ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمه عليهم فى خلقهم وتكوينهم ، وبين لهم إذا سلبهم شيئاً من حواسهم فإنهم لا يتجهون إلا إليه فقال - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ . . .
المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الجاحدين : أخبرونى إن سلب الله عنكم نعمتى السمع والبصر فأصبحتم لا تسمعون ولا تبصرون ، وختم على قلوبكم فصرتم لا تفقهون شيئاً ، من إله غيره يقدر على رد ما سلب منكم وأنتم تعرفون ذلك ولا تنكرونه فلماذا تشركون معه آلهة أخرى ؟ ثم التفت عنهم إلى التعجيب من حالهم فقال - تعالى - { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أى : انظر كيف ننوع الآيات والحجج والبراهين فنجعلها على وجوه شتى ليتعظوا ويعتبروا ثم هم بعد ذلك يعرضون عن الحق ، وينأون عن طريق الرشاد .
والاستفهام فى قوله - تعالى - { أَرَأَيْتُمْ } للتنبيه أى : إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فتبينوه وتأملوا ما يدل عليه .
والضمير فى { بِهِ } يعود إلى المأخوذ وهو السمع والبصر والفؤاد .
وفى قوله { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } تعجيب من عدم تأثرهم رغم كثرة الدلائل وتنوعها من أسلوب إلى أسلوب .
وجملة { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } معطوفة على جملة نصرف الآيات وداخلة فى حكمها ، وكان العطف بثم لإفادة الاستبعاد المعنوى ، لأن تصريف الآيات والدلائل يدعو إلى الإقبال ، فكان من المستبعد فى العقول والأفهام أن يترتب عليه الإعراض والابتعاد .
قال القرطبى : { يَصْدِفُونَ } أى : يعرضون . يقال : صدق عن الشىء إذا أعرض صدفا وصدوفا فهو صادف . فهم ماثلون معرضون عن الحجج والدلالات
يقول الله تعالى لرسوله [ محمد ]{[10688]} صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المكذبين المعاندين : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } أي : سلبكم إياها كما أعطاكموها فإنه { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ [ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ] {[10689]} } [ الملك : 33 ] .
ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ؛ ولهذا قال : { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } كما قال : { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ } [ يونس : 31 ] ، وقال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] .
وقوله : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي : هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم ؟ لا يقدر على ذلك أحد سواه ؛ ولهذا قال [ عز شأنه ]{[10690]} { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أي : ثم هم مع هذا البيان يعرضون عن الحق ، ويصدون الناس عن اتباعه .
قال العوفي ، عن ابن عباس { يَصْدِفُونَ } أي يعدلون . وقال مجاهد ، وقتادة : يعرضون : وقال السُّدِّي : يصدون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىَ قُلُوبِكُمْ مّنْ إِلََهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ الاَيَاتِ ثُمّ هُمْ يَصْدِفُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء العادلين بي الأوثان والأصنام المكذّبين بك : أرأيتم أيها المشركون بالله غيره إن أصمكم الله فذهب بأسماعكم وأعمالكم فذهب بأبصاركم ، وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فطبع عليها حتى لا تفقهوا قولاً ولا تبصروا حجة ولا تفهموا مفهوما ، أيّ إله غير الله الذي له عبادة كل عابد يأتيكم به يقول : يردّ عليكم ما ذهب الله به منكم من الأسماع والأبصار والأفهام فتعبدوه أو تشركوه في عبادة ربكم الذي يقدر على ذهابه بذلك منكم وعلى ردّه عليكم إذا شاء .
وهذا من الله تعالى تعليم نبيه الحجة على المشركين به ، يقول له : قل لهم : إن الذين تعبدونهم من دون الله لا يملكون لكم ضرّا ولا نفعا ، وإنما يستحقّ العبادة عليكم من كان بيده الضرّ والنفع والقبض والبسط ، القادر على كل ما أراد لا العاجز الذي لا يقدر على شيء . ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : انْظُرْ كَيْفَ نُصَرّف الاَياتِ يقول : انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ليعتبروا ويذكروا فينيبوا . ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ يقول : ثم هم مع متابعتنا عليهم الحجج وتنبيهنا إياهم بالعبر عن الادّكار والاعتبار يعرضون ، يقال منه : صدف فلان عني بوجهه فهو يَصْدِفُ صُدوفا وصَدفا : أي عدل وأعرض ، ومنه قول ابن الرقاع :
إذا ذَكَرْنَ حدِيثا قُلْنَ أحْسَنَه ***وهُنّ عنْ كُلّ سُوءٍ يُتّقَى صُدُفُ
يُرْوِي قَوامِحَ قبلَ اللّيْلِ صَادِفَةً ***أشباهَ جِنَ عَلَيْها الرّيْط والأُزُرُ
فإن قال قائل : وكيف قيل : مَنْ إلَهٌ غيرُ اللّهِ يَإِتِيكُمْ بِهِ فوحد الهاء ، وقد مضى الذكر قبل بالجمع فقال : أرأيْتُمْ إنْ أخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وأبْصَارَكُمْ وَختَمَ على قُلُوبِكُمْ ؟ قيل : جائز أن تكون الهاء عائدة على السمع ، فتكون موحدة لتوحيد السمع ، وجائز أن تكون معنيا بها : من إله غير الله يأتيكم بما أخذ منكم من السمع والأبصار والأفئدة ، فتكون موحدة لتوحيد «ما » ، والعرب تفعل ذلك إذا كنت عن الأفعال وحدت الكناية وإن كثر ما يكنى بها عنه من الأفاعيل ، كقوله : إقبالك وإدبارك يعجبني . وقد قيل : إن الهاء التي في به كناية عن الهدى .
وينحو ما قلنا في تأويل قوله يَصْدِفُونَ قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : يَصْدِفُونَ قال : يعرضون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : يَصْدِفُونَ قال : يعدلون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قأخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : نُصَرّف الاَياتِ ثمّ هُمْ يَصْدِفُونَ قال : يعرضون عنها .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، السديّ : ثُمّ هُمْ يَصْدِفُونَ قال : يصدّون .
{ قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أصمكم وأعماكم . { وختم على قلوبكم } بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم . { من إله غير الله يأتيكم به } أي بذلك ، أو بما أخذ وختم عليه أو بأحد هذه المذكورات . { انظر كيف نصرف الآيات } نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية وتارة من جهة الترغيب والترهيب ، وتارة بالتنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين . { ثم هم يصدقون } يعرضون عنها ، وثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات وظهورها .
هذا ابتداء احتجاج على الكفار ، و { أخذ الله } معناه أذهبه وانتزعه بقدرته ، ووحد السمع لأنه مصدر مفرد يدل على جمع ، والضمير في { به } عائد على المأخوذ ، وقيل على السمع ، وقيل على الهدى الذي تضمنه المعنى ، وقرأ الأعرج وغيره «بهُ انظر » بضم الهاء ، ورواها المسيبي وأبو وقرة عن نافع ، و { يصدقون } معناه يعرضون وينفرون ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
إذا ذَكَرْنَ حديثاً قُلْنَ أحْسَنَهُ . . . وهنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُقَا{[4922]}
قال النقاش : في الآية دليل على تفضيل السمع على البصر لتقدمه هنا ، ثم احتج لذلك بقوله : { إنما يستجيب الذين يسمعون } [ الأنعام : 36 ] وبغير ذلك ، والاستفهام في قوله : { من إله } معناه التوقيف ، أي ليس ثمة إله سواه ، فما بال تعلقكم بالأصنام وتمسككم بها وهي لا تدفع ضرراً ولا تأتي بخير ، وتصريف الآيات هو نصب العبر ومجيء آيات القرآن بالإنذار والاعذار والبشارة ونحوه .
استئناف ابتدائي عاد به إلى الجدال معهم في إشراكهم بالله تعالى بعد أن انصرف الكلام عنه بخصوصه من قوله تعالى : { قل أي شيء أكبر شهادة } [ الأنعام : 19 ] وما تفنَّن عقب ذلك من إثبات البعث وإثبات صدق الرسول وذكر القوارع والوعيد إلى قوله : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] الآيات . وتكرير الأمر بالقول للوجه الذي تقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله } [ الأنعام : 40 ] الآية .
والرؤية قلبية متعدّية إلى مفعولين ، وليس هذا من قبيل الاستعمال المتقدّم آنفاً في قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة } [ الأنعام : 40 ] الآية .
واختلاف القرّاء في { أرأيتم } كاختلافهم في مثله من قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله } [ الأنعام : 40 ] الآية .
والأخذ : انتزاع الشيء وتناوله من مقرّه ، وهو هنا مجاز في السلب والإعدام ، لأنّ السلب من لوازم الأخذ بالنسبة إلى المأخوذ منه فهو مجاز مرسل . ولك أن تجعله تمثيلاً لأنّ الله هو معطي السمع والبصر فإذا أزالها كانت تلك الإزالة كحالة أخذ ما كان أعطاه ، فشبّهت هيئة إعدام الخالق بعض مواهب مخلوقه بهيئة انتزاع الآخذ شيئاً من مقرّه . فالهيئة المشبّه هنا عقلية غير محسوسة والهيئة المشبّهة بها محسوسة . والختم على القلوب تقدّم بيانه في سورة [ البقرة : 7 ] عند قوله تعالى : { ختم الله على قلوبهم } والمراد بالقلوب العقول التي بها إدراك المعقولات .
والسمع مصدر دالّ على الجنس فكان في قوة الجمع ، فعمّ بإضافته إلى ضمير المخاطبين ولا حاجة إلى جمعه .
والأبصار جمع بصر ، وهو في اللغة العين على التحقيق . وقيل : يطلق البصر على حاسّة الإبصار ولذلك جمع ليعمّ بالإضافة جميع أبصار المخاطبين ، ولعلّ إفراد السمع وجمْع الأبصار جرى على ما يقتضيه تمام الفصاحة من خفَّة أحد اللفظين مُفْرداً والآخر مجموعاً عند اقترانهما ، فإنّ في انتظام الحروف والحركات والسكنات في تنقُّل اللسان سِرّاً عجيباً من فصاحة كلام القرآن المعبّر عنها بالنَّظم . وكذلك نرى مواقعها في القرآن قال تعالى : { وجعلنا لهم سمعاً وإبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } [ الأنعام : 26 . ]
والقلوب مراد بها العقول في كلام العرب لأنّ القلب سبب إمداد العقل بقوّة الإدراك .
وقوله : { مَنْ إله } معلِّق لفعل الرؤية لأنّه استفهام ، أي أعلِمتم جوابَ هذا الاستفهام أم أنتم في شكّ . وهو استفهام مستعمل في التقرير يقصد منه إلجاء السامعين إلى النظر في جوابه فيوقنوا أنّه لا إله غير الله يأتيهم بذلك لأنّه الخالق للسمع والأبصار والعقول فإنّهم لا ينكرون أنّ الأصنام لا تخلق ، ولذلك قال لهم القرآن : { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تَذّكَّرون } [ النحل : 17 ] .
و { مَنْ } في موضع رفع على الابتداء ، و { إله } خَبَر { مَنْ } ، و { غيرُ الله } صفة { إله } ، و { يأتيكم } جملة في محلّ الصفة أيضاً ، والمستفهم عنه هو إله ، أي ليس إله غير الله يأتي بذلك ، فدلّ على الوحدانية .
ومعنى { يأتيكم به } يُرجعه ، فإنّ أصل أتى به ، جاء به . ولمّا كان الشيء المسلوب إذا استنقذه منقذ يأتي به إلى مقرّه أطلق الإتيان بالشيء على إرجاعه مجازاً أو كناية .
والضمير المجرور بالباء عائد إلى السمع والأبصار والقلوب ، على تأويلها بالمذكور فلذلك لم يقل بها . وهذا استعمال قليل في الضمير ، ولكنَّه فصيح . وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : { إنّ الذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به } في سورة [ المائدة : 36 ] ، وعند قوله : { وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً } في سورة [ النساء : 4 ] ، وإيثاره هنا على أن يقال : يأتيكم بها ، لدفع توهّم عود الضمير إلى خصوص القلوب .
والكلام جار مجرى التهديد والتخويف ، اختير فيه التهديد بانتزاع سمعهم وأبصارهم وسلْب الإدراك من قلوبهم لأنَّهم لم يشكروا نعمة هذه المواهب بل عدموا الانتفاع بها ، كما أشار إليه قوله آنفاً { وجعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها } [ الأنعام : 25 ] . فكان ذلك تنبيهاً لهم على عدم إجداء هذه المواهب عليهم مع صلاحيتها للانتفاع ، وناسب هنا أن يهدّدوا بزوالها بالكليّة إن داموا على تعطيل الانتفاع بها فيما أمر به خالقها .
وقوله { انْظُرْ } تنزيل للأمر المعقول منزلة المشاهد ، وهو تصريف الآيات مع الإعراض عنها حتّى أنّ النّاظر يستطيع أن يراها ، فأمّا الأمر فهو مستعمل في التعجيب من حال إعراضهم .
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً تتنزّل منزلة التذييل للآيات السابقة ، فإنّه لمَّا غمرهم بالأدلّة على الوحدانية وصدْق الرسول ، وأبطل شبههم عقّب ذلك كلّه بالتعجيب من قوّة الأدلّة مع استمرار الإعراض والمكابرة ، وقد تقدّم قريب منه عند قوله تعالى : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في سورة [ النساء : 50 ] . وهذا تذكير لهم بأنّ الله هو خالق أسماعهم وأبصارهم وألبابهم فما كان غيره جديراً بأن يعبدون .
وتصريف الآيات اختلاف أنواعها بأن تأتي مرة بحجج من مشاهدات في السماوات والأرض ، وأخرى بحجج من دلائل في نفوس الناس ، ومرّة بحجج من أحوال الأمم الخالية التي أنشأها الله ، فالآيات هنا هي دلائل الوحدانية ، فهي متَّحدة في الغاية مختلفة الأساليب متفاوتة في الاقتراب من تناول الأفهام عامّها وخاصّها ، وهي أيضاً مختلفة في تركيب دلائلها من جهتي المقدّمات العقلية وغيرها ، ومن جهتي الترغيب والترهيب ومن التنبيه والتذكير ، بحيث تستوعب الإحاطة بالأفهام على اختلاف مدارك العقول .
والتعريف في الآيات } للعهد ، وهي المعهودة في هذه السورة ابتداء من قوله : { الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] .
و { ثم } للترتيب الرتبي لأنّها عطفت جملة على جملة ، فهي تؤذن بأنّ الجملة المعطوفة أدخل في الغرض المسوق له الكلام ، وهو هنا التعجيب من قوة الأدلّة وأنّ استمرار الإعراض والمكابرة مع ذلك أجدر بالتعجيب به .
وجيء بالمسند في جملة { هم يصدفون } فعلاً مضارعاً للدلالة على تجدّد الإعراض منهم . وتقديم المسند إليه على الخبر الفِعْلِيّ لتَقَوّي الحُكم .
و { يصدفون } يعرضون إعراضاً شديداً . يقال : صَدَف صَدْفاً وصُدوفاً ، إذا مال إلى جانب وأعرض عن الشيء . وأكثر ما يستعمل أن يكون قاصراً فيتعدّى إلى مفعوله ب ( عن ) . وقد يستعمل متعدّياً كما صرّح به في « القاموس » . وقلّ التعرّض لذلك في كتب اللغة ولكن الزمخشري في تفسير قوله تعالى في أواخر هذه السورة { فمن أظلم ممّن كذّب بآيات الله وصدف عنها } [ الأنعام : 157 ] قدّر : وصدف الناسَ عنها ، مع أنّه لم يتعرّض لذلك في الأساس ولا علّق على تقديره شارحوه . ولمّا تقدّم ذكر الآيات حُذف متعلِّق { يصدفون } لظهوره ، أي صدف عن الآيات .