285- إن ما أُنزل إلى الرسول - محمد - هو الحق من عند الله ، وقد آمن به وآمن معه المؤمنون كل منهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وهم يسوُّون بين رسل الله في الإيمان بهم وتعظيمهم قائلين : لا نفرق بين أحد من رسله ، وأكدوا إيمانهم القلبي بقولهم اللساني متجهين إلى الله في خطابهم : ربنا سمعنا تنزيلك المحكم واستجبنا لما فيه ، فامنحنا اللهم مغفرتك ، وإليك - وحدك - المصير والمرجع .
ثم ختم - سبحانه - سورة البقرة بآيتين كريمتين في أولاهما أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتداد للرسالات السماوية السابقة وخاتمة لها ومهيمنة عليها ، وبين في الثانية أنه - سبحانه - لم يكلف الناس إلا بما في قدرتهم ، وأنهم سيحاسبون على أعمالهم ، وأن من شأن الأخيار أن يكثروا من التضرع إليه بخالص الدعاء . قال - تعالى - :
{ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ . . . }
آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( 285 ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ( 286 )
قوله : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون } استئناف قصد به الإِخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بما يشرفهم ويعلى من أقدارهم ومنازلهم .
أي : صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أنزل إليه من ربه في هذه السورة وغيرها من العقائد والأحكام والسنن والبينات والهدايات تصديق إذعان وإقرار وإطمئنان ، وكذلك المؤمنون الذين صدقوه واتبعوه آمنوا بما آمن به رسولهم وداعيهم إلى الحق صلى الله عليه وسلم .
وقد قرن - سبحانه - إيمان المؤمنين بإيمان رسولهم صلى الله عليه وسلم تشريفاً لهم وللإِشارة إلى أنهم متى صدقوا في إيمانهم كانت منزلتهم عند الله - تعالى - قريبة من منازل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - .
وفي تأخيرهم في الذكر إشارة إلى تأخر التابع عن المتبوع ، وإشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من آمن بما أوحى إليه من ربه ، وهو أقوى الناس إيماناً ، وأصدقهم يقينا . وأكثرهم استجابة لأوامر الله .
وقوله : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } بيان للإِيمان الكامل الذي اعتقدوه وصدقوا به .
أي : كل فريق من هذين الفريقين وهما الرسول والمؤمنون آمن إيماناً تاماً بوجود الله - تعالى - ووحدانيته ، وكمال صفاته ، ووجوب الخضوع والعبادة له ، وبوجود الملاكئة وأنهم عباد مكرمون { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } كما آمنوا بكتب الله التي أنزلها لسعادة البشر ، وبرسله الذين أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور .
ثم بين - سبحانه - أن من صفات هؤلاء الأخيار أنهم لا يفرقون بين رسل الله - تعالى - فقال : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } أي يقولون لا نفرق في الإِيمان بين رسل الله - تعالى - وإنما نؤمن بهم جميعاً ، ونصدق برسالة كل رسول أرسله الله - تعالى - ولا نقول كما قال الضالون { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } ثم حكى - سبحانه - ما قالوه مما يدل على صدق إيمانهم ، ونقاء نفوسهم وطهارة قلوبهم فقالوا : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : وقالوا سمعنا قولك وفهمناه ، وامتثلنا أمرك - يا الهنا - واستقمنا عليه ، وصبرنا على تكاليفه بكل رضا واستسلام . { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } أي اغفر لنا غفرانك الذي هو من فضل رحمتك ونعمك فأنت ربنا وخالقنا والعليم بأحوالنا وبضعفنا .
فقوله : { غُفْرَانَكَ } مصدر منصوب على المفعول المطلق والعامل فيه مقدر أي : اغفر غفرانك . وقوله : { وَإِلَيْكَ المصير } أي : وإليك وحدك المرجع والمآب ، ومنك وحدك يكون الحساب والثواب والعقاب ، { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وبذلك نرى أن هذه الآية الكريمة قد مدحت الرسول صلى الله عليه وسلم مدحاً عظيماً ، ومدحت أتباعه المؤمنين الصادقين لاستجابتهم لأوامر الله ونواهيه ، وتضرعهم إليه بخالص الدعاء أن يغفر لهم ما فرط منهم .
فقوله تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .
قال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت هذه الآية : " ويحق له أن يؤمن " {[4707]} .
وقد روى الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو النضر الفقيه : حدثنا معاذ بن نجدة القرشي ، حدثنا خلاد بن يحيى ، حدثنا أبو عقيل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أنس بن مالك ، قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّه } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حق له أن يؤمن " . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . {[4708]} .
وقوله : { وَالْمُؤْمِنُون } عطف على { الرَّسُولُ } ثم أخبر عن الجميع فقال : { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لا إله غيره ، ولا رب سواه . ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء ، لا يفرقون بين أحد منهم ، فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مَهْديون هادون إلى سُبُل{[4709]} الخير ، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله ، حتى نُسخ الجميع بشرع محمدّ صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي تقوم الساعة على شريعته ، ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين .
وقوله : { وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي : سمعنا قولك يا ربنا ، وفهمناه ، وقمنا به ، وامتثلنا العمل بمقتضاه ، { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } سؤال للغَفْر {[4710]}والرحمة واللطف .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله : { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } قال : قد غفرت لكم ، { وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } أي : إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب . {[4711]}
{ آمَنَ الرّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ }
يعني بذلك جل ثناؤه : صدّق الرسول ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقرّ { بما أُنْزِلَ إِلَيْهِ } يعني بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال : «يَحقّ لَهُ » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ } وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال : «وَيَحِقّ لَهُ أنْ يُؤمِنَ » .
وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه ، شقّ عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَعَلّكُمْ تَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ! » فقالوا : بل نقول : سمعنا وأطعنا ! فأنزل الله لذلك من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُوءْمِنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } . يقول : وصدّق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله الاَيتين . وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .
واختلف القراء في قراءة قوله : «وكتبه » ، فقرأ ذلك عامة قراء المدينة وبعض قراء أهل العراق : { وكُتُبِهِ } على وجه جمع الكتاب على معنى : والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسوله . وقرأ ذلك جماعة من قراء أهل الكوفة : «وكتابه » بمعنى : والمؤمنون كلّ آمن بالله وملائكته ، وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . وقد رُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك وكتابه ، ويقول : الكتاب أكثر من الكتب . وكان ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : { وَالعَصْرِ إِنّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } بمعنى : جنس الناس وجنس الكتاب ، كما يقال : ما أكثر درهم فلان وديناره ، ويراد به جنس الدراهم والدنانير . وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إليّ من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع ، لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك ، أعني بذلك : «وملائكته وكتبه ورسله » ، فإلحاق الكتب في الجمع لفظا به أعجب إليّ من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } .
وأما قوله : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } فإنه أخبر جلّ ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك . ففي الكلام في قراءة من قرأ : { لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } بالنون متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عنه ، وذلك المتروك هو «يقولون » .
( وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله . وترك ذكر «يقولون » لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبْرْتُمْ } بمعنى : يقولون سلام . وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدّمين : «لا يُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » بالياء ، بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرّق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ، ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرّون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقرّوا بموسى وكذّبوا عيسى ، والنصارى الذين أقرّوا بموسى وعيسى وكذّبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجحدوا نبوّته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذّبوا بعض رسل الله ، وأقّروا ببعضه . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } كما صنع القوم ، يعني بني إسرائيل ، قالوا : فلان نبيّ ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به .
والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون : { لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ } لأنها القراءة التي قامت حجة بالنقل المستفيض الذي يمتنع مع التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط ، يعني ما وصفنا من يقولون : لا نفرّق بين أحد من رسله . ولا يعترض بشاذّ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلاً ورواية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : وقال الكلّ من المؤمنين : { سَمِعْنا } قول ربنا ، وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه ، { وَأَطَعْنا } : يعني أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له : وقوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنا } يعني : وقالوا غفرانك ربنا ، بمعنى : اغفر لنا ، ربنا غفرانك ، كما يقال : سبحانك ، بمعنى نسبحك سبحانك . وقد بينا فيما مضى أن الغفران والمغفرة : الستر من الله على ذنوب من غفر له ، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والاَخرة ، وعفوه عن العقوبة عليه . وأما قوله : { وَإلَيْكَ المَصِيرُ } فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا فاغفر لنا ذنوبنا . )
فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : { غُفْرَانَكَ } ؟ قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر ، وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدّت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : شكرا لله يا فلان ، وحمدا له ، بمعنى : اشكر الله واحمده ، والصلاةَ الصلاةَ : بمعنى صلوا . ويقولون في الأسماء : اللّهَ اللّهَ يا قوم . ولو رفع بمعنى هو الله ، أو هذا الله ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الاَمر كان جائزا ، كما قال الشاعر :
إنّ قَوْما مِنْهُمْ عُمَيْرٌ وأشْبا *** هُ عُمَيْرٍ ومِنْهُمُ السّفّاحُ
لَجَدِيرُونَ بالوَفاءِ إذَا قا *** لَ أخو النّجدَةِ السّلاحُ السّلاحُ
ولو كان قوله : { غُفْرَانَكَ رَبّنَا } جاء رفعا في القراءة لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا .
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم : إن الله عزّ وجلّ قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسلْ ربك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن حكيم بن جابر ، قال : لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ باللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطَعْنا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإلَيْكَ المَصِير } قال جبريل : إن الله عزّ وجلّ قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ! فسأل : { لا يُكَلّفُ اللّهُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها } . . . إلى آخر السورة .
قال الزجاج : « لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً ، وقصصاً ، ختمها بقوله : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل » . يعني : أنّ هذا انتقال من المواعظ ، والإرشاد ، والتشريع ، وما تخلّل ذلك : ممّا هو عون على تلك المقاصد ، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل ؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب ، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل . فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم ، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر : هو كالحاصل والفذلكة ، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض . وورد في أسباب النزول أنّ قوله : { آمن الرسول } يرتبط بقوله : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } [ البقرة : 284 ] كما تقدم آنفاً .
وأل في الرسول للعد . وهو عَلَم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالى : { وهمّوا بإخراج الرسول } [ التوبة : 13 ] . و { المؤمنون } معطوف على { الرسول } ، والوقف عليه .
والمؤمنون هنا لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله : { آمن } فائدةٌ ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك : قامَ القائمون .
وقوله : { كل آمن بالله } جمع بعد التفصيل ، وكذلك شأن ( كلَ ) إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حُكْم ، ثم إرادة جمعه في ذلك ، كقول الفضل بن عباس اللَّهَبِي ، بعد أبيات :
كُلٌّ له نِيَّةٌ في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتَقْلُونا
وإذ كانت ( كلّ ) من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوينَ عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في « التسهيل » . ولا يعكر عليه أنّ ( كل ) اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه . فمن جوّز أن يكون عَطْفُ { المؤمنون } عطفَ جملة وجعل { المؤمنون } مبتدأ وجعل { كلٌّ } مبتدأ ثانياً { وآمن } خبره ، فقد شذّ عن الذوق العربي .
وقرأ الجمهور { وكتبه } بصيغة جمع كتاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي : وكِتَابِه ، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب . فيكون مساوياً لقوله : { وكتبه } ، إذ المراد الجنس ، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس ، ألا تراهم يقولون : إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري ، ولذلك يقال : إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين ، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام ، وعن ابن عباس أنّه قال ، لما سئل عن هذه القراءة : « كتابِه أكثر من كُتبِه أو الكتاب أكثر من الكتب » فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس ، لاحتمال إرادة جنس الجموع ، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس ، ولهذا قال صاحب « المفتاح » « استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع » .
والحقُّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات . وأنّ كلام ابن عباس إن صح نقله عنه فتأويله أنّه أكْثَر لمساواته له معنى ، مع كونه أخصر لفظاً ، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى .
وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارَك ، وهو يحتمل الالتفات : بأن يكون من مقول قول محذوففٍ دل عليه السياق وعطف { وقالوا } عليه . أو النون فيه للجلالة أي آمَنُوا في حَال أنّنا أمرناهم بذلك ، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة . وقيل : هو مقول لقول محذوف دل عليه آمَن ؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول . وقرأه يعقوب بالياء : على أنّ الضمير عائد على { كلُّ آمن بالله } .
والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق : بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض .
وقوله : { لا نفرق بين أحد من رسله } تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : { لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] .
{ وقالوا سمعنا وأطعنا } عطف على { آمن الرسول } والسمع هنا كناية عن الرضا ، والقبول ، والامتثال ، وعكسه لا يَسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة :
* تَناذَرَهَا الرّاقُون مِنْ سُوءِ سَمْعِها *
أي عدم امتثالها للرُّقْيَا . والمعنى : إنَّهم آمنوا ، واطمأنّوا وامتثلوا ، وإنّما جيء بلفظ الماضي ، دون المضارع ، ليدلوا على رسوخ ذلك ؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا ، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعْت .
وغفرانك نُصب على المفعول المطلق : أي اغفِرْ غفرانك ، فهو بدل من فعله . والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافاً بالبعث ، وجعل منتهياً إلى الله لأنّه منتهٍ إلى يوم ، أو عالَم ، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة . ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان . كأنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين ، ثم صاروا إلى الله ، وهذا كقوله تعالى : { ففروا إلى اللَّه } [ الذاريات : 50 ] . وجعل المصير إلى الله تمثيلاً للمصير إلى أمره ونهيه : كقوله : { ووجد اللَّه عنده فوفاه حسابه } [ النور : 39 ] وتقديم المجرور لإفادة الحصر : أي المصير إليك لا إلى غيرك ، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته ، وهو أنّهم عالِمون بأنّهم صائرون إليه ، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال .