ثم بين - سبحانه - حال السعداء والأشقياء يوم القيامة فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ . إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ . تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } .
وقوله : { ناضرة } اسم فاعل من النَّضْرة - بفتح النون المشددة وسكون الضاد - وهى الجمال والحسن . تقول : وجه نضير ، إذا كان حسنا جميلا .
وقوله : { باسرة } من البسور وهو شدة الكلوح والعبوس ، ومنه قوله - تعالى - { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } يقال : بسَر فلان يبسُر بسُورا ، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشئ الذى يراه .
والفاقرة : الداهية العظمية التى لشدتها كأنها تقصم فقار الظهر . يقال : فلان فقرته الفاقرة ، أى : نزلت به مصيبة شديدة أقعدته عن الحركة ، وأصل الفَقْر : الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلُصَ إلى العظم أو ما يقرب منه .
والمراد بقوله : { يومئذ } : يوم القيامة الذى تكرر ذكره فى السورة أكثر من مرة .
والجملة المقدرة المضاف إليها " إذ " والمعوض عنها بالتنووين تقديرها يوم إذ برق البصر .
والمعنى : يوم القيامة ، الذى يبرق فيه البصر ، ويخسف القمر . . تصير وجوه حسنة مشرقة ، ألا وهى وجوه المؤمنين الصادقين . . وهذه الوجوه تنظر إلى ربها فى هذا اليوم نظرة سرور وحبور ، بحيث تراه - سبحانه - على ما يليق بذاته ، وكما يريد أن تكون رؤيته - عز وجل - بلا كيفية ، ولا جهة ، ولا ثبوت مسافة .
وهناك وجوه أخرى تصير فى هذا اليوم كالحة شديدة العبوس ، وهى وجوه الكافرين والفاسقين عن أمر ربهم ، وهذه الوجوه { تَظُنُّ } أى : تعتقد أو تتوقع ، أن يفعل بها فعلا يهلكها ، ويقصم ظهورها لشدته وقسوته .
وجاء لفظ " وجوه " فى الموضعين منكرا ، للتنويع والتقسيم ، كما فى قوله - تعالى - { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } وكما فى قول الشاعر :
فيوم علينا ويوم لنا . . . ويوم نُسَاءُ ويوم نُسَر
وقد أخذ العلماء من قوله - تعالى - : { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أن الله - تعالى - يتكرم على عباده المؤمنين فى هذا اليوم ، فيربهم ذاته بالكيفية التى يريدها - سبحانه - .
ومنهم من فسر { نَّاضِرَةٌ } بمعنى منتظرة ، أى : منتظرة ومتوقعة ما يحكم الله - تعالى - به عليها .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات : وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله - عز وجل - فى الدار الآخرة ، فى الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها . لحديث أبى سعيد وأبى هريرة - وهما فى الصحيحين - " أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تضارون فى رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ترون ربكم كذلك " " .
وفى الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال : " نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر " " .
ثم قال ابن كثير - رحمه الله - : وهذا - بحمد الله - مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة . كما هو متفق عليه بين أئمة الإِسلام ، وهداة الأنام .
ومن تأول { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال : تنتظر الثواب من ربها . . فقد أبعد هذا القائل النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله - تعالى - { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } قال الشافعى : ما حجَب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه - عز وجل - .
{ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي : تراه عيانا ، كما رواه البخاري ، رحمه الله ، في صحيحه : " إنكم سترون ربكم عَيَانا " . {[29551]} وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح ، من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ؛ لحديث أبي سعيد وأبي هريرة - وما في الصحيحين - : أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال : " هل تُضَارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سَحَاب ؟ " قالوا : لا . قال : " فإنكم تَرَون ربكم كذلك " . {[29552]} وفي الصحيحين عن جرير قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : " إنكم تَرَون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا " {[29553]} وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جَنَّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فِضَّة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله إلا رِدَاء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " . {[29554]} وفي أفراد مسلم ، عن صهيب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ " قال : " يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تُبَيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ " قال : " فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ، وهي الزيادة " . ثم تلا هذه الآية : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] . {[29555]}
وفي أفراد مسلم ، عن جابر في حديثه : " إن الله يَتَجلَّى للمؤمنين يضحك " {[29556]} - يعني في عرصات القيامة - ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون{[29557]} إلى ربهم عز وجل في العرصات ، وفي روضات الجنات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبجر ، حدثنا ثُوَير{[29558]} بن أبي فاختة ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه . وإن أفضلهم منزلة لينظر إلى وجه الله كل يوم مرتين " . {[29559]}
ورواه الترمذي عن عبد بن حميد ، عن شَبابة ، عن إسرائيل ، عن ثُوَير قال : " سمعت ابن عمر . . " . فذكره ، قال : " ورواه عبد الملك بن أبجر ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، قوله " . وكذلك رواه الثوري ، عن ثُوَير ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، لم يرفعه{[29560]} ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مَواضِعَ من هذا التفسير ، وبالله التوفيق{[29561]} . وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة ، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام . وهُدَاة الأنام .
ومن تأول ذلك بأن المراد ب { إِلَى } مفرد الآلاء ، وهي النعم ، كما قال الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } فقال تنتظر الثواب من ربها . رواه ابن جرير من غير وجه عن مجاهد . وكذا قال أبو صالح أيضا - فقد أبعد هذا القائل{[29562]} النجعة ، وأبطل فيما ذهب إليه . وأين هو من قوله تعالى : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } ؟[ المطففين : 15 ] ، قال الشافعي ، رحمه الله : ما حَجَب الفجار إلا وقد عَلم أن الأبرار يرونه عز وجل . ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة ، وهي قوله : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال ابن جرير :
حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك عن الحسن : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } قال : حسنة ، { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال تنظر إلى الخالق ، وحُقّ لها أن تَنضُر وهي تنظر إلى الخالق{[29563]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.