123- ولله - وحده - علم كل غيب في السماوات والأرض ، فيعلم ما سيحل بكم ، وما يكون لنا ، وإليه وحده يرجع تصريف كل أمر من الأمور ، وإذا كان الأمر كذلك ، فاعبد - ربك وحده - وتوكل عليه ، ولا تخش أحداً سواه ، وما ربك بغافل عما تعملون جميعاً - أيها المؤمنون والكافرون - وسيجازى كلا بما يستحقه في الدنيا والآخرة .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بهذه الآية الجامعة فقال : { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .
أى : ولله - تعالى - وحده علم جميع ما غاب عن الحواس فى السموات والأرض ، وإليه وحده يرجع الأمر كله من إحياء وإماتة ، وهداية وضلال ، وصحة ومرض ، ونصر وهزيمة .
وما دام الأمر كذلك { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } أى : فأخلص له العبادة ، واجعل توكلك عليه وحده .
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو مطلع وبصير بأعمال عباده جميعا ، لا يعزب عنه مثقال ذرة منها ، وسيجازى الذين أساءوا بما عملوا ، ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
( ولله غيب السماوات والأرض ) . .
والأمر كله إليه . أمرك وأمر المؤمنين ، وأمر الذين لا يؤمنون ، وأمر هذا الخلق كله ما كان في غيبه وما سيكون .
فهو الجدير وحده بالعبادة والدينونة .
فهو الولي وحده والنصير . وهو العليم بما تعملون من خير وشر ، ولن يضيع جزاء أحد :
( وما ربك بغافل عما تعملون ) . .
وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة ، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في النهاية . بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده . والرجعة إليه في نهاية المطاف . وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون . .
وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام ، والتناسق بين القصص والسياق ، بكمال النظرة والفكرة والاتجاه في هذا القرآن . ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . .
وبعد . فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها - بل المتتبع للقرآن المكي كله - يجد أن هناك خطا أصيلا ثابتا عريضا عميقا ، هو الذي ترتكز عليه ؛ وهو المحور الذي تدور حوله ؛ وإليه ترجع سائر خطوطها ، وإليه تشد جميع خيوطها كذلك . . إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله . . وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلا . .
وسنحتاج - في التعقيب الإجمالي على هذه السورة - أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا المحور - كما يتجلى في سياق السورة - وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئا ما . ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به ، ربطا لأجزاء هذا التعقيب الأخير :
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله . . سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد [ ص ] أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى االتاريخ البشري . أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله [ ص ] إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية . .
إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله . . هي التركيز على الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة غيره . . وتقرير أن هذا هو الدين كله . . وإقامة الوعد والوعيد ، والحساب والجزاء ، والثواب والعقاب ، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة . . كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها . .
فيبقى هنا أن نجلي أولا طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة ، وقيمة هذه الطريقة :
إن حقيقة توحيد العبادة لله ترد في صيغتين هكذا :
( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . . . ) . .
( ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير . . . ) . .
وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي . . فهل مدلولهما واحد ؟ إن مدلول الصيغة الأولى : الأمر بعبادة الله ، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه . . ومدلول الصيغة الثانية : النهي عن عبادة غير الله . .
والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه . . ولكن الأول " منطوق " والآخر " مفهوم " . . ولقد اقتضت حكمة الله - في بيان هذه الحقيقة الكبيرة - عدم الاكتفاء بالمفهوم ، في النهي عن عبادة غير الله . وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل . وإن كان مفهوما ومتضمنا في الأمر الأول !
إن هذا يعطينا إيحاء عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة ، ووزنها في ميزان الله سبحانه ، بحيث تستحق ألا توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه ؛ وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا بالمفهوم المتضمن ! ولا بالمقتضى اللازم !
كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها . . عبادة الله . وعدم عبادة سواه . . أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء . وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه ؛ وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده . . ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله ، ولا يتركون عبادته ، ولكنهم مع هذا - يعبدون معه غيره ؛ فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون !
ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معا ؛ بحيث يؤكد أحدهما الآخر ، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة . .
وقد تكرر مثل هذا التعبير القرآني في مواضع شتى ؛ هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها :
( ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير : ألا تعبدوا إلا الله ، إنني لكم منه نذير وبشير . . ) [ هود : 1 - 2 ]
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه : إني لكم نذير مبين : ألا تعبدوا إلا الله ، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم . . . ) [ هود : 25 - 26 ]
( وإلى عاد أخاهم هودا ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، إن أنتم إلا مفترون . . )[ هود : 50 ]
( وقال الله : لا تتخذوا إلهين اثنين . إنما هو إله واحد . فإياي فارهبون ) . . .
( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا . ولكن كان حنيفا مسلما . وما كان من المشركين ) . .
( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا . وما أنا من المشركين ) . . .
وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد ، له دلالته من غير شك . سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة ، وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها . أو في دلالة هذه الطريقة على علم الله - سبحانه - بطبيعة الكائن الإنساني ، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة ، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش ، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو ، الذي يتجلى فيه القصد والعمد . . ولله الحكمة البالغة . . وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير .
ثم نقف أمام مدلول مصطلح " العبادة " الوارد في السورة - وفي القرآن كله - لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة غيره . وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق ، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة .
لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه - في هذه السورة - ما هو مدلول مصطلح " العبادة " الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية ؛ كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل الكرام ، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام . . فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات :
إن إطلاق مصطلح " العبادات " على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل ، في مقابل إطلاقمصطلح : " المعاملات " على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل . . إن هذا جاء متأخرا عن عصر نزول القرآن الكريم ؛ ولم يكن هذا التقسيم معروفا في العهد الأول .
ولقد كتبنا من قبل في كتاب " خصائص التصور الإسلامي ومقوماته " شيئا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات :
" إن تقسيم النشاط الإنساني إلى " عبادات " و " معاملات " مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة " الفقه " . ومع أنه كان المقصود به - في أول الأمر - مجرد التقسيم " الفني " الذي هو طابع التأليف العلمي ، إلا أنه - مع الأسف - أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور ، تبعها - بعد فترة - آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها ؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة " العبادة " إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط ، الذي يتناوله " فقه العبادات " . بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط ، الذي يتناوله " فقه المعاملات " ! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه . فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي .
" ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى " العبادة " أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف . والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة ، أولا وأخيرا .
" وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم ، ونظام الاقتصاد ، والتشريعات الجنائية ، والتشريعات المدنية ، وتشريعات الأسرة . وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج
" ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى " العبادة " في حياة الإنسان . . والنشاط الإنساني لا يكون متصفا بهذا الوصف ، محققا لهذه الغاية - التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني - إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني ؛ فيتم بذلك إفراد الله - سبحانه - بالألوهية ؛ والاعتراف له وحده بالعبودية . . وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية . أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله . أي خروج عن دين الله !
" وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم " العبادات " وخصوها بهذه الصفة - على غير مفهوم التصور الإسلامي - حين تراجع في مواضعها في القرآن ، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها . وهي أنها لم تجيء مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم " المعاملات " . . إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني ، ومرتبطة في المنهج التوجيهي . باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج " العبادة " التي هي غاية الوجود الإنساني ، وتحقيقا لمعنى العبودية ، ومعنى إفراد الله - سبحانه - بالألوهية .
" إن ذلك التقسيم - مع مرور الزمن - جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا " مسلمين " إذا هم أدوا نشاط " العبادات " - وفق أحكام الإسلام - بينما هم يزاولون كل نشاط " المعاملات " وفق منهج آخر . . لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر . . ! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله !
" وهذا وهم كبير . فالإسلام وحدة لا تنفصم . وكل من يفصمه إلى شطرين - على هذا النحو - فإنما يخرج من هذه الوحدة ، أو بتعبير آخر : يخرج من هذا الدين .
" وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه ؛ ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني "
فالآن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية . . بل أنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية ! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو " الدينونة " لله وحده في أمر كله ، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله . ولقد فسر رسول الله [ ص ] " العبادة " نصا بأنها " الاتباع " وليست هي الشعائر التعبدية ، وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى ، واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا : " بلى إنهم أحلوا لهم الحرام ، وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " . . إنما أطلقت لفظة " العبادة " على " الشعائر التعبدية " باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون . صورة لا تستغرق مدلول العبادة ، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة ! . .
ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء : " إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات ؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان ! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد ، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن ، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء .
" إن توحيد الألوهية ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد القوامة ، وتوحيد الحاكمية ، وتوحيد مصدر الشريعة ، وتوحيد منهج الحياة ، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة . . إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل ، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود ، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلم على مدار الزمان . . لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه . فالله سبحانه غني عن العالمين . ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان ، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء " . .
وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بيانا في هذا التعقيب الختامي الأخير .
فالآن نبين إجمالا قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء :
ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد - على هذا النحو الشامل - في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي ، وحاجته الفطرية ، وتركيبه الإنساني . . أثرها في تصوره . . وأثر هذا التصور في كيانه :
" إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل - بكل معاني الشمول - يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها ، وبكل أشواقها ، وبكل حاجاتها ، وبكل اتجاهاتها ، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها ، جهة تطلب عندها كل شيء ، وتتوجه إليها بكل شيء . جهة واحدة ترجوها وتخشاها ، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء ، لأنها خالقة كل شيء ، ومالكة كل شيء ، ومدبرة كل شيء .
" كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد ، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها ، وقيمها وموازينها ، وشرائعها وقوانينها . وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والإنسان ، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام .
" عندئذ تتجمع هذه الكينونة . . تتجمع شعورا وسلوكا ، وتصورا واستجابة . في شأن العقيدة والمنهج .
وشأن الاستمداد والتلقي . وشأن الحياة والموت . وشأن السعي والحركة . وشأن الصحة والرزق . وشأن الدنيا والآخرة . فلا تتفرق مزقا ؛ ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق ، ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق !
" والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو ، تصبح في خير حالاتها . لأنها تكون حينئذ في حالة " الوحدة " التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها . . فالوحدة هي حقيقة الخالق - سبحانه - والوحدة هي حقيقة هذا الكون - على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال - والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء - على تنوع الأنواع والأجناس - والوحدة هي حقيقة الإنسان - على تنوع الأفراد والاستعدادات - والوحدة هي غاية الوجود الإنساني - وهي العبادة - على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها - وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود . .
" وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق " الحقيقة " في كل مجالاتها ، تكون في أوج قوتها الذاتية ؛ وفي أوج تناسقها - كذلك - مع " حقيقة " هذا الكون الذي تعيش فيه ، وتتعامل معه ؛ ومع " حقيقة " كل شيء في هذا الوجود ، مما تتأثر به وتؤثر فيه . . وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار ، وأن تؤدي أعظم الأدوار .
" وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل ، صنع الله بها في الأرض أدوارا عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني ، وفي كيان التاريخ الإنساني . .
" وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى - وهي لا بد كائنة بإذن الله - سيصنع الله بها الكثير ، مهما يكن في طريقها من العراقيل . ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشيء قوة لا تقاوم ؛ لأنها من صميم قوة هذا الكون ؛ وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضا .
" . . . إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني . وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله - بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة ، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق . فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله ؛ وحين يصبح كل نشاط فيها - صغر أم كبر - جزءا من هذه العبادة ؛ أو كل العبادة ، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه . وهو إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية . . هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه ؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه . وهو المقام الذي بلغه رسول الله [ ص ] في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها . مقام تلقي الوحي من الله . ومقام الإسراء أيضا :
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالميين نذيرا . . . [ الفرقان : 1 ] .
( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله . لنريه من آياتنا ، إنه هو السميع البصير ) . . . [ الإسراء : 1 ] .
وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية :
إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره ؛ وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية ، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر - غير النظام الإسلامي - يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية ، في صورة من صورها الكثيرة . . .
سواء عبودية الاعتقاد ، أو عبودية الشعائر ، أو عبودية الشرائع . . فكلها عبودية ؛ وبعضها مثل بعض ؛ تخضع الرقاب لغير الله ؛ بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين ! لا بد للناس من دينونة . والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله ؛ في كل جانب من جوانب الحياة !
إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط . ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة :
( والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ، والنار مثوى لهم ) . . . [ محمد : 12 ]
ولا يخسر الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته ، ويندرج في عالم البهيمة ، وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص من الدينونة لله وحده ، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة .
ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد . . يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم ، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم - سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم ، أو في طبقة حاكمة ، أو في جنس حاكم - فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها . .
ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين . . فهذه هي الصورة الصارخة ، ولكنها ليست هي كل شيء ! . . إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية ؛ ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة ! ونضرب مثالا لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلا ! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدا من البشر ؟ . . كل الذين يسمونهم متحضرين . . ! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء - سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات . . . الخ . . ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها ؛ أو يفكر في الخروج عنها ! ولو دان الناس - في هذه الجاهلية " الحضارية ! " لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادا متبتلين ! . . فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه ؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضا ؟ !
وإن الإنسان ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة ، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها ، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها ، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية ! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها ردا ، ولا تقوى على رفض الدينونة لها ، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها . فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه ؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك ؟ !
وليس هذا إلا مثلا واحدا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده ؛ وحين يدينون لغيره من العبيد . . وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ، ولعبودية البشر للبشر !
وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد ، في صورة من صور الدينونة . . سواء في صورة حاكمية التشريع ، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد ، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور . .
إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي ؛ والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها ؛ وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها ؛ وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال - وأحيانا من الأولاد ! - تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف ؛ ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة ، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب ! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت ! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار ! ومن . . ومن . . من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء ، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم ، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء !
وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات ! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع - إلى جانب الأعراض والأخلاق - في سبيل هذه الأرباب
إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ ؛ وعلى تصفيف الشعر وكيه ؛ وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاما بعد عام ، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلى المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء ! . . . إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة . . إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال . ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب ! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء !
وأخيرا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية . . وما من أضحية يقدمها عابد الله لله ، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة ! من الأموال والأنفس والأعراض .
وتقام أصنام من " الوطن " ومن " القوم " ومن " الجنس " ومن " الطبقة " ومن " الإنتاج " . . . ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب . .
وتدق عليها الطبول ؛ وتنصب لها الرايات ؛ ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد . . وإلا فالتردد هو الخيانة ، وهو العار . . وحتى حين يتعارض العرض . مع متطلبات هذه الأصنام ، فإن العرض هو الذي يضحى ؛ ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم ! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام
إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ؛ ليعبد الله وحده في الأرض ؛ وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام ، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان . . إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله ! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذ هم جاهدوا في سبيل الله ، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد ، وفوقها الأخلاق والأعراض . . إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله ؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار !
وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده ، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه ، ذو قيمة
كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة . كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض ، وترقيتها ، وترقية الحياة فيها .
وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء . . وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ، ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون الله . . احتاج هذا الطاغوت كي يعبد [ أي يطاع ويتبع ] إلى أن يسخر كل القوى والطاقات ؛ أولا لحماية شخصه . وثانيا لتأليه ذاته . واحتاج إلى حواش وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده ، وترتل ذكره ، وتنفخ في صورته " العبدية " الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان " الألوهية " العظيمة ! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة ! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها . وحشد الجموع - بشتى الوسائل - للتسبيح باسمها ، وإقامة طقوس العبادة لها . . . !
وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا . لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل . وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد !
وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال - وأرواح أحيانا وأعراض ! - لو أنفق بعضها في عمارة الأرض ، والإنتاج المثمر ، لترقية الحياة البشرية وإغنائها ، لعاد على البشرية بالخير الوفير . . ولكن هذه الطاقات والأموال - والأرواح أحيانا والأعراض - لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده ؛ وإنما يدينون للطواغيت من دونه .
ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده ؛ وعبادة غيره من دونه . . وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض ، والقيم والأخلاق . وفوق الذل والقهر والدنس والعار !
وليس هذا في نظام أرضي دون نظام ، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات .
" ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده ، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكمهوهم بغير شريعته ، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره . العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم ، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة .
" لقد هربت أوربا من الله - في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف - وثارت على الله - سبحانه - في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة ! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم - ومصالحهم كذلك - في ظل الأنظمة الفردية [ الديمقراطية ] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية ، والأوضاع النيابية البرلمانية ، والحريات الصحفية ، والضمانات القضائية والتشريعية ، وحكم الأغلبية المنتخبة . . . إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة . . ثم ماذا كانت العاقبة ؟ كانت العاقبة هي طغيان " الرأسمالية " ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات ، وكل تلك التشكيلات ، إلى مجرد لافتات ، أو إلى مجرد خيالات ! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال ،
فتملك معه الأغلبية البرلمانية ! والدساتير الوضعية ! والحريات الصحفية ! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم ، في معزل عن الله سبحانه ! ! !
" ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغي فيها " رأس المال " و " الطبقة " إلى الأنظمة الجماعية ! فماذا فعلوا ؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة " الرأسماليين " الدينونة لطبقة " الصعاليك " ! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان ! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين !
" وفي كل حالة ، وفي كل وضع ، وفي كل نظام ، دان البشر فيه للبشر ، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة . دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال .
" إنه لا بد من عبودية ! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله . . والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء . . والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم . ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية .
" من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله - سبحانه - وفي كتبه . . وهذه السورة نموذج من تلك العناية . . فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة . ولكنها تتعلق بالإنسان كله ، في كل زمان وفي كل مكان ؛ وتتعلق بالجاهليات كلها . . جاهليات ما قبل التاريخ ، وجاهليات التاريخ . وجاهلية القرن العشرين . وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد " .
والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية : أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها - وهذه السورة نموذج منها - أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية - التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة - هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام ؛ وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام !
إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم . وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد . وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق . . ثم هي بعد - بعد ذلك لا قبله - قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام ؛ وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام . وتنفذ فيها الأحكام .
وكذلك فإن قضية " العبادة " ليست قضية شعائر ؛ وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة . . وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين . . واستحقت كل هذه الرسل والرسالات . واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات .
والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة ؛ ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية :
لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم
عليه السلام أبي البشر الأول ، ثم على يدي نوح - عليه السلام - أبي البشر الثاني . . ثم بعد ذلك على يدي كل رسول . . وأن الإسلام يعني توحيد الألوهية من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر ، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع : أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجه والتشريع .
ثم بينا كذلك أن الجاهلية - سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر ! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع - أو هما معا - كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم ، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم ؛ بالدينونة لغير الله - سبحانه - سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجرأو نجم أو كوكب ، أو روح أو أرواح شتى ؛ أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر : كاهن أم ساحر أم حاكم . . فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك ، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية .
ومن هذا التتابع التاريخي - الذي يقصه الله سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن ؛ وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه . .
خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية ، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم - وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ - ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل ؛ ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح ! - وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة المصرية القديمة ؛ فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد - ولو على سبيل الاحتمال - وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف - عليه السلام - وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم - حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف - :
( إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله ، وهم بالآخرة هم كافرون . واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون . يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيم ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . . . [ يوسف : 37 - 40 ]
وهم إنما يفعلون ذلك ، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني ، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوروبية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ . فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها ، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها . ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء ، لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة ، قبل البدء في البحث !
وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه . لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه ، والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس ، حتى صارت من أصول المنهج !
أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه . هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع . .
على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها ؛ فإن تقريراته مخالفة مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم . . وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول الله سبحانه في مسألة من المسائل ؛ فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه " مسلم " أن يأخذ بتلك النتائج . ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية ، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري ، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية . . قاطعة ، وغير قابلة للتأويل . فهي مما يقال عنه : إنه معلوم من الدين بالضرورة . وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر ، أن يختار بين قول الله سبحانه وقول علماء الأديان . أو بتعبير آخر : أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام ! لأن قول الله في هذه القضية منطوق وصريح ، وليس ضمنيا ولا مفهوما !
وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير . . إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري ؛ والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية ؛ والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه ، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه ، إلى الجاهلية ؛ فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث الله للناس رسولا يردهم إلى الإسلام . ويخرجهم من الجاهلية . وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير الله سبحانه من الأرباب المتفرقة . . وأول ما يردهم إليه هو الدينونة لله وحده في أمرهم كله ، لا في الشعائر التعبدية وحدها ، ولا في الاعتقاد القلبي وحده .
إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم ، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك . .
إن البشرية اليوم - بجملتها - تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول - محمد [ ص ] - وهي جاهلية تتمثل في صور شتى :
بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه ، وإنكار لوجوده . . فهي جاهلية اعتقاد وتصور ، كجاهلية الشيوعيين .
وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه ، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة ، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم . . وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك .
وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود الله سبحانه ، وأداء للشعائر التعبدية . مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة . وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم " مسلمين " ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه - بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية ؛ مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين ؛ ومع استسلامهم ودينونتهم لغير الله من العبيد !
وكلها جاهلية . وكلها كفر بالله كالأولين . أو شرك بالله كالآخرين . .
إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح ؛ تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة ، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة ، كان آخرها الإسلامالذي جاء به محمد [ ص ] . . وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي ، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية ؛ ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة .
إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى ، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها . على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي : وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده ، وتقديم الشعائر التعبدية لله وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده . . وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام ؛ ولا تحتسب للناس صفة المسلمين ؛ ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك . وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا ، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية ، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا . .
إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام . فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية ، ليرد الناس إلى الله مرة أخرى ، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده . .
ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية . . فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية ؛ وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي - وهي تحسبه مجتمعا مسلما - وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية ، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا ، لا من حيث تزعم ! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع . . بعيدة جدا . .
ونقف الوقفة الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم . واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية ؛ كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة :
لقد أرسل كل رسول إلى قومه . وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلاء . يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته ؛ ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه الله إليه ؛ والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه .
هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء . . ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام !
لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم . . عبدوا الله وحده كما طلب إليهم ، وخلعوا مكن أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه . . وبذلك صاروا مسلمين . . صاروا " أمة مسلمة " . . ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه . كفروا بما جاءهم به ؛ وظلوا في دينونتهم لغير الله من خلقه ؛ وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام . . ولذلك صاروا " أمة مشركة " . .
لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين : أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة . مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة . إلا أن آصرة الجنس والأرومة ، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة . . لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة . . لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه . . تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونة . . وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد ، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان ، ولا تتعايشان !
ذلك أنه بعد برزو هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين ؛ فاصل الرسول والأمة المسلمة التي معه قومهمعلى أساس العقيدة والمنهج والدينونة . فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم . . لقد افترق المنهجان ، فاختلفت الجنسيتان . وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان !
وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل الله بينهما ؛ فأهلك الأمة المشركة ، ونجى الأمة المسلمة . . واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة . .
والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه : أن الله سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم ، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم ؛ وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك ؛ وعالنوهم بأنهم يدينون لله وحده ، ولا يدينون لأربابهم الزائفة ؛ ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة ؛ ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها الله . سواء تعلقت بالاعتقاد ، أو بالشعائر ، أو بالشرائع .
إن يد الله سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين ، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون . . وما دام ، المسلمون لم يفاصلوا قومهم ، ولم يتبرأوا منهم ، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم ، ومنهجهم عن منهجهم ، وطريقهم عن طريقهم ، لم تتدخل يد الله سبحانه للفصل بينهم وبينهم ، ولتحقيق وعدالله بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين . .
وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها ؛ وأن ترتب حركتها على أساسها :
إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام ؛ والدينونة لله وحده بلا شريك ؛ ونبذ الدينونة لأحد من خلقه - في صورة من صور الدينونة - ثم ينقسم القوم الواحد قسمين ، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون لله وحده صفا - أو أمة - ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق الله صفا آخر . . ثم يفاصل المؤمنون المشركين . . ثم يحق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين . . كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري .
ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية . ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى .
ولقد يبطيء الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد ؛ وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر . . ولكن وعد الله بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال . فهو لا شك آت . ولن يخلف الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري .
ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة . فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان . . وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة ؛ وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية . فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها ، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام ، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك . مستيقنة أن سنة الله جارية مجراها ، وأن العاقبة للتقوى .
وأخيرا ، فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين ، كما يتمثل في القرآن الكريم . . إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية .
لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله [ ص ] في مكة . والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها ، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية ! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق ؛ ويريهم معالمه في مراحله جميعا ؛ ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق ؛ وقد بات لاحبا موصولا بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري ؛ وبات بهذا الركب الكريم مأنوسا مألوفا لا موحشا ولا مخوفا ! . . إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف ؛ وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع ! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية ؛ ولا يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة !
هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم ؛ ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة . . وهكذا يمكن اليوم وغدا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي ، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم . .
إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه . تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها ؛ وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات ؛ وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق
والقرآن - بهذه الصورة - لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة . ولكنه ينتفض حيا يتن
وقوله تعالى : { ولله غيب السماوات والأرض } الآية ، هذه آية تعظم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه ، وهو علم الغيب ، وتبين أن الخير والشر ، وجليل الأشياء وحقيرها - مصروف إلى أحكام مالكه{[6548]} ، ثم أمر البشر بالعبادة والتوكل على الله تعالى ، وفيها زوال همه وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله .
وقرأ السبعة - غير نافع - «يرجعُ الأمرُ » على بناء الفعل للفاعل ، وقرأ نافع وحفص عن عاصم : «يُرجع الأمرُ » على بنائه للمفعول ورواها ابن أبي الزناد عن أهل المدينة ، وقرأ «تعملون » بالتاء من فوق ، نافع وابن عامر وحفص عن عاصم ، وهي قراءة الأعرج والحسن وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمرو وقتادة والجحدري ، واختلف عن الحسن وعيسى ، وقرأ الباقون «يعملون » بالياء على كناية الغائب .
كلام جامع وهو تذييل للسورة مؤذن بختامها ، فهو من براعة المقطع . والواو عاطفة كلاماً على كلام ، أوْ واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير .
واللاّم في { لله } للملك وهو ملك إحاطة العلم ، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض . وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وُعدوا من النعيم المغيب عنهم ، ونذارة المشركين بما تُوعَدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة .
وتقديم المجروريْن في { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر } لإفادة الاختصاص ، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض ، لأنّ ذلك ممّا لا يشاركه فيه أحد . وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله ، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره ، لأنّ من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد ، ومن كان كذلك كان حقيقاً بأن يفرد بالعبادة .
ومعنى إرجاع الأمر إليه : أنّ أمر التّدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله ، أي إلى علمه وقدرته ، وإنْ حسَب الناس وهيّأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد ، وكثيراً ما اعتزّ العزيز بعزّته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب ، وربّما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة .
والتعريف في { الأمر } تعريف الجنس فيعمّ الأمور ، وتأكيد الأمر ب { كله } للتّنصيص على العموم .
وقرأ مَن عدا نافعاً { يرجع } ببناء الفعل بصيغة النائب ، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله . وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون ( الأمر ) هو فاعل الرجوع ، أي يرجع هو إلى الله .
وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصَرّف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به ، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرّف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجوّل الباحث عن مكان يستقرّ به ثم إيوائه إلى المقرّ اللائق به ورجوعه إليه ، فهي تمثيلية مكنية رُمز إليها بفعل { يرجع } وتعديته ب { إليه } .
وتفريع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكّل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر ، لأنّ الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكّل عليه في كلّ مهم . وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكّلوا على شفاعة الآلهة ونفعها . ويتضمّن أمر النبي عليه الصلاة والسّلام بالدّوام على العبادة والتوكّل .
والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكّل عليه دون غيره بقرينة { وإليه يرجع الأمر كلّه } ، وبقرينة التفريع لأنّ الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكّل إلى غيره ، فلذلك لم يؤْتَ بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما .
وجملة { وما ربك بغافل عَمّا تعملون } فذلكة جامعة ، فهو تذييل لما تقدّم . والواو فيه كَالْوَاو في قوله : { ولله غيبُ السّماوات والأرض } فإنّ عدم غفلته عن أيّ عمل أنّه يعطي كل عامل جزاء عمله إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشرّ ، ولذلك علّق وصف الغافل بالعمل ولم يعلّق بالذوات نحو : بغافل عنكم ، إيماء إلى أنّ على العمل جزاء .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب « عمّا تعملون » بتاء فوقية خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والناس معه في الخطاب . وقرأ من عداهم بالمثنّاة التحتيّة على أن يعود الضمير إلى الكفّار فهو تسلية للنبيء عليه الصلاة والسّلام وتهديد للمشركين .