ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين ، وما أعده من ثواب للطائعين ، فقال - تعالى - :
{ إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ . . . } .
قال الإِمام الرازي : " اعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلائل على صحة القول بإثبات الإِله القادر الرحيم الحكيم ، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر ، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها " .
والمراد بلقائه - سبحانه - الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء . والمعنى : إن الذين لا يرجون ولا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم في الدنيا { وَرَضُواْ بالحياة الدنيا } رضاء جعلهم لا يفكرون إلا في التشبع من زينتها ومتعها ، وأطمأنوا بها ، اطمئنانا صيرهم يفرحون بها ويسكنون إليها { والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا } التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا { غافلون } بحيث لا يخطر على بالهم شيء مما يدل عليه هذه الآيات من عبر وعظات .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هؤلاء الأشقياء بأربع صفات ذميمة .
وصفهم - أولا - بعدم الرجاء في لقاء الله - بأن صاروا لا يطمعون في ثواب ، ولا يخافون من عقاب ، لإِنكار الدار الآخرة .
ووصفهم - ثانيا - بأنهم رضوا بالحياة الدنيا ، بأن أصبح همهم محصورا فيها ، وفي لذائذها وشهواتها .
قال الإِمام الرازي : " واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن اللذات الروحانية ، وفراغه عن طلب السعادات الحصالة بالمعارف الربانية ، وأما هخذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى من استغرقه الله في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها ، واستغراقه في طلبها " .
ووصفهم - ثالثا - بأنهم اطمأنوا بهذه الحياة ، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه ، فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله ، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير ، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا .
ووصفهم - رابعا - بالغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب ، وتهدي العقل ، وتحفز النفس إلى التفكير والتدبير .
وبالجملة فهذه الصفات الأربعة تدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الأشقياء قد آثروا دنياهم على أخراهم ، واستحبوا الضلالة على الهدى ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير .
يقول الله تعالى مخبرًا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقاء الله شيئا ، ورضوا بهذه الحياة الدنيا{[14071]} واطمأنت إليها أنفسهم .
قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها ، حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله الكونية فلا يتفكرون فيها ، والشرعية فلا يأتمرون بها ، بأن مأواهم يوم معادهم النار ، جزاء على ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام ، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر .
هذا استئناف وعيد للذين لم يؤمنوا بالبعث ولا فكروا في الحياة الآخرة ولم ينظروا في الآيات نشأ عن الاستدلال على ما كفروا به من ذلك جمعاً بين الاستدلال المناسب لأهل العقول وبين الوعيد المناسب للمعرضين عن الحق إشارة إلى أن هؤلاء لا تنفعهم الأدلة وإنما ينتفع بها الذين يعلمون ويتقون وأما هؤلاء فهم سادرون في غُلوائهم حتى يلاقوا العذاب . وإذ قد تقرر الرجوع إليه للجزاء تأتَّى الوعيد لمنكري البعث الذين لا يرجون لقاء ربهم وَالمصيرَ إليه .
ولوقوع هذه الجملة موقع الوعيد الصالح لأن يعلمه الناس كلهم مؤمنهم وكافرهم عدل فيها عن طريقة الخطاب بالضمير إلى طريقة الإظهار ، وجيء بالموصولية للإيماء إلى أن الصلة علة في حُصول الخبر .
وقد جُعل عنوان الذين لا يرجون لقاءنا علامة عليهم فقد تكرر وقوعه في القرآن . ومن المواقع ما لا يستقيم فيه اعتبار الموصولية إلا للاشتهار بالصلة كما سنذكر عند قوله تعالى : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا } في هذه السورة [ 15 ] .
والرجاء : ظن وقوع الشيء من غير تقييد كون المظنون محبوباً وإن كان ذلك كثيراً في كلامهم لكنه ليس بمتعيّن . فمعنى : { لا يرجون لقاءنا } لا يظنونه ولا يتوقعونه .
ومعنى : { رضوا بالحياة الدنيا } أنهم لم يعملوا النظر في حياة أخرى أرقى وأبقى لأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بأنها كافية يصرف النظر عن أدلة الحياة الآخرة ، وأهل الهدى يرون الحياة الدنيا حياةً ناقصة فيشعرون بتطلب حياة تكون أصفى من أكدارها فلا يلبثون أن تطلع لهم أدلة وجودها ، وناهيك بإخبار الصادق بها ونصب الأدلة على تعيّن حصولها ، فلهذا جعل الرضى بالحياة الدنيا مذمة ومُلقياً في مهواة الخسران .
وفي الآية إشارة إلى أن البهجة بالحياة الدنيا والرضى بها يكون مقدارُ التوغل فيهما بمقدار ما يصرف عن الاستعداد إلى الحياة الآخرة . وليس ذلك بمقتض الإعراض عن الحياة الدنيا فإن الله أنعم على عباده بنعم كثيرة فيها وجب الاعتراف بفضله بها وشكره عليها والتعرف بها إلى مراتب أعلى هي مراتب حياة أخرى والتزود لها . وفي ذلك مقامات ودرجات بمقدار ما تهيأت له النفوس العالية من لذات الكمالات الروحية ، وأعلاها مقام قول النبي صلى الله عليه وسلم « فقلتُ ما لي وللدنيا » والاطمئنان : السكون يكون في الجسد وفي النفس وهو الأكثر ، قال تعالى : { يأيتها النفس المطئنة } [ الفجر : 27 ] . وقد تقدم تصريف هذا الفعل عند قوله تعالى : { ولكن ليطمئن قلبي } في سورة [ البقرة : 260 ] .
ومعنى { اطمئنوا بها } سكنت أنفسهم وصرفوا هممهم في تحصيل منافعها ولم يسعوا لتحصيل ما ينفع في الحياة الآخرة ، لأن السكون عند الشيء يقتضي عدم التحرك لغيره .
وعن قتادة : إذا شئت رأيت هذا الموصوفَ صاحب دنيا ، لها يرضى ، ولها يغضب ، ولها يفرح ، ولها يهتم ويحزن .
والذين هم غافلون هم عين الذين لا يرجون اللقاء ، ولكن أعيد الموصول للاهتمام بالصلة والإيماء إلى أنها وحدها كافية في استحقاق ما سيذكر بعدها من الخبر . وإنما لم يعد الموصول في قوله : { ورضوا بالحياة الدنيا } لأن الرضى بالحياة الدنيا من تكملة معنى الصلة التي في قوله : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } .
والمراد بالغفلة : إهمال النظر في الآيات أصلاً ، بقرينة المقام والسياق وبما تومىء إليه الصلة بالجملة الاسمية { هم عن آياتنا غافلون } الدالة على الدوام ، وبتقديم المجرور في قوله { عن آياتنا غافلون } من كون غفلتهم غفلة عن آيات الله خاصة دون غيرها من الأشياء فليسوا من أهل الغفلة عنها مما يدل مجموعه على أن غفلتهم عن آيات الله دأب لهم وسجية ، وأنهم يعتمدونها فتؤول إلى معنى الإعراض عن آيات الله وإباء النظر فيها عناداً ومكابرة . وليس المراد مَن تعرِض له الغفلة عن بعض الآيات في بعض الأوقات .
وأعقب ذلك باسم الإشارة لزيادة إحضاء صفاتهم في أذهان السامعين ، ولما يؤذن به مجيء اسم الإشارة مبتدأ عقب أوصاف من التنبيه على أن المشار إليه جدير بالخبر من أجْل تلك الأوصاف كقوله تعالى : { أولئك على هدى من ربهم } في سورة [ البقرة : 5 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.