ثم انتقل هابيل من وعظ أخيه بتطهير قلبه وبتذكيره بما تقتضيه الأخوة من بر وتسامح إلى تخويفه من عقاب الآخرة فقال : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } .
وقوله : { أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي ترجع . وتقر : من البوء وهو الرجوع واللزوم ، يقال : باء إليه : أي : رجع ، وبؤت به إليه أي رجعت .
والآية الكريمة تعليل آخر لامتناعه عن بسط يده إلى أخيه ، ولم تعطف على ما قبلها للإِيذان باستقلالها في العلية ، ولدفع توهم أن تكون جزء علة لا علة تامة .
والمعنى { إني أُرِيدُ } بامتناعي عن التعرض لك ببسط يدي { أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .
أي : ترجع إلى بإثم قتلك إياي ، وبإثمك الذي قد كان منك قبل قتلي ، والذي بسببه لم يتقبل قربانك { فَتَكُونَ } بسبب الإِثمين { مِنْ أَصْحَابِ النار } في الآخرة { وَذَلِكَ } أي : كينونتك من أصحاب النار { جَزَآءُ الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم .
قال الإِمام الرازي : فإن قيل : كما لا يجوز للإِنسان أن يريد نفسه أن يعصي الله ، فكذلك لا يجوز له أن يريد من غيره أن يعصي الله ، فلم قال : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } .
فالجواب : أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله ، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به ، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له : وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلابد وأن تترصد قتلى في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلى إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان .
وهذا منى كبيرة ومعصية وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا ، وبين أن يكون أنت ، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي .
ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة ، وعلى هذا الشرط لا يكون حراما . ويجوز أن يكون المراد : إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلى . ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه .
وقال صاحب الانتصاف : فأما إرادته - أي إرادة هابيل - لإِثم أخيه وعقوبته - في قوله - تعالى { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } - فمعناه : إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب . ولما لم يكن بد من إرادة أحد الأمرين إما إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه ، وإما إثم أخيه بتقدير أن يستسلم وكان غير مريد للأول . اضطر إلى الثاني .
فهو لم يرد إذا إثم أخيه لعينه ، وإنما أراد أن الإِثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل - ولم تكن حينئذ مشروعة - فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه . وهذا كما يتمنى الإِنسان الشهادة ، ومعناه أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإِثم ، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه ، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله .
وإلى هنا نرى . أن هابيل قد استعمل في صرف أخيه عن جريمة القتل وسائل متنوعة فهو أولا أرشده إلى أن الله - تعالى - إنما يتقبل الأعمال من المتقين ، فإذا أراد أن يتقبل قربانه فعليه أن يكون منهم .
وأرشده ثانيا إلى حقوق الأخوة وما تقتضيه من محبة ومودة وتسامح .
وأرشده ثالثا إلى أنه لا يمنعه من بسط يده إليه إلا الخوف من الله رب العالمين .
وأرشده رابعاً إلى أن ارتكابه لجريمة القتل سيؤدي به إلى عذاب النار يوم القيامة ، بسبب قتله لأخيه ظلماً وحسداً .
فماذا كان وَقْعُ هذا النصح الحكيم ، والإِرشاد القويم في نفس ذلك الإِنسان الحاسد الظالم ؟
لقد بين الله ذلك بقوله : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي، وإثمك الذي عملته قبل قتلي، {فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين}، يعني جزاء من قتل نفسا بغير جرم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك... وكأن قائلي هذه المقالة وجهوا تأويل قوله:"إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وإثْمِكَ": أي إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فحذف القتل واكتفى بذكر الإثم، إذ كان مفهوما معناه عند المخاطبين به.
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبل.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي، وذلك هو معنى قوله: "إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي". وأما معنى "وإثْمِكَ": فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصية الله جلّ ثناؤه في أعمال سواه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب لإجماع أهل التأويل عليه، لأن الله عزّ ذكره قد أخبرنا أن كلّ عامل فجزاء عمله له أو عليه، وإذا كان ذلك حكمه في خلقه فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرّم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله.
فإن قال قائل: أو ليس قتل المقتول من بني آدم كان معصية لله من القاتل؟ قيل: بلى، وأعْظِمْ بها معصية.
فإن قال: فإذا كان لله جلّ وعزّ معصية، فكيف جاز أن يريد ذلك منه المقتول ويقول: إنّي أُرِيدُ أنْ تَبُوءَ بإثْمِي وقد ذكرت أن تأويل ذلك: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ فمعناه: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني لأني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باء به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبة له الدخول في الخطأ.
"فَتَكُونَ مِنْ أصَحابِ النّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمينَ": فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها. "وذَلِكَ جَزَاءُ الظّالِمِينَ "يقول: والنار ثواب التاركين طريق الحقّ الزائلين عن قصد السبيل، المتعدين ما جعل لهم إلى ما لم يجعل لهم. وهذا يدلّ على أن الله عزّ ذكره قد كان أمر ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد، ولولا ذلك ما قال المقتول للقائل: فتكون من أصحاب النار بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، وحدثنا سفيان، قال: حدثنا جرير وأبو معاوية (ح)، وحدثنا هناد، قال: حدثنا أبو معاوية، ووكيع جميعا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرّة، عن مسروق، عن عبد الله، قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْما إلاّ كانَ على ابْنِ آدَمَ الأوّلِ كِفْلٌ مِنْها، ذَلِكَ بأنه أَوّل مَنْ سَنّ القَتْلَ».
وبهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين أن القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذَين ذكرهما الله في هذا الموضع أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل، وأن القول الذي حكي عنه، أن أوّل من مات آدم، وأن القربان الذي كانت النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل خطأ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قتل أخاه أنه أوّل من سنّ القتل، وقد كان لا شكّ القتل قبل إسرائيل، فكيف قبل ذرّيته وخطأ من القول أن يقال: أوّل من سنّ القتل رجل من بني إسرائيل. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال: هو ابن آدم لصلبه، لأنه أوّل من سنّ القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
..والمراد: إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك؛ لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم، إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها. ومعنى تبوء ترجع، يقال: باء، إذا رجع إلى المَبَاءَةِ وهي المنزل، وباؤوا بغضب الله: رجعوا، والبواء: الرجوع بالقود، وهم في هذه الأمر بَوَاءٌ أي سواء، لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
..فإن قلت: فكيف جاز أن يريد شقاوة أخيه وتعذيبه النار؟ قلت: كان ظالماً وجزاء الظالم حسن جائز أن يراد. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين} وإذا جاز أن يريده الله، جاز أن يريده العبد؛ لأنه لا يريد إلا ما هو حسن. والمراد بالإثم وبال القتل وما يجره من استحقاق العقاب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
..وقوله: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك} الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوماً سيستنصر الله لي في الآخرة. وتبوء معناه: تمضي متحملاً.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
..فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوأ قابيل بالإثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإنما أراد: إن قتلتني أردت أن تبوأ بالإثم، وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، تقديره: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك، فحذف "لا "كقوله: {وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [لقمان: 10] أي: أن لا تميد بكم. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوأ بإثمي وإثمك، وبطلان أن تبوأ بإثمي وإثمك، فحذف ذلك، وقامت "أن" مقامه. كقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93] أي: حب العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
السؤال الثاني: كما لا يجوز للإنسان أن يريد من نفسه أن يعصي الله تعالى فكذلك لا يجوز أن يريد من غيره أن يعصي الله، فلم قال: {إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك}.
والجواب من وجوه: الأول: قد ذكرنا أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله، وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل به، وكأنه لما وعظه ونصحه قال له: وإن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلابد وأن تترصد قتلي في وقت أكون غافلا عنك وعاجزا عن دفعك، فحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان، وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن يكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن يكون أنت، فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن المعلوم أن إرادة صدور الذنب من الغير في هذه الحالة وعلى هذا الشرط لا يكون حراما، بل هو عين الطاعة ومحض الإخلاص.
والوجه الثاني في الجواب: أن المراد: إني أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله عقاب ظالمه، والثالث: روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم، فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوأ بإثمي في أنه يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي، وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأول، والله أعلم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} أي إني أريد بما ذكرت من اتقاء مقابلة الجناية بمثلها أن ترجع أنت إن فعلتها متلبسا بإثمي وإثمك، أي إثم قتلك إياي، وإثمك الخاص بك الذي كان من شؤمه عدم قبول قربانك، وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس (رض) وفيه وجه آخر، وهو أنه مبني على كون القاتل يحمل في الآخرة إثم من قتله إن كان له آثام، لأن الذنوب والآثام التي فيها حقوق للعباد لا يغفر الله تعالى منها شيئا حتى يأخذ لكل ذي حق حقه، وإنما القصاص في الآخرة بالحسنات والسيئات، فيعطى المظلوم من حسنات الظالم ما يساوي حقه إن كان له حسنات توازي ذلك، أو يحمل الظالم من آثام المظلوم وأوزاره ما يوازي ذلك إن كان له آثام وأوزار، وما نقص من هذا أو ذاك، يستعاض عنه بما يوازيه من الجزاء أو النار. وفي ذكر المتكلم إثمه وإثم أخيه تواضع وهضم لنفسه بإضافة الإثم إليها على الوجه الثاني، وتذكير للمخاطب بأنه ليس له حسنات توازي هذا الظلم الذي عزم عليه، ولذلك رتب عليه قوله: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ} أي تكون بما حملت من الإثمين من أهل النار في الآخرة لأنك تكون ظالما، والنار جزاء كل ظالم، فتكون من أهلها حتما. ترقى في صرفه عن عزمه من التبرؤ إليه من سبب حرمانه من قبول قربانه ببيان سبب التقبل عند الله تعالى وهو التقوى – إلى تنزيه نفسه من جزائه على جنايته بمثلها – إلى تذكيره بما يجب من خوف الله تعالى رب العالمين الذي لا يرضيه ممن وهبهم العقل والاختيار إلا أن يتحروا إقامة سننه في تربية العالم وإبلاغ كل حي يقبل الكمال إلى كماله – إلى تذكيره بان المعتدي يحمل إثم نفسه وإثم من اعتدى عليه بعدل الله تعالى في القصاص والجزاء – إلى تذكيره بعذاب النار، وكونها مثوى الظالمين الفخار. فماذا كان من تأثير هذه المواعظ، في نفس ذلك الحاسد الظالم؟ بين الله ذلك بقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين).. إذا أنت مددت يدك إلي لتقتلني، فليس من شأني ولا من طبعي أن أفعل هذه الفعلة بالنسبة لك. فهذا الخاطر -خاطر القتل- لا يدور بنفسي أصلا، ولا يتجه اليه فكري إطلاقا.. خوفا من الله رب العالمين.. لا عجزا عن إتيانه.. وأنا تاركك تحمل إثم قتلي وتضيفه إلى إثمك الذي جعل الله لا يتقبل منك قربانك؛ فيكون إثمك مضاعفا، وعذابك مضاعفا.. (وذلك جزاء الظالمين).. وبذلك صور له إشفاقه هو من جريمة القتل، ليثنيه عما تراوده به نفسه، وليخجله من هذا الذي تحدثه به نفسه تجاه أخ مسالم وديع تقي. وعرض له وزر جريمة القتل لينفره منه، ويزين له الخلاص من الإثم المضاعف، بالخوف من الله رب العالمين؛ وبلغ من هذا وذلك أقصى ما يبلغه إنسان في صرف الشر ودوافعه عن قلب إنسان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {تبوء} ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين. والأظهر في معنى قوله {بإثمي} مَا له من الآثام الفارطة في عمره، ومصدر {أن تبوء} هو مفعول {أريد}، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم. وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله: {وإثمك} تذكيراً له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى: {ليحملُوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم} [النحل: 25]. فعطفُ قوله: {وإثمك} إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده. وكذلك قوله: {فتكون من أصحاب النار} تذكيراً لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء. ومعنى {من أصحاب النّار} أي ممّن يطول عذابه في النّار، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموهَا.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأضاف هذا الأخ الصالح مخاطباً أخاه الذي أراد أن يقتله أنّه لا يريد أن يتحمل آثام الآخرين، قائلا له: (إِنّي أريد أن تبوأ بإِثمي وإِثمك) أي لأنّك إِن نفذت تهديدك فستتحمل ذنوبي السابقة أيضاً، لأنّك سلبت مني حق الحياة وعليك التعويض عن ذلك، ولما كنت لا تمتلك عملا صالحاً لتعوض به، فما عليك إِلاّ أن تتحمل إثمي أيضاً، وبديهي أنك لو قبلت هذه المسؤولية الخطيرة فستكون حتماً من أهل النار، لأنّ النار هي جزاء الظالمين كما تقول الآية: (فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين).
-إِن القرآن الكريم لم يذكر في هذه الآية ولا في آيات أُخرى أي اسم لأبناء آدم (عليه السلام).
- إِنّ المعروف عن «القربان» هو أنّه كل شيء يحصل به التقرب إلى الله، لكن القرآن الكريم لم يذكر شيئاً عن ماهية القربان الذي قدمه ولدا آدم،. 3 -لم يرد في القرآن أي توضيح عن الأسلوب الذي عرف به ابنا آدم قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر عند الله كن بعض المفسّرين يعتقدون أنّ قبول ورفض القربانين إِنّما أعلنا عن طريق الوحي لآدم (عليه السلام). 4- يستنتج من هذه الآيات بصورة جلية أنّ مصدر أولى النزاعات والجرائم في العالم الإِنساني هو «الحسد» ويدلنا هذا الموضوع على خطورة هذه الرذيلة الأخلاقية وأثرها العجيب في الأحداث الاجتماعية.