المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (164)

164- واذكر أيضا لهؤلاء اليهود إذ قالت جماعة من صلحاء أسلافهم - لم يقعوا فيما وقع فيه غيرهم - لمن يعظون أولئك الأشرار : لأي سبب تنصحون قوما اللَّه مهلكهم بسبب ما يرتكبون أو معذبهم في الآخرة عذابا شديدا ؟ ! قالوا : وعظناهم اعتذاراً إلى ربكم ، لئلا ننسب إلى التقصير ، ورجاء أن يتقوا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (164)

ثم بين - سبحانه - طوائف هذه القرية وحال كل طائفة فقال تعالى { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .

والذى يفهم من هذه الآية الكريمة ، - وعليه جمهور المفسرين - أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق :

1- فرقة المعتدين في السبت ، المتجاوزين حدود الله عن تعمد وإصرار .

2 - فرقة الناصحين لهم بالانتهاء عن تعديهم وفسوقهم .

3 - فرقة اللائمين للناصحين ليأسهم من صلاح العادين في السبت .

وهذه الفرقة الثالثة هى التي عبر القرآن الكريم عنها بقوله : { وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أى : قالت فرقة من أهل القرية ، لإخوانهم الذين لم يألوا جهدا في نصيحة العادين في السبت ، لم تعظون قوما لا فائدة من وعظهم ولا جدوى من تحذيرهم ، لأن الله تعالى قد قضى باستئصالهم وتطهير الأرض منهم ، أو بتعذيبهم عذاباً شديداً ، جزاء تماديهم في الشر ، وصممهم عن سماع الموعظة فكان رد الناصحين عليهم { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } .

فهم قد عللوا نصيحتهم للعادين بعلتين :

الأولى : الاعتذار إلى الله - تعالى - من مغبة التقصير في واجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .

والثانية : الأمل في صلاحهم وانتفاعهم بالموعظة حتى ينجو من العقوبة ، ويسيروا في طريق المهتدين .

وقيل : إن أهل القرية كانوا فرقتين ، فرقة أقدمت على الذنب فاعتدت في السبت ، وفرقة أحجمت عن الاقدام ، ونصحت المعتدين بعدم التجاوز لحدود الله - تعالى - فلما داومت الفرقة الواعظة على نصيحتها للفرقة العادية ، قالت لها الفرقة العادية على سبيل التهكم والاستهزاء : لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديدا في زعمكم ؟ فأجابتهم الناصحة بقولها .

معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون .

والذى نرجحه أن أهل القرية كانوا ثلاث فرق كما قال جمهور المفسرين - لأن هذا هو الظاهر من الضمائر في الآية الكريمة ، إذ لو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية ( ولعلكم تتقون ) بكاف الخطاب ، بدل قولهم ( ولعلهم يتقون ) الذي يدل على أن المحاورة قد دارت بين الفرقة اللائمة ، والفرقة الناصحة .

قال الإمام القرطبى عند تفسيره الاية الكريمة : إن بنى إسرائيل افترقت ثلاث فرق " فرقة عصت وصدت ، وكانوا ، نحوا من سبعين ألفاً ، فرقة نهت واعتزلت ، وكانوا نحوا من اثنى عشر ألفاً ، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص ، وأن هذه الطائفة هى التي قالت للناهية ، لم تعظون قوما - عصاة - الله مهلكهم ، أو معذبهم على غلبة الظن . وما عهد حينئذ من فعل الله تعالى بالأمم العاصية ؟ ) .

وقوله { مَعْذِرَةً } بالنصب على أنها مفعول لأجله أى : وعظناهم لأجل المعذرة ، أو منصوبة على أنها مصدر لفعل مقدر من لفظها أى : نعتذر معذرة وقرئت " معذرة " بالرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أى : موعظتنا معذرة وقد اختار سيبويه هذا الوجه وقال في تعليله : لأنهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً ولكنهم قيل لهم لم تعظون ؟ فقالوا موعظتنا معذرة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةٞ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابٗا شَدِيدٗاۖ قَالُواْ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ} (164)

جملة : { وإذ قالت أمة منهم } عطف على قوله : { إذ يعدون } [ الأعراف : 163 ] والتقدير : واسألَ بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم ، فإذْ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفاً ، ولها حكم { إذْ } [ الأعراف : 163 ] أختها ، المعطوفة هي عليها ، فالتقدير : واسألهم عن وقت قالت أمة ، أي عن زمنَ قول أمة منهم ، والضمير المجرور بمن عائِد إلى ما عاد إليه ضمير { أسألهم } [ الأعراف : 163 ] وليس عائداً إلى القرية ، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم ، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية ، بل منظوراً إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم ، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم ، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل : { وإذْ قالت أمة } ولم يقل : وقالت أمة .

والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول ، قال المفسرون : إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر ، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من إتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب ، وأمة كانت سادرة في غلوائها ، لا ترعوي عن ضلالتها ، ولا ترقب الله في أعمالها .

وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازاً في الكلام ، اعتماداً على القرينة لأن قولهم : { الله مهلكهم } يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين ، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلاّ بعدَ أن مارسوا أمرهم ، وسبروا غورهم ، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات ، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التقدم لهم بالموعظة ، وبقرينة قوله بعد ذلك { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } إذ جعل الناس فريقين ، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي ، لأنهم ليسوا بظالمين ، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء .

وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظْهم } في سورة النساء ( 63 ) وعند قوله آنفاً { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في هذه السورة ( 145 ) .

واللام في { لمَ تعظون } للتعليم ، فالمستفهم عنه من نوع العلل ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظَ لتحصيلها ، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول إتعاظهم ، والمخاطب ب { تعظون } أمة أخرى .

ووصف القوم بأن الله مهلكهم : مبني على أنهم تحققتْ فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققتْ فيه ، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم ، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين .

واسما الفاعل في قوله : { مهلكهم أو معذبهم } مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام ، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب ، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول ، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما .

وفصلت جملة { قالوا } لوقوعها في سياق المحاورة ، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون بِ { لمَ تعظون قوماً } الخ .

والمعذرة بفتح الميم وكسر الذال مصدر ميمي لفعل ( اعتذر ) على غير قياس ، ومعنى اعتذر أظهر العذر بضم العين وسكون الذال والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير ، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخَذ بذنب ؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه ، أو متأول فيه ، ويقال : عذَره إذا قبل عذره وتحقق براءته ، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ .

وارتفع { معذرة } على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين { لم تعظون } والتقديرُ موعظتنا معذرة منا إلى الله .

وبالرفع قرأه الجمهور ، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة .

وقوله : { ولعلهم يتقون } علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها .

فالمعنى : أن صلحاء القوم كانوا فريقين . فريق منهم أيِس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم ، لتوغلهم في المعاصي ، وفريق لم ينقطع رجاؤُهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار ، فأنكر الفريقُ الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة . واعتذر الفريق الثاني بقولهم : { معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون } فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن . والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعاً بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط ، ليكون لهم عذراً عند الله إن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة ، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه ، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف .