المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

20- واذكر - أيها الرسول - حينما قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا بالشكر والطاعة نعم الله عليكم ، حيث اختار منكم أنبياء كثيرين ، وجعلكم أعزة كالملوك ، بعد أن كنتم أذلاّء في مملكة فرعون ، ومنحكم من النعم الأخرى ما لم يؤت أحداً غيركم من العالمين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ . . . }

هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد ، وعزيمة خوارة ، وعصيان لرسلهم . وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهي تحكي بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة ، وملخص هذه القصة :

أن بني إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى - عليه السلام - إلى بلاد الشام ، عقب غرق فرعون أمام أعينهم . أوحى الله - تعالى - إلى موسى أن يختار من قومه اثني عشر نقيبا ، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التي كان يسكنها الكنعانيون حينئذ . ليتحسسوا أحوال سكانها ، وليعرفوا شيئا من أخبارهم .

وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } ولقد نفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به ربه - سبحانه - ، وكان مما قاله موسى للنقباء عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة : " لا تخبروا أحد سواي عما ترونه " .

فلما دخل النقباء الأرض المقدسة ، واطلعوا على أحوال سكانها . وجدوا منهم قوة عظيمة ، وأجساما ضخمة . . فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له - وهو في جماعة من بني إسرائيل - : قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها ، فإذا هي في الحقيقة تدر لبنا وعسلا ، وهذا شيء من ثمارها ، غير أن الساكنين فيها أقوياء ، ومدينتهم حصينة . وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال . إلا اثنين منهم ، فإنما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى - عليه السلام - وبقتال الكنعانيين معه . ولكن بني إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين ، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة " وأصروا على عدم الجهاد ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في مصر أو في هذه البرية .

وحاول موسى - عليه السلام - أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ؛ ولكنهم عموا وصموا .

وأوحى الله - تعالى - إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم .

هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت في كتب التفسير والتاريخ . وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين - الذين ورد ذكرهم في الآيات الكريمة - لا تقبلها العقول السليمة ، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هي مما يستحي من ذكره كما قال ابن كثير .

هذا ، وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم ، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق .

و ( إذا ) ظرف للزمن الماضي بمعنى وقت .

وهو مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام ، تقديره اذكر . وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات .

أي : واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك ، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإِرشاد : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . أي : تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة .

والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب .

قال أبو السعود : وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت ، دون ما وقع فيه من حوادث ، - مع أنها هي المقصودة ، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا .

وفي قول موسى لهم - كما حكى القرآن عنه - : { يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } تلطف معهم في الخطاب ، وحمل لهم على شكر النعمة ، واستعمالها فيما خلقت له لكي يزيدهم الله منها . وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم ، يهمه ما يهمهم ، ويسعده ما يسعدهم ، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم .

وقوله - تعالى - : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم .

أما النعمة الأولى : فهي جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، - عليهم السلام - . وقد أرسل الله - تعالى - هؤلاء الأنبياء وغيرهم في بني إسرائيل ، لكي يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والطاعة والإِيمان .

والتنكير في قوله { أَنْبِيَآءَ } للتكثير والتعظيم . أي : تذكروا يا بني إسرائيل نعم الله عليكم ، وأحسنوا شكرها ، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد .

قال صاحب الكشاف : " لم يبعث الله في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء " .

وأما النعمة الثانية : فهي جعلهم ملوكا . أي : جعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه ، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب .

أي : جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم ، بعد أن كنتم لا تملكون شيئاً من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه .

قال الآلوسي : " أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك زوجة تأوى إليها ؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال الرجل : فإن لي خادما . قال عبد الله : فأنت من الملوك " .

واخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا " .

وهذه النعمة - أي : نعمة الحرية بعد الذل ، والسعة بعد الضيق - من النعم العظمى التي لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، التي تعاف الظلم ، وتأبى الضيم ، وتحسن الشكر لله - تعالى - .

قال صاحب الانصاف : فإن قلت : فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء ، كما قال : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ؟ قلت : لأن النبوة مزية غير الملك . وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا ، ولا كذلك النبوة ، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها ، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك .

وأما النعمة الثالثة : فهي أنه - سبحانه - : آتاهم من ألوان الإِكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم . فقد فلق لهم البحر فساروا في طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم . وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات ، وفجر لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم . . إلى غير ذلك من ألوان النعم التي حباهم الله - تعالى - بها ، والتي كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه .

قال الآلوسي : و " أل " في { العالمين } للعهد : والمراد عالمي زمانهم . أو للاستغراق والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه ، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل : وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية ، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل ، فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم .

وبعد هذا التذكير بالنعم ، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال - كما حكى القرآن عنه : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام ، فيما ذكر به قومه نعَمَ الله عليهم وآلاءه لديهم ، في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ } أي : كلما هلك نبي قام فيكم نبي ، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده . وكذلك{[9485]} كانوا ، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته ، حتى ختموا بعيسى ، عليه السلام ، ثم أوحى الله [ تعالى ]{[9486]} إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله ، المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم ، عليه{[9487]} السلام ، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال : الخادم والمرأة والبيت .

وروى الحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري أيضا ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : المرأة والخادم { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : الذين هم بين ظَهرانيهِم يومئذ ، ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين{[9488]} ولم يخرجاه . {[9489]}

وقال ميمون بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة{[9490]} والخادم والدار{[9491]} سمي مَلِكًا .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وَهْب ، أنبأنا أبو هانئ ؛ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا{[9492]} من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . فقال : إن لي خادما . قال{[9493]} فأنت من الملوك . {[9494]}

وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار ؟

رواه ابن جرير . ثم روي عن منصور والحكم ، ومجاهد ، وسفيان الثوري نحوًا من هذا . وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران .

وقال ابن شَوْذَب : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم ، واستؤذن عليه ، فهو ملك .

وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم .

وقال السُّدِّي في قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال : يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لَهِيعَة ، عن دَرَاج ، عن أبي الهَيْثَم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة ، كُتِب ملكا " . {[9495]}

وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقال ابن جرير : حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا أبو ضَمْرَة أنس بن عياض ، [ قال ]{[9496]} سمعت زيد بن أسلم يقول : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان له بيت وخادم فهو ملك " .

وهذا مرسل غريب . {[9497]} وقال مالك : بيت وخادم وزوجة .

وقد ورد{[9498]} في الحديث : " من أصبح منكم مُعَافى{[9499]} في جسده ، آمنا في سِربه ، عنده قُوت يومه ، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها " . {[9500]}

وقوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني عالمي زمانكم ، فكأنهم{[9501]} كانوا أشرف{[9502]} الناس في زمانهم ، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم ، كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الجاثية : 16 ] وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 - 140 ]

والمقصود : أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم ، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم ، وأفضل عند الله ، وأكمل شريعة ، وأقوم منهاجا ، وأكرم نبيا ، وأعظم ملكا ، وأغزر أرزاقا ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأوسع مملكة ، وأدوم عزا ، قال الله [ عز وجل ]{[9503]} { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها ، عند الله ، عند قوله عز وجل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } من{[9504]} سورة آل عمران .

وروى ابن جرير عن ابن عباس ، وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } مع هذه الأمة . والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا .

وقيل : المراد : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني بذلك : ما كان تعالى نزله{[9505]} عليهم من المن والسلوى ، وتَظلَّلهم{[9506]} من الغمام وغير ذلك ، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات ، فالله{[9507]} أعلم .


[9485]:في أ: "ولذلك".
[9486]:زيادة من ر.
[9487]:في أ: "عليهما".
[9488]:في د: "على شرطهما".
[9489]:الحاكم في المستدرك (2/311، 312).
[9490]:في د: "المرأة".
[9491]:في ر، أ: "المرأة".
[9492]:في ر: "ألست"، وفي د: "أنا من الفقراء".
[9493]:في أ: "فقال".
[9494]:تفسير الطبري (10/163).
[9495]:وفي إسناده ابن لهيعة ودراج ضعيفان ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.
[9496]:زيادة من أ.
[9497]:تفسير الطبري (10/161).
[9498]:في أ: "روي".
[9499]:في: "معافا".
[9500]:رواه الترمذي في السنن برقم (2346) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (4141) من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري.
[9501]:في أ: "فإنهم".
[9502]:في ر: "أشراف".
[9503]:زيادة من ر، وفي أ: "تعالى".
[9504]:في أ: "في".
[9505]:في أ: "ينزله".
[9506]:في أ: "ويظللهم".
[9507]:في أ: "والله".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

عطف القصة على القصص والمواعظ . وتقدّم القول في نظائر { وإذ قال } في مواضع منها قوله تعالى : { وإذ قال ربّك للملائكة } في البقرة ( 30 ) .

ومناسبة موقع هذه الآيات هنا أنّ القصة مشتملة على تذكير بنعم الله تعالى عليهم وحثّ على الوفاء بما عاقدوا الله عليه من الطاعة تمهيداً لطلب امتثالهم .

وقدّم موسى عليه السلام أمره لبني إسرائيل بحرب الكنعانيين بتذكيرهم بنعمة الله عليهم ليُهيّىء نفوسهم إلى قبول هذا الأمر العظيم عليهم وليُوثقهم بالنصر إن قاتلوا أعداءهم ، فذكر نعمة الله عليهم ، وعَدّ لهم ثلاث نعم عظيمة :

أولاها : أنّ فيهم أنبياء ، ومعنى جَعْل الأنبياء فيهم فيجوز أن يكون في عمود نسبهم فيما مضى مثل يوسف والأسباط وموسى وهارون ، ويجوز أن يراد جعل في المخاطبين أنبياءَ ؛ فيحتمل أنّه أراد نفسه ، وذلك بعد موت أخيه هارون ، لأنّ هذه القصّة وقعتْ بعد موت هارون ؛ فيكون قوله { أنبياءَ } جمعاً أريد به الجنس فاستوى الإفراد والجمع ، لأنّ الجنسية إذا أريدت من الجمع بطلت منه الجمعية ، وهذا الجِنس انحصر في فرد يومئذٍ ، كقوله تعالى { يحكم بها النبيئون الذين أسلموا للذين هادوا } [ المائدة : 44 ] يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أو أراد من ظهر في زمن موسى من الأنبياء . فقد كانت مريم أخت موسى نبيئة ، كما هو صريح التوراة ( إصحاح 15 من الخروج ) . وكذلك ألْدَاد ومَيْدَاد كانا نبيئين في زمنَ موسى ، كما في التّوراة ( إصحاح11 سفر العدد ) . وموقع النعمة في إقامة الأنبياء بينهم أنّ في ذلك ضمانَ الهدى لهم والجري على مراد الله تعالى منهم ، وفيه أيضاً حسن ذكر لهم بين الأمم وفي تاريخ الأجيال .

والثانية : أنْ جعلهم ملوكاً ، وهذا تشبيه بليغ ، أي كالملوك في تصرّفهم في أنفسهم وسلامتهم من العبوديّة الّتي كانت عليهم للقبط ، وجعلهم سادة على الأمم التي مرّوا بها ، من الآموربين ، والعَناقيين ، والحشبونيين ، والرفائيين ، والعمالقة ، والكنعانيين ، أو استعمل فعل { جعلكم } في معنى الاستقبال مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] قصداً لتحقيق الخبر ، فيكون الخبر بشارة لهم بما سيكون لهم .

والنعمة الثالثة : أنّه آتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين ، ومَا صدقُ ( ما ) يجوز أن يكون شيئاً واحداً ممّا خَصّ الله به بني إسرائيل ، ويجوز أن يكون مجموع أشياء إذ آتاهم الشريعة الصحيحة الواسعة الهدى المعصومة ، وأيّدهم بالنّصر في طريقهم ، وساق إليهم رزقَهُم المنّ والسلوى أربعين سنة ، وتولّى تربية نفوسهم بواسطة رُسله .