقيقة التواتر الذي يفيد اليقين، والفرق بينه وبين ما يشتهر من روايات الآحاد، فبهذه العناية لم ينقطع سند لنوع من أنواع العلم التي وجدت في المسلمين، على أن العناية بعلوم الدين أصولها وفروعها كانت أتم، ثم كان شأن من قفى على آثارهم في العلوم والمعارف بعد ضعف حضارتهم على نحو من شأنهم في التصنيف، وإن كان دونهم في ضبط الرواية ونقدها والأمانة فيها، فلم يضع شيء من العلوم والفنون ولا من الحوادث والوقائع التي جرت في العالم بعد الإسلام، وما اختلف الرواة والمصنفون في جزئياته من تاريخ الإسلام وغيره يسهل تصفيته في جملته، وأخذ المصفى منه لأجل الاعتبار به، وعرفان سنن الاجتماع منه، جريا على هدي القرآن فيه.
[و] لقد وصل الراقون في مدارج العمران اليوم إلى درجة يسهل فيها من ضبط جزئيات الوقائع ما لم يكن يسهل على من قبلهم... [بيد] أنه لا سبيل إلى الثقة بجزئيات الوقائع التي تحدث في عصرنا ويعنى المؤرخون أشد العناية بضبطها، إلا ما يبلغ رواته المتفقون عليه مبلغ التواتر الصحيح وقليل ما هو، فما بالك بما كان في الأمم الخالية؟ وجملة القول إن طريقة القرآن في قصص الذين خلوا هي منتهى الحكمة. وما كان لمحمد الأمي الناشئ في تلك الجاهلية الأمية أن يرتقي إليها بفكره، وقد جهلها الحكماء في عصرنا وقبل عصره، ولكنها هداية الله تعالى لعباده أوحاها إلى صفوته منهم صلى الله عليه وسلم: {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} (الأعراف: 43).
فعلينا وقد ظهرت الآية ووضحت السبيل أن نلتفت إلى روايات الغابرين في تلك القصص ولا نعد مخالفتها للقرآن شبهة نبالي بكشفها كما قال الأستاذ الإمام روح الله روحه في مقام الرضوان.
فإن قيل: إن قصص العهدين العتيق والجديد التي يسمى مجموعها (الكتاب المقدس) هي وحي من الله شهد لها القرآن وهي تعارض بعض قصصه
(قلنا): أولا إن تلك الكتب ليس لها أسانيد متصلة متواترة، وثانيا: إن القرآن إنما أثبت أن الله تعالى أعطى موسى عليه السلام التوراة وهي الشريعة وأن أتباعه قد حفظوا منها نصيبا ونسوا نصيبا، وأنهم حرفوا النصيب الذي أوتوه، وأنه أعطى عيسى عليه السلام الإنجيل وهو مواعظ وبشارة وقال في أتباعه مثل ما قال في اليهود (فنسوا حظا مما ذكروا). ويجد القارئ تفصيل هذه الحقائق في تفسير سورة آل عمران والمائدة والأعراف بالنقول من تاريخ الفريقين.
بعد هذا نقول إن وجه الاتصال بين آيات هذه القصة وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها نزلت في شرع القتال لحماية الحقيقة وإعلاء شأن الحق، وبذل المال في هذه السبيل سبيل الله لعزة الأمم ومنعتها وحياتها الطيبة، التي يقع من ينحرف عنها من الأقوام في الهلاك والموت، كما علم من قصة الذين خرجوا من ديارهم فارين من عدوهم على كثرتهم. وهذه القصة ـ قصة قوم من بني إسرائيل ـ تؤيد ما قبلها من حاجة الأمم إلى دفع الهلاك عنها، فهي تمثل لنا حال قوم لهم نبي يرجعون إليه، وعندهم شريعة تهديهم إذا استهدوا، وقد أخرجوا من ديارهم وأبنائهم بالقهر، كما خرج أصحاب القصة الأولى بالجبن، فعلموا أن القتل ضرورة لا بد من ارتكابها ما دام العدوان في البشر، وبعد هذا كله جبنوا وضعفوا عن القتال، فاستحقوا الخزي والنكال. فهذه القصة المفصلة، فيها بيان لما في تلك المجملة: فر أولئك من ديارهم فماتوا بذهاب استقلالهم، واستيلاء العدو على ديارهم. فالآية هناك صريحة في أن موتهم هذا مسبب عن خروجهم فارين بجبنهم، ولم تصرح بسبب إحيائهم الذي تراخت مدته، ولكن ما جاء بعدها من الأمر بالقتال وبذل المال الذي يضاعفه الله تعالى أضعافا كثيرة، قد هدانا إلى سنته في حياة الأمم، وجاءت هذه القصة الإسرائيلية تمثل العبرة فيه، وتفصل كيفية احتياج الناس إليه، إذ بينت أن هؤلاء الناس احتاجوا إلى مدافعة العادين عليهم، واسترجاع ديارهم وأبنائهم من أيديهم، واشتد بالحاجة حتى طلبوا من نبيهم الزعيم الذي يقودهم في ميدان الجلاد، وقاموا بما قاموا به من الاستعداد. ولكن الضعف كان بلغ من نفوسهم مبلغا لم تنفع معه تلك العدة، فتولوا وأعرضوا للأسباب التي أشير إليها، وألهم القليل منهم رشدهم واعتبروا فانتصروا.
والمعنى هل قاربتم أن تحجموا عن القتال إن هو كتب عليكم؟ فعسى للمقاربة أو للتوقع: {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} أي، أي داع لنا يدعونا إلى أن لا نقاتل وقد وجد سبب القتال، وهو إخراجنا من ديارنا بإجلاء العدو إيانا عنها، وأفردنا عن أولادنا بسبيه إياهم واستعباده لهم.
{فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم} ذلك أن الأمم إذا قهرها العدو ونكل بها يفسد بأسها، ويغلب عليها الجبن والمهانة. فإذا أراد الله تعالى إحياءها بعد موتها، ينفخ روح الشجاعة والإقدام في خيارها وهم الأقلون، فيعملون ما لا يعمل الأكثرون، كما علمت من تفسير قوله تعالى: {ثم أحياهم} وما هو منك ببعيد، ولم يكن هؤلاء القوم قد استعد منهم للحياة إلا القليل.
قال الأستاذ الإمام: وفي الآية من الفوائد الاجتماعية أن الأمم التي تفسد أخلاقها وتضعف قد تفكر في المدافعة عند الحاجة إليها وتعزم على القيام بها إذا توفرت شرائطها التي يتخيلونها، ثم إذا توفرت الشروط يضعفون ويجبنون، ويزعمون أنها غير كافية ليعذروا أنفسهم وما هم بمعذورين.
{والله عليم بالظالمين}: الذين يظلمون أنفسهم وأمتهم بترك الجهاد دفاعا عنها وحفاظا لحقها، فهو يجزيهم وصفهم، فيكونون في الدنيا أذلاء مستضعفين، وفي الآخرة أشقياء معذبين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"ألم تر"؟ كأنها حادث واقع ومشهد منظور.. لقد اجتمع الملأ من بني إسرائيل، من كبرائهم وأهل الرأي فيهم -إلى نبي لهم. ولم يرد في السياق ذكر اسمه، لأنه ليس المقصود بالقصة، وذكره هنا لا يزيد شيئا في إيحاء القصة، وقد كان لبني إسرائيل كثرة من الأنبياء يتتابعون في تاريخهم الطويل.. لقد اجتمعوا إلى نبي لهم، وطلبوا إليه أن يعين لهم ملكا يقاتلون تحت إمرته {في سبيل الله}.. وهذا التحديد منهم لطبيعة القتال، وأنه في {سبيل الله} يشي بانتفاضة العقيدة في قلوبهم، ويقظة الإيمان في نفوسهم، وشعورهم بأنهم أهل دين وعقيدة وحق، وأن أعداءهم على ضلالة وكفر وباطل؛ ووضوح الطريق أمامهم للجهاد في سبيل الله...
وهنا نطلع على سمة خاصة من سمات إسرائيل في نقض العهد، والنكث بالوعد، والتفلت من الطاعة، والنكوص عن التكليف، وتفرق الكلمة، والتولي عن الحق البين.. ولكن هذه كذلك سمة كل جماعة لا تنضج تربيتها الإيمانية؛ فهي سمة بشرية عامة لا تغير منها إلا التربية الإيمانية العالية الطويلة الأمد العميقة التأثير. وهي- من ثم -سمة ينبغي للقيادة أن تكون منها على حذر، وأن تحسب حسابها في الطريق الوعر، كي لا تفاجأ بها، فيتعاظمها الأمر! فهي متوقعة من الجماعات البشرية التي لم تخلص من الأوشاب، ولم تصهر ولم تطهر من هذه العقابيل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} استئناف ثان من جملة {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} [البقرة: 243] سيق مساق الاستدلال لجملة {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة: 190] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله: {وقاتلوا في سبيل الله} لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال، حباً للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة، ومصائب المذلة، فضرب الله لهذين الحالين مثلين: أحدهما ما تقدم في قوله: {ألم تر إلى الذين أخرجوا من ديارهم} والثاني قوله: {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل} وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما...
[ف] مناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة،
ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم: {وما لنا ألا نقاتل} إلخ. فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم،
فلله بلاغة هذا الكلام، وبراعة هذا الأسلوب تقديماً وتأخيراً...
وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل، لما فيها من العلم والعبرة، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليماً للأمة بفوائد ما في التاريخ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
كانت الآيات السابقة في الحث على القتال دفاعا عن النفس والحوزة، ورفعا لمنار الحق، وخفضا للباطل، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولبيان أن الاستعداد للجهاد ورد الاعتداء يقتضي البذل والعطاء.
وفي هذه الآيات يقص سبحانه وتعالى قصصا صادقا في وقائعه، وصادقا في حكايته للأمم التي تبتلى بالهزيمة كيف يتفرق أمرها وتذهب وحدتها، وكيف تفعل الهزيمة في قلوب الأكثرين منها، وبيان أن الطريق لجمعها قيادة حكيمة رشيدة، ونفر قليل أو فئة قليلة لم تذهب الهزيمة بنخوتها، ولم يضعف اليأس من بأسها وعزمها. اختار الله سبحانه وتعالى لقصصه الذي جعله عبرة للمعتبرين بني إسرائيل؛ لأنهم اتصلوا بالعرب، ولأن النبوات المعروفة للعالم في عصر نزول القرآن كانت فيهم، ولأنهم يلتقون مع قريش في إبراهيم أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولأنه تتمثل فيهم الطبائع البشرية في عزتها وانتصارها، وفي هزيمتها وانكسارها، وتتمثل في الطبيعة البشرية في لجاجة القول والمغالبة به في حال الضعف والاستخذاء، ونقدهم كل شيء في تلك الحال، وبعدهم عن العمل إلى الخلاف في المقال، وتتمثل فيهم الطبائع البشرية للجماعات المغلوبة عندما يعمل على إنقاذها من لم تنل الهزيمة من قلوبهم، ومن لم يستول الخور على نفوسهم. قص الله سبحانه وتعالى ذلك القصص، ولقد قال سبحانه: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} (يوسف 111) فالمقصود من قصص القرآن العبرة والاعتبار لا سرد وقائع وإمتاع الناس بسردها وتفصيلها عبرة لأولي الألباب، ولذلك يقصد المولى الكريم إلى موضع العبرة فيجليه، وإلى مكان الاستبصار فيبينه، وتلك أقوم السبل، التربية بالتاريخ، والتثقيف بأحوال السابقين.
إن الإنسان ابن الإنسان، فمن يريك صورة للماضي مع العبرة، فهو يريك نفسك مع العظة، والماضي دائما نور يضيء للمستقبل، فهو المصباح الذي يحمله من يبتغي الهداية ويرجوها. و إن في تلك القصة التي ذكرها القرآن الكريم، المنزل من حكيم عليم، عبرة للناس أجمعين، وخصوصا الأمم التي تبتلى بالهزيمة. وقبل أن نخوض في تفسير مفصل، نتكلم بكلام مجمل في القصة...
و (عسى) معناها هنا توقع وقارب، فمعنى هل عسيتم أي: فهل توقعتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؛ أي تومئ حالكم التي يبدو أنكم لا تحاولون تغييرها، مع أن الاستعداد للقتال يوجب تغيير الحال، وأنكم إذا توقعتم ذلك عالجتم حالكم.
أحدهما: أن تكون بمعنى لعل، مثل قوله تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده} (المائدة 52). فالمعنى: لعل الله أن يأتي بالفتح أو أمر، ويكون ما بعدها اسمها، وما يليه خبرها.
و ثانيهما: أن تكون في معنى الفعل توقع أو قارب، وما بعدها يكون في معنى الفاعل، ويصح أن يكون في مقام الاسم إعرابا، وهي هنا بهذا المعنى، كما هي في قوله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم} (محمد 22)...
وكلمة (ملأ) تطلق على أشراف القوم، وأشراف القوم كأنهم هم الذين يملأون حياة الوجود حولهم ولا يستطيع غيرهم أن يزاحمهم. و (الملأ) من أشراف الوجوه والقوم يجلسون للتشاور. لقد اجتمع أشراف بني إسرائيل للتشاور ثم ذهبوا إلى النبي الذي كان معاصرا لهم وقالوا له: ابعث لنا ملكا. ونفهم من ذلك أنه لم يكن لهم ملك. وماذا نستفيد من ذكر وجود نبي لهم وعدم وجود ملك لهم؟ نفهم من ذلك أن النبوة كانت تشرف على نفاذ الأعمال ولا تباشر الأعمال، وأما الملك فهو الذي يباشر الأعمال. ولو كانت النبوة تباشر أعمالا لما طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكا. وسبب ذلك أن الذي يباشر عرضة للكراهية من كثير من الناس وعرضه أن يفشل في تصريف بعض الأمور، فبدلا من أن يوجهوا الفشل للقمة العليا، ينقلون ذلك لمن هو أقل وهو الملك. ولذلك طلبوا من النبي أن يأتي بملك يعيد تصريف الأمور فتكون النبوة مرجعا للحق، ولا تكون موطنا للوم في أي شيء. [و] الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قال لنبي بني إسرائيل: أنتم الذين طلبتم القتال وأنتم الملأ أي أشراف القوم وأتيتم بالعلة الموجبة للقتال وهي أنكم أخرجتم من دياركم وأبنائكم أي بلغ بكم الهوان أنه لم تعد لكم ديار، وبلغ بكم الهوان أنه لم يعد لكم أبناء بعد أن أسرهم عدوكم. إذن علة طلب القتال موجودة، ومع ذلك قال لهم النبي: {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} لقد أوضح لهم نبيهم الشرط وقال: إنني أخاف أن آتي لكم بملك كي تقاتلوا في سبيل الله، وبعد ذلك يفرض الله عليكم القتال، وعندما نأتي للأمر الواقع لا نجد لكم عزما على القتال وتتخاذلون. لكنهم قالوا: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}.. انظر إلى الدقة في قولهم: {في سبيل الله} وتعليق ذلك السبيل على أنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم! لقد أرادوا أن يقلبوا المسألة وأن يقولوا: إن القتال في سبيل الله بعد أن عضتهم التجربة فيما يحبون من الديار والأبناء، إذن فالله هو الملجأ في كل أمر، وقبل سبحانه منهم قولهم، واعتبر قتالهم في سبيله. وانظر إلى التمحيص، إنهم ملأ من بني إسرائيل وذهبوا إلى نبي وقالوا له: ابعث لنا ملكا حتى يجعلوها حربا مشروعة ليقاتلوا في سبيل الله، وقال لهم النبي ما قال وردوا عليه هم: {وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله} يعني وكيف لا نقاتل في سبيل الله؟ وجاء لهم الأمر بالقتال في قوله تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولّوا}
إن قوله: {كتب} لأنهم هم الذي طلبوا تشريع القتال فجعلهم الله داخلين في العقد فجاء التعبير ب {كُتب} ولم يأت ب (كَتبَ)، ومع ذلك تولوا أي أعرضوا عن القتال. لقد كان منهم من لم يعرض عن التكليف بالقتال لكنهم قلة، وهذا تمهيد مطلوب، حتى إذا انحسرت الجمهرة، وانفض الجميع من حولك إياك أن تقول:
(إني قليل)؛ لأن المقاييس ليست بكثرة الجمع، ولكن بنصرة الحق سبحانه وتعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه قصة أخرى من القصص القرآني، الذي أريد به التأكيد على بعض المفاهيم التربوية العامة في الحياة العملية للإنسان، وقد أفاض المفسّرون فيها بما رووه من التفاصيل المتعلّقة بالأشخاص والأحداث والأشياء. ولكنَّنا نتبع الأسلوب القرآني في طريقة تناولنا للقصة، فنجمل في ما أجمل ونفصل في ما فصّل فيه الحديث، لأنَّ القضية في هذه القصة وفي غيرها من القصص هي قضية الفكرة التي توحي بالهدف، لا السرد الذي يدفع إلى أجواء الملهاة، فلا بُدَّ من أن نتناول منها الإنسان النموذج والحدث النموذج، في ما نتناوله من تفاصيلها...
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأ مِن بَنِي إِسْرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} الذين كانوا يشعرون بالفراغ في جانب الواقع الاجتماعي من حولهم، فقد ابتعدوا عن حركة الصراع، وأصبحوا على هامش مواقع القوّة في النّاس، لأنَّ الذي يربح الموقع المتقدّم، هو الذي يقاتل الآخرين الذين يملكون السيطرة الكبيرة بين النّاس، فيفرضون كلمتهم ورأيهم وسلطتهم على الفئات المستضعفة في المجتمع كما هو واقعهم آنذاك ولهذا جاؤوا إلى نبيهم الذي أرسله اللّه إليهم في سلسلة النبوات الرسالية ليتحدّثوا معه حول المستقبل الذي يتطلّعون إليه في حركة القوّة كأصحاب رسالةٍ مفتوحةٍ على قضايا الإنسان والحياة. فقد انطلقت التوراة في عهد موسى، لتكون قاعدة للتشريع والحكمة والحركة والقوّة، ما يجعل القائمين عليها في موقع الامتياز الكبير على المستوى المادي والروحي.