ثم قال - تعالى - : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما ذكر في الآية المتقدمة أن الشيطان يعد بالفقر ويأمر بالفحشاء ، وأن الرحمن يعد بالمغفرة والفضل نبه على أن الأمر الذي أوجب لأجله ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أن وعد الرحمن ترجحه الحكمة والعقل ووعد الشيطان ترجحه الشهوة والنفس من حيث إنهما يأمران بتحصيل اللذة الحاضرة واتباع أحكام الخيال والوهم .
ولا شك أن حكم الحكمة والعقل هو الحكم الصادق المبرأ عن الزيغ والخلل ، وحكم الشهوة والنفس يوقع الإنسان في البلاء ، فكان حكم الحكمة والعقل أولى بالقبول ، فهذا هو وجه النظم " .
و { الْحِكْمَةَ } مشتقة من حكم بمعنى منع ، لأنها تمنع صاحبها من الوقوع في الخطأ والضلال ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس وحكمة لأنها تمنعه من الجموح . أو هي في الأصل مصدر من الإِحكام وهو الإِتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها .
والحكمة بالنسبة للإِنسان صفة نفسية هي أساس المعرفة السليمة التي توافق الحق ، وتوجه الإِنسان نحو عمل الخير ، وتمنعه من عمل الشر ، فهي فيه مانعة ضابطة تسير به نحو الكمال والاستقامة .
وللعلماء في المراد بها في الآية الكريمة أقوال كثيرة أرجحها أن المراد بها إصابة الحق في القول والعمل ، أو هي العلم النافع الذي يكون معه العمل به .
والمعنى : أن الله - تعالى - الفاعل لكل شيء يؤت الحكمة لمن يشاء من عباده { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } لأن الإِنسان إذا أوتي الحكمة يكون قد اهتدى إلى العلم النافع ، وإلى العمل الصالح الموافق لما علمه ، وإلى الإِيمان بالحق وإلى الاستجابة لكل خير والابتعاد عن كل شر ، وبذل كيكون سعيداً في دنياه وأخراه .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا حسد - أي لا غبطة - إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل آتاه الله - تعالى - الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها " .
ثم قال - تعالى - : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } .
والألباب جمع لب وهو في الأصل خلاصة الشيء وقلبه ، وأطلق هنا على عقل الإِنسان لأنه أنفع شيء فيه .
والمراد بأولى الألباب هنا أصحاب العقول السليمة التي تخلصت من شوائب الهوى ، ودوافع الشر ، فقد جرت عادة القرآن ألا يستعمل هذا التعبير إلا مع أصحاب العقول المستقيمة .
أي : وما يتعظ بهذه التوجيهات القرآنية ، وينتفع بثمارها إلا أصحاب العقول الراجحة والنفوس الصافية التي اهتدت إلى الحق وعملت به ، والتي أنفقت في سبيل الله أجود الأموال وأطيبها لا أصحاب العقول الفاسدة التي استحوذ عليها الشيطان فأنساها ذكر الله ، والتي ترى أن البخل بالمال هو الحكمة ، وأن الإِنفاق في سبيل الله هو نوع من الإِسراف والتبذير .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به مدح أولئك المؤمنين الصادقين ، الذين استجابوا لتوجيهات دينهم ، فأصابوا الحق في أقوالهم وأعمالهم .
{ يؤتي الحكمة } تحقيق العلم وإتقان العلم . { من يشاء } مفعول أول أخر للاهتمام بالمفعول الثاني { ومن يؤت الحكمة } بناؤه للمفعول لأنه المقصود . وقرأ يعقوب بالكسر أي ومن يؤته الله الحكمة . { فقد أوتي خيرا كثيرا } أي : خير كثير ؟ إذ حيز له خير الدارين . { وما يذكر } وما يتعظ بما قص من الآيات ، أو ما يتفكر ، فإن المتفكر كالمتذكر لما أودع الله في قلبه من العلوم بالقوة . { إلا أولو الألباب } ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم والركون إلى متابعة الهوى .
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ( 269 )
ثم أخبر تعالى عن نفسه أنه { يؤتي الحكمة } أي يعطيها لمن يشاء من عباده ، واختلف المتأولون في { الحكمة } في هذا الموضع فقال السدي : { الحكمة } النبوءة ، وقال ابن عباس : هي المعرفة بالقرآن فقهه ونسخه ومحكمه ومتشابهه وعربيته . وقال قتادة : { الحكمة } الفقه في القرآن ، وقاله مجاهد : وقال مجاهد أيضاً : { الحكمة } الإصابة في القول والفعل ، وقال ابن زيد وأبوه زيد بن أسلم : { الحكمة } العقل في الدين ، وقال مالك : { الحكمة } المعرفة في الدين والفقه فيه والاتباع له ، وروى عنه ابن القاسم أنه قال : { الحكمة } التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضاً { الحكمة } طاعة الله والفقه في الدين والعمل به ، وقال الربيع : { الحكمة } الخشية( {[2650]} ) ، ومنه قول النبي عليه السلام : «رأس كل شيء خشية الله تعالى »( {[2651]} ) ، وقال إبراهيم : { الحكمة } الفهم وقاله زيد بن أسلم ، وقال الحسن : { الحكمة } الورع ، وهذه الأقوال كلها ما عدا قول السدي قريب بعضها من بعض لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول .
وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة . وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس . وقرأ الجمهور «من يؤت الحكمة » على بناء الفعل للمفعول . وقرأ الزهري ويعقوب «ومن يؤت » بكسر التاء على معنى ومن يؤت الله الحكمة { فمن } مفعول أول مقدم و { الحكمة } مفعول ثان ، وقرأ الأخفش : «ومن يؤته الحكمة » ، وقرأ الربيع بن خثيم «تؤتي الحكمة من تشاء » بالتاء في «تؤتي » و «تشاء » منقوطة من فوق ، «ومن يؤت الحكمة » بالياء ، وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة ، والألباب العقول واحدها لب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.