ولكن هذه النصيحة الحكيمة من هذين الرجلين المؤمنين ، لم تصادف من بني إسرائيل قلوبا واعية ، ولا آذانا صاغية بل قابلوها بالتمرد والعناد وكرروا لنبيهم موسى عليه السلام - نفيهم القاطع للإِقدام على دخول الأرض المقدسة ما دام الجبارون فيها فقالوا - كما حكى القرآن عنهم : { ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا } .
أي : قالوا غير عابئين بالنصيحة . بل معلنين العصيان والمخالفة : يا موسى إنا لن ندخل هذه الأرض التي أمرتنا بدخولها في أي وقت من الأوقات ، ما دام أولئك الجبارون يقيمون فيها ، لأننا لا قدرة لنا على مواجهتهم .
وقد أكدوا امتناعهم عن دخول هذه الأرض في هذه المرة بثلاث مؤكدات ، هي : إن ، ولن ، وكلمة أبدا .
أي : لن ندخلها بأي حال من الأحوال ما دام الجبارون على قيد الحياة ويسكنون فيها .
ثم أضافوا إلى هذا القول الذي يدل على جبنهم وخورهم ، سلاطة في اللسان ، وسوء أدب في التعبير ، وتطاولا على نبيهم فقالوا : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .
أي : إذا كان دخول هذه الأرض يهمك أمره ، فاذهب أنت وربك لقتال سكانها الجبابرة وأخرجاهم منها لأنه - سبحانه - ليس ربا لهم - في زعمهم - إن كانت ربوبيته تكلفهم قتال سكان تلك الأرض .
وقولهم : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } تأكيد منهم لعدم دخولهم لتلك الأرض المقدسة .
أي : إنا ها هنا قاعدون في مكاننا لن نبرجه ، ولن نتقدم خطوة إلى الأمام لأن كل مجد وخير يأتينا عن طريق قتال الجبارين فنحن في غنى عنه ، ولا رغبة لنا فيه .
وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم ، ليدل على الخسة وسقوط الهمة ، لأن القعود في وقت وجوب النشاط للعمل الصالح يؤدي بصاحبه إلى المذمة ، والمذلة ، قال - تعالى - ذمٍّا لأمثالهم : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } قال الآلوسي ما ملخصه : وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا } قالوا ذلك استهانة واستهزاء به - سبحانه - وبرسوله موسى وعدم مبالاة . وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم ، وقسوة قلوبهم والمقابلة : { إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } .
ولم يذكروا أخه هارون ولا الرجلين اللذين قالا ، كأنهم لم يجزموا بذهابهم ، أو يعبأوا بقتالهم وأرادوا بالعقود عدم التقدم لا عدم التأخر ثم قصت علينا السورة الكريمة أن موسى - عليه السلام -
ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى : و { قالوا يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون } وهذه عبارة تقتضي كفراً ، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وقولهم { فقاتلا } يقطع بهذا التأويل ، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى » وكان معظماً في بني إسرائيل محبباً لسعة خلقه ورحب صدره ، فكأنهم قالوا اذهب انت وكبيرك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تأويل بعيد ، وهارون إنما كان وزيراً لموسى وتابعاً له في معنى الرسالة ، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر ، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية ، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود : لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون » لكنا نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون .
وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : وجميع هذا وهم ، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة ، وغلط النقاش في قائل المقالة ، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذفران فكلم الناس وقال لهم : أشيروا عليَّ أيها الناس ، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية .
قال القاضي أبو محمد : وتمثل المقداد بها وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى ، وُيؤنس أيضاً في إيمان بني إسرائيل ، لأن المقداد قد قال : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره ، فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك ، أي اذهب أنت ، ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها ، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها ، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها .
إنّما خاطبوا موسى عقبَ موعظة الرجلين لهم ، رجوعاً إلى إبايتِهم الأولى الّتي شافهوا بها موسى إذ قالوا : { إنّ فيها قوماً جبّارين } ، أو لقلّة اكتراثهم بكلام الرجلين وأكّدوا الامتناع الثّاني من الدخول بعد المحاورة أشدّ توكيد دلّ على شدّته في العربيّة بثلاث مؤكدات : ( إنّ ) ، و ( لن ) ، وكلمة ( أبداً ) .
ومعنى قولهم : { فاذهب أنت وربّك فقاتلا } إن كان خطاباً لموسى أنّهم طلبوا منه معجزة كما تعوّدوا من النصر فطلبوا أن يهلك الله الجبّارين بدعوة موسى . وقيل : أرادوا بهذا الكلام الاستخفاف بموسى ، وهذا بعيد ، لأنّهم ما كانوا يشكّون في رسالته ، ولو أرادوا الاستخفاف لكفروا وليس في كلام موسى الواقع جواباً عن مقالتهم هذه إلاّ وصفهم بالفاسقين . والفسق يطلق على المعصية الكبيرة ، فإنّ عصيان أمر الله في الجهاد كبيرة ، ولذلك قال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين ، وعن عبد الله بن مسعود قال : أتى المقدادُ بن الأسود النبيءَ وهو يدعو على المشركين يوم بدر فقال : « يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل » { فاذْهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون } الحديث .
فَلا تَظُنَّنّ من ذلك أنّ هذه الآية كانت مقروءة بينهم يوم بدر ، لأنّ سورة المائدة من آخر ما نزل ، وإنّما تكلّم المقداد بخبر كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يُحدّثهم به عن بني إسرائيل ، ثم نزلت في هذه الآية بذلك اللّفظ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.