ثم أشارت السورة إشارات مجملة إلى قصة كل من إسماعيل وإدريس وذى الكفل ، قال - تعالى - : { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ . . . } .
وإسماعيل : هو الابن الأكبر لإبراهيم - عليهما السلام - وهو الذبيح الذى افتداه الله - تعالى - بذبح عظيم .
وإدريس : هو واحد من أنبياء الله - تعالى - ، قالوا : وهو جد نوح - عليه السلام - وأنه ولد فى حياة آدم ، وبعث بعد موته .
أما ذو الكفل : فقد قال الآلوسى فى شأنه ما ملخصه : ظاهر نظم ذى الكفل فى سلك الأنبياء أنه منهم ، وهذا ما ذهب إليه الأكثر . واختلف فى اسمه : فقيل : بشر وهو ابن أيوب ، بعثه الله - تعالى - بعد أبيه ، وكان مقيما بالشام .
وقيل : هو إلياس بن ياسين وينتهى نسبه إلى هارون - عليه السلام - .
وقيل : هو زكريا والد يحيى - عليهما السلام - وسمى بذلك لكفالته مريم .
وقيل : لم يكن نبيا وإنما كان عبدا صالحا . . . " .
ثم مدح - سبحانه - هؤلاء الأنبياء فقال : { كُلٌّ مِّنَ الصابرين } أى : كل واحد منهم من عبادنا الصابرين الذين تحملوا فى سبيلنا الكثير من المصاعب والآلام .
أما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل ، عليهما السلام ، وقد تقدم ذكره في سورة مريم ، وكذلك إدريس ، عليه السلام{[19774]} وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي . وقال آخرون : إنما كان رجلا صالحًا ، وكان ملكًا عادلا وحكمًا مقسطًا ، وتوقف ابن جرير في ذلك ، فالله أعلم .
وقال ابن جُرَيج ، عن مجاهد في قوله : { وَذَا الْكِفْلِ } قال : رجل صالح غير نبي ، تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فَسُمي : ذا الكفل . وكذا روَى ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أيضًا .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عفان ، حدثنا وُهَيب ، حدثنا داود ، عن مجاهد قال : لما كبر اليسع قال : لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي ، حتى أنظر كيف يعمل ؟ فجمع الناس ، فقال : من يتقبل مني بثلاث : أستخلفه يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب . قال : فقام رجل تزدريه العين ، فقال : أنا . فقال : أنت تصوم النهار ، وتقوم الليل ، ولا تغضب ؟ قال : نعم ، قال : فردهم{[19775]} ذلك اليوم ، وقال مثلها في اليوم الآخر ، فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل وقال{[19776]} أنا . فاستخلفه ، قال : وجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان . فأعياهم ذلك{[19777]} ، قال : دعوني{[19778]} وإياه ، فأتاه في صورة شيخ كبير فقير ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة
- وكان لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة - فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال : شيخ كبير مظلوم . قال : فقام ففتح الباب ، فجعل يقص عليه ، فقال : إن بيني وبين قومي خصومة ، وإنهم ظلموني ، وفعلوا بي وفعلوا . وجعل يُطَول عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة ، فقال{[19779]} : إذا رحت فأتني آخذ لك بحقك . فانطلق ، وراح . فكان في مجلسه ، فجعل ينظر هل يرى الشيخ ؟ فلم يره ، فقام يتبعه ، فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس ، وينتظره ولا{[19780]} يراه ، فلما رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه ، أتاه فدق الباب ، فقال : من هذا ؟ قال{[19781]} الشيخ الكبير المظلوم . ففتح له{[19782]} فقال : ألم أقل لك إذا قعدت فأتني ؟ قال : إنهم أخبث قوم ، إذا عرفوا{[19783]} أنك قاعد قالوا : نحن نعطيك حقك . وإذا قمت جحدوني . قال : فانطلق ، فإذا رحت فأتني . قال : ففاتته القائلة ، فراح فجعل ينتظره{[19784]} ولا يراه ، وشق عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعن أحدًا يَقرب هذا الباب حتى أنام ، فإني قد شق عليّ النوم . فلما كان تلك الساعة أتاه{[19785]} فقال له الرجل : وراءك وراءك ؟ فقال : إني قد أتيته أمس ، فذكرت له أمري ، فقال : لا والله لقد أمرنا ألا ندع أحدًا يقربه . فلما أعياه نظر فرأى كُوَّة في البيت ، فتسور منها ، فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدق الباب من داخل ، قال : فاستيقظ الرجل فقال : يا فلان ، ألم آمرك ؟ فقال{[19786]} أما من قبلي والله فلم تؤتَ ، فانظر من أين أتيت ؟ قال : فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه ، وإذا الرجل معه في البيت ، فعرفه ، فقال : أعدو الله ؟ قال : نعم ، أعييتني في كل شيء ، ففعلت ما تَرَى لأغضبك . فسماه الله ذا الكفل ؛ لأنه تكفل بأمر فوفى به{[19787]} .
وهكذا رواه بن أبي حاتم ، من حديث زهير بن إسحاق ، عن داود ، عن مجاهد ، بمثله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : قال ابن عباس : كان قاض في بني إسرائيل ، فحضره الموت ، فقال : من يقوم مقامي على ألا يغضب ؟ قال : فقال رجل : أنا . فسمي ذا الكفل . قال : فكان{[19788]} ليله جميعًا يصلي ، ثم يصبح صائمًا فيقضي بين الناس - قال : وله{[19789]} ساعة يقيلها - قال : فكان كذلك ، فأتاه الشيطان عند نومته ، فقال له أصحابه : ما لك ؟ قال : إنسان مسكين ، له على رجل حق ، وقد غلبني عليه . قالوا : كما أنت حتى يستيقظ - قال : وهو فوق نائم - قال : فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه{[19790]} ، قال : فسمع ، فقال : ما لك ؟ قال : إنسان مسكين ، له على رجل حق . قال : اذهب فقل له يعطيك . قال : قد أبى . قال : اذهب أنت إليه . قال : فذهب ، ثم جاء من الغد ، فقال : ما لك ؟ قال : ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا . قال : اذهب إليه فقل له يعطيك حقك ، قال : فذهب ، ثم جاء من الغد حين قال ، قال : فقال له أصحابه : اخرج ، فعل الله بك ، تجيء كل يوم حين ينام ، لا تدعه ينام ؟ . فجعل{[19791]} يصيح : من أجل أني إنسان مسكين ، لو كنت غنيا ؟ قال : فسمع أيضًا ، فقال : ما لك ؟ قال : ذهبت إليه فضربني . قال : امش حتى أجيء معك . قال : فهو ممسك بيده ، فلما رآه ذهب معه نَثَر يده منه{[19792]} فَفَر .
وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ، ومحمد بن قيس ، وابن حُجَيرة الأكبر ، وغيرهم من السلف ، نحو من هذه القصة ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر{[19793]} ، أخبرنا سعيد بن بشير ، حدثنا قتادة ، عن أبي كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ، ولكن كان - يعني : في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة ، فسمي ذا الكفل .
وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة قال : " قال أبو موسى الأشعري . . . " فذكره منقطعا{[19794]} ، والله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال :
حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن سعد{[19795]} مولى طلحة ، عن ابن عمر قال : سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين - حتى عدّ سبع مرات - ولكن قد سمعته أكثر من ذلك ، قال : " كان الكفل من بني إسرائيل ، لا يتورّع من ذنب عمله ، فأتته امرأة فأعطاها ستين دينارا ، على أن يَطَأها ، فلما قعد منها{[19796]} مَقعدَ الرجل من امرأته ، أرعِدَت{[19797]} وبكت ، فقال : ما يبكيك ؟ أكْرَهْتُك ؟ قالت : لا ولكن هذا عمل لم أعمله قط ، وإنما حَمَلني عليه الحاجة . قال : فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ؟ فَنزل{[19798]} فقال : اذهبي فالدنانير لك . ثم قال : " والله لا يَعصي الله الكفل أبدًا . فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه : قد غفر الله للكفل " {[19799]} .
هكذا وقع في هذه الرواية " الكفل " ، من غير إضافة ، فالله أعلم . وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة{[19800]} ، وإسناده غريب ، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان " الكفل " ، ولم يقل : " ذو الكفل " ، فلعله رجل آخر ، والله أعلم .
عطف على { وأيوبَ } [ الأنبياء : 83 ] أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حُكماً وعلماً .
وجُمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لاشتراكهم في خصيصية الصبر كما أشار إليه قوله تعالى { كل من الصابرين } . جرى ذلك لمناسبة ذكر المثل الأشهر في الصبر وهو أيوب .
فأما صبر إسماعيل عليه السلام فقد تقرّر بصبره على الرضى بالذبح حين قال له إبراهيم : { إني أرى في المنام أني أذبحك } فقال : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [ الصافات : 102 ] ، وتقرر بسكناه بواد غيرِ ذي زرع امتثالاً لأمر أبيه المتلقَى من الله تعالى ، وتقدمت ترجمة إسماعيل في سورة البقرة .
وأما إدريس فهو اسم ( أُخْنُوخ ) على أرجح الأقوال . وقد ذكر أُخنوخ في التوراة في سفر التكوين جَدّاً لنوح . وتقدمت ترجمته في سورة مريم ووصف هنالك بأنه صدّيق نبيء وقد وصفه الله تعالى هنا فليعدَّ في صف الصابرين . والظاهر أن صبره كان على تتبع الحكمة والعلوم وما لقي في رحلاته من المتاعب . وقد عُدت من صبره قصص ، منها أنه كان يترك الطعام والنوم مدة طويلة لتصفو نفسه للاهتداء إلى الحكمة والعلم .
وأما ذو الكِفْل فهو نبيء اختُلف في تعيينه ، فقيل هو إلياس المسمّى في كتب اليهود ( إيليا ) .
وقيل : هو خليفَة اليَسع في نبوءة بني إسرائيل . والظاهر أنه ( عُوبديا ) الذي له كتاب من كتب أنبياء اليهود وهو الكتاب الرابع من الكتب الاثني عشر وتعرف بكتب الأنبياء الصغار .
والكفْل بكسر الكاف وسكون الفاء ، أصله : النصيب من شيء ، مشتق من كَفلَ إذا تعهد . لقب بهذا لأنه تعهد بأمر بني إسرائيل لليسع . وذلك أن اليسع لما كبُر أراد أن يستخلف خليفة على بني إسرائيل فقال : من يتكفل لي بثلاث أستخلفه : أن يصوم النهار ، ويقوم الليل ، ولا يغضب . فلم يتكفل له بذلك إلا شاب اسمه ( عُوبديا ) ، وأنه ثبت على ما تكفل به فكان لذلك من أفضل الصابرين . وقد عُد عوبديا من أنبياء بني إسرائيل على إجمال في خبره ( انظر سفر الملوك الأول الإصحاح 18 . ورؤيا عوبديا صفحة 891 من الكتاب المقدس ) . وروى العبري عن أبي موسى الأشعري ومجاهد أن ذا الكفل لم يكن نبيئاً . وتقدمت ترجمة إلياس واليسع في سورة الأنعام .