المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

16- وهؤلاء إذ اختاروا الضلالة بدل الهداية كانوا كالتاجر الذي يختار لتجارته البضاعة الفاسدة الكاسدة فلا يربح في تجارته ، ويضيع رأس ماله ، وهم في عملهم غير مهتدين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

ثم بين - سبحانه - لونا من ألوان غبائهم وبلادتهم فقال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } .

الاشتراء : أخذ السلعة بالثمن . والمراد : أنهم استبدلوا ما كره الله من الضلالة بما أحبه من الهدى قال ابن عباس : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .

والمشار إليه ب " أولئك " هم المنافقون : الموصوفون في الآيات السابقة بالكذب والمخادعة ، والإِفساد في الأرض ، ورمى المؤمنين بالسفاهة واستهزائهم بهم .

والسر في الإِشارة والتعبير عنهم بأولئك تمييزهم وتوضيحهم بأكمل صورة وأجلى بيان إذ من المعروف عند علماء البلاغة أن اسم الإِشارة إذا أشير به إلى أشخاص وصفوا بصفات يلاحظ فيه تلك الصفات ، فهو بمنزلة إعادة ذكرها وإحضارها في أذهان المخاطبي . فتكون تلك الصفات ، وهي هنا الكذب والمخادعة وما عطف عليها ، كأنها ذكرت في هذه الآية مرة أخرى ليعرف بها علة الحكم الوادر بعد اسم الإِشارة ، وهو هنا اشتراء الضلالة بالهدى . أي : اختيارها . واستبدالها به .

وعبرت الآية بالاشتراء على سبيل الاستعارة ليتحدد مقدار رغبتهم في الضلالة ، وزهدهم في الهدى ، فإن المشتري في العادة يكون شديد الرغبة فيما يشتري ، رغبة تجعله شديد الزهد فيما يبذله من ثمن . فهم راغبون في الضلالة ، زاهدون في الهدى .

وقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } لا يقتضي أنهم كانوا على هدى من ربهم فتركوه ، بل يكفي فيه أن يجعل تمكنهم من الهدى لقيام أدلته . بمنزلة الهدى الحاصل بالفعل .

ثم بين سبحانه نتيجة أخذه الضلالة وتركهم الهدى فقال : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } أي : أنهم لم يحصلوا من اشترائهم الضلالة بالهدى على الربح ، وإذا كانت التجارة الحقيقة قد يفوت صاحبها الربح ، ولكنه لا يقع في خسارة بأن يبقى له رأس ماله محفوظاً ، فإن التجارة المقصودة من الآية هي استبدال الضلالة بالهدى ، لا يقابل الربح فيها إلا الخسران ، فإذا نفى عنها الربح فذلك يعني أنها تجارة خاسرة .

ثم قال - تعالى - : { وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي : وما كانوا مهتدين إلى سبيل الرشاد وما تتجه إليه العقول الراجحة من الدين الحق ، وما كانوا مهتدين إلى طرق التجارة الرابحة ، فهم أولا لم يربحوا في تجارتهم بل خسروها ، وهم ثانياً ذهب نور الهدى من حولهم فبقوا في ظلمة الضلال . وما أوجع أن يجتمع على التاجر خسارته وتورطه ، وما أوجع أن يجتمع عليه أن ينقطع عن غايته ، وأن يكون في ظلمة تعوقه عن التبصر .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

قال السدي في تفسيره ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مُرّة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى .

وقال [ محمد ]{[1293]} بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي : الكفر بالإيمان .

وقال مجاهد : آمنوا ثمّ كفروا .

وقال قتادة : استحبوا الضلالة على الهدى [ أي : الكفر بالإيمان ]{[1294]} . وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [ فصلت : 17 ]{[1295]} .

وحاصل قول المفسرين فيما تقدم : أن المنافقين عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال ، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، وهو معنى قوله تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي بذلوا الهدى ثمنا للضلالة ، وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الإيمان ثم رجع عنه إلى الكفر ، كما قال تعالى فيهم : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ } [ المنافقون : 3 ] ، أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى ، كما يكون{[1296]} حال فريق آخر منهم ، فإنهم أنواع وأقسام ؛ ولهذا قال تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، { وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } أي : راشدين في صنيعهم ذلك .

قال{[1297]} ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قد - والله - رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة . وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن زُرَيْع ، عن سعيد ، عن قتادة ، بمثله سواء .

/خ20


[1293]:زيادة من جـ.
[1294]:زيادة من طـ.
[1295]:في هـ: "فأما" وهو خطأ.
[1296]:في جـ، ط، ب، أ، و: "كما قد يكون".
[1297]:في ط: "وقال".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ( 16 )

وقوله : { أولئك } إشارة إلى المتقدم ذكرهم( {[268]} ) ، وهو رفع بالابتداء و { الذين } خبره ، و { اشتروا } صلة ل { الذين } ، وأصله اشتريوا تحركت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً فحذفت لالتقاء الساكنين ، وقيل استثقلت الضمة على الياء فسكنت وحذفت للالتقاء وحركت الواو بعد ذلك للالتقاء بالساكن بعدها ، وخصت بالضم لوجوه منها أن الضمة أخت الواو وأخف الحركات عليها ، ومنها أنه لما كانت واو جماعة ضمت كما فعل بالنون في «نحنُ » .

ومنها أنها ضمت إتباعاً لحركة الياء المحذوفة قبلها .

قال أبو علي : «صار الضم فيها أولى ليفصل بينها وبين واو » أو «و » لو «إذ هذان يحركان بالكسر »( {[269]} ) .

وقرأ أبو السمال قعنب العدوي( {[270]} ) بفتح الواو في : «اشتروَا الضلالة » .

وقرأها يحيى بن يعمر بكسر الواو . والضلالة والضلال : التلف نقيض الهدى الذي هو الرشاد إلى المقصد .

واختلفت عبارة المفسرين عن معنى قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } فقال قوم : «أخذوا الضلالة وتركوا الهدى »( {[271]} ) .

وقال آخرون : استحبوا الضلالة وتجنبوا الهدى( {[272]} ) كما قال تعالى : { فاستحبوا العمى على الهدى } [ فصلت : 17 ] .

وقال آخرون : الشراء هنا استعارة وتشبيه ، لما تركوا الهدى وهو معرض( {[273]} ) لهم ووقعوا بدله في الضلالة واختاروها شبهوا بمن اشترى فكأنهم دفعوا في الضلالة هداهم إذ كان لهم أخذه . ( {[274]} )

وبهذا المعنى تعلق مالك رحمه الله في منع أن يشتري الرجل على أن يتخير في كل ما تختلف آحاد جنسه ولا يجوز فيه التفاضل . ( {[275]} )

وقال قوم : الآية فيمن كان آمن من المنافقين ثم ارتد في باطنه وعقده ويقرب الشراء من الحقيقة على هذا . ( {[276]} )

وقوله تعالى : { فما ربحت تجارتهم } ختم للمثل بما يشبه مبدأه في لفظة الشراء( {[277]} ) ، وأسند الربح إلى التجارة كما قالوا : «ليل قائم ونهار صائم » . والمعنى فما ربحوا في تجارتهم .

وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة «فما ربحت تجاراتهم » بالجمع .

وقوله تعالى : { وما كانوا مهتدين } قيل المعنى في شرائهم هذا ، وقيل على الإطلاق ، وقيل في سابق علم الله ، وكل هذا يحتمله اللفظ .


[268]:- بعد أن ذكر الله سبحانه مالهم من صفات شنيعة، ونعوت فظيعة، جاءت الإشارة لتعلن عن سوء حالهم، وبعد منزلتهم في الشر، فهي مسوقة لتقرير ما قبلها وتبيين ما هم عليه من الجهالة والسفاهة، في أقوالهم، وأفعالهم، بإظهار سماجتها، وتصويرها بصورة لا يكاد يتعاطاها من له أدنى تمييز، فضلا عمن له عقل وبصر- فأولئك تأتي بعد صفات المدح للمدح- وبعد صفات الذم للذم.
[269]:- نحو قوله تعالى: [وأن لو استقاموا] وقوله تعالى: [أو ائتنا بعذاب أليم].
[270]:- جاء في طبقات القراء أن اسمه قعنب بن أبي قعنب أبو السمال العدوي البصري 2-27.
[271]:- اعلم أن الباء تدخل في العوض المأخوذ في جانب البيع- وعلى العوض المأخوذ في الشراء فتقول: بعت الثوب بدرهم، فالدرهم حاصل، ومأخوذ، وتقول: اشتريت الثوب بدرهم، فالدرهم متروك وغير حاصل ومن هذا قوله تعالى: [أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى] وقوله تعالى: [أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة].
[272]:- هذه العبارة أخص من العبارة قبلها، فاستحباب الضلالة أخص من أخذ الضلالة- وتجنب الهدى أخص كذلك من ترك الهدى، فإن تجنب الهدى عن قصد، وترك الهدى يكون عن قصد وعن غير قصد.
[273]:- أي ظاهر لهم.
[274]:- جواب عن سؤال وهو: كيف اشتروا الضلالة بالهدى وما كانوا على هدى؟ فأجاب بأنهم جُعلوا مشترين بالهدى لتمكنهم منه بتيسير أسبابه، فكان لهم أخذه، وكان كأنه في أيديهم، فإذا تركوه إلى الضلالة فقد عطلوه واستبدلوه به فاستعير ثبوته لتمكنهم منه، والتمكن حاصل بما شاهدوه من الآيات والمعجزات.
[275]:- لما في ذلك من الضلالة والجهالة، ويعني أنه لا يجوز في فقه البيوع الشراء على أن يختار المشتري في كل ما تختلف صفة آحاده ولا يجوز فيه التفاضل- كاللحوم.
[276]:- حاصله أن الشراء إما أن يكون حقيقة، وإما أن يكون مجازا، فالقول الأول جار على من كان آمن ثم ارتد في قلبه، وإنما كان الشراء حقيقيا لأنه دفع ثمنا كان عنده، والقريب من الشيء كهو في حكمه، والقول الثاني جاز على أنه لم يؤمن من أول مرة إلا أنه كان متمكنا منه لتيسر أسبابه، والمتمكن من الشيء كأنه في يده.
[277]:- أي فهو ترشيح للمجاز لأنه يناسب الشراء المستعار، ويعين أن أعمالهم سميت تجارة لمناسبة الشراء تأليفا لجواهر النظام، والتحاما بين أجزاء الكلام. والمثل بمعنى التشبيه.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ} (16)

{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } .

الإشارة إلى من يقول { آمنا بالله وباليوم الآخر } [ البقرة : 8 ] وما عطف على صلته من صفاتهم وجىء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق « من » هو فريق من الناس ، وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى : { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } [ البقرة : 15 ] فمضمونها بمنزلة التوكيد ، وذلك مما يقتضي الفصل ، ولتفيد تعليل مضمون جملة { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } فتكون استئنافاً بيانياً لسائل عن العلة ، وهي أيضاً فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى : { تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] ، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل .

وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملة { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] ومقابل موقع جملة { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] الآية .

واسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ . وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيراً ناشئاً عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى : { ذلك الكتاب } [ البقرة : 2 ] ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان فإن قوله تعالى : { ذلك الكتاب } مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم . وعكس هذا قول قيس بن الخطيم :

متى يأتِ هذا الموتُ لا يُلْفِ حاجة *** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

فإن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير إليه باسم البعيد ، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به .

والاشتراء افتعال من الشري وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئاً لرغبة فيه ، ولما كان معنى البيع مقتضياً آخذين وباذلين كان كل منهما بائعاً ومبتاعاً باختلاف الاعتبار ، ففعل باع منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذاً لما صار بيده عَبَّر عنه بمبتاع ومشتر ، وإن اعتبره باذلاً لما خرج من يده من العوض ، عَبَّر عنه ببائع وشار ، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سَنَن واحد ، وقد ذكر كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرَّأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى : { وشَرَوْه بثمن بخس دراهمَ معدودةٍ } [ يوسف : 20 ] فتوهموا الضمير عائداً إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى :

{ وجاءت سيارة } [ يوسف : 19 ] أي باعوه ، وحسبك شاهداً على ذلك قوله : { وكانوا فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله لامرأته : { أكرمي مثواه } [ يوسف : 21 ] .

وعلى ذينك الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك .

وإطلاق الاشتراء ههنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم ، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حَرَصوا على الضلالة ، وزَهِدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين .

ويجوز أن يكون الاشتراء مستعملاً في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور . قال بشامة بن حَزن :

إِنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأَبٍ *** عنه ولا هُوَ بالأبناء يَشْرينا

أي يبيعنا أي يبدلنا ، وقال عنترة بن الأَخرس المَعْني من شعراء « الحماسة » :

ومَنْ إِنْ بِعْتَ منزلة بأخرى *** حَلَلْتَ بأمره وبه تَسير

أي إذا استبدلتَ داراً بأخرى . وهذا بخلاف قول أبي النجم :

أخذتُ بالجمة رأساً أزعرا *** وبالطويل العُمْر عُمْرا جَيْدار

كما اشترى المسلم إذ تنصرا

فيكون الحمل عليه هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالةٌ تشبه حال المهتدي تَلَبَّسوا بها فإذا خَلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضاً أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تيْنك الحالتين بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في « الكشاف » .

والموصول في قوله { الذين اشتروا } بمعنى المعرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين .

{ فَمَا رَبِحَت تجارتهم وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .

رَتَّبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشىء عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور ؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين فعدم الاهتداء وإن كان سابقاً على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدماً فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء ، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية ، ولهذا عبر ب { ما كانوا مهتدين } دون ما اهتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم ، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع .

والربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائداً على رأس ماله . والتجارة بكسر أوله على وزن فعالة وهي زنة الضائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله . ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع ونفي الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقي لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان .

وإنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفي عنها لأن الربح لما كان مسبباً عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي وذلك أنه لولا الإسناد المجازي لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة ، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه ، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير : * ونمت وما ليل المطي بنائم * . بخلاف قولك ما ليله بطويل ، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتاً فإن وجدت إثباته مجازاً عقلياً فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى إلا ما يصح أن يثبت . وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتزاني في « المطول » ، وعدل عنها في « حواشي الكشاف » وهي أمثل مما عدل إليه .

وقد أفاد قوله : { فما ربحت تجارتهم } ترشيحاً للاستعارة في { اشتروا } فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفى المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن أم كان الترشيح متميزاً به أو مستعاراً لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به { اشتروا } . ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في « أساس البلاغة » للزمخشري ولم يعزُه :

ولما رأيت النَّسْر عزَّ ابنَ دايَةٍ *** وعشّش في وَكْرَيْه جاشَ له صدري{[85]}

فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر ؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فُتَّاك العرب في أمه ( أنشده في « الكشاف » ولم أقف على تعيين قائله ) :

وما أُمُّ الرُّدَيْن وإنْ أَدَلَّـتْ *** بعالمة بأخلاق الكرام

إذا الشيطانُ قَصَّع في قفاها *** تَنَفَّقْنَاهُ بالحَبْل التُّـؤَامِ

فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء ، وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعاً للأولى . والآية ليست من هذا القبيل . وقوله : { وما كانوا مهتدين } قد علم من قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } إلى : { وما كانوا مهتدين ، } فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله : { اشتروا الضلالة بالهدى } فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعْلوم أنه لم يبق فيهم هدى .

ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي إنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين . وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة ، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح ، فيقع في الخسران . فقوله : { وما كانوا مهتدين } تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتدياً أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه .


[85]:- عز : غلب، وابن داية من أسماء الغراب، سمى ابن داية لسواده، لأن الداية: الحاضنة، وكانت حواضن أبناء العرب والمشتغلات في شؤونهم في بيوت اكابرهم هن الإماء السود فيطلق على الصبيان من أبناء الإمام ابن داية تأنيسا له لئلا يقال العبد أو الوصيف.