الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (123)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولله غيب السماوات والأرض}، يقول: ولله غيب نزول العذاب، وغيب ما في الأرض، {وإليه يرجع الأمر كله}، يعني: أمر العباد يرجع إلى الله يوم القيامة، وذلك قوله: {وإلى الله ترجع الأمور} [البقرة:210]، يعني: أمور العباد، {فاعبده}، يعني: وحده، {وتوكل عليه}، يقول: وثق بالله، {وما ربك بغافل عما تعملون} هذا وعيد.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {ولله}، يا محمد، ملك كلّ ما غاب عنك في السماوات والأرض، فلم تطلع عيه ولم تعلمه، كلّ ذلك بيده وبعلمه، لا يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك، وما إليه مصير أمرهم من إقامة على الشرك، أو إقلاع عنه وتوبة.

{وإلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْر كُلّه}، ُ يقول: وإلى الله معاد كلّ عامل وعمله، وهو مجاز جميعهم بأعمالهم...

{وَمَا رَبّكَ بغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ}، يقول تعالى ذكره: وما ربك، يا محمد، بساه عما يعمل هؤلاء المشركون من قومك، بل هو محيط به لا يعزب عنه شيء منه، وهو لهم بالمرصاد، فلا يحزنك إعراضهم عنك ولا تكذيبهم بما جئتهم به من الحقّ، وامض لأمر ربك فإنك بأعيننا...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

... (وإليه يرجع الأمر كله) إليه يرجع أمر الخلق كله وتدبيرهم (فاعبده) أي اعبده في خاص نفسك (وتوكل عليه) في تبليغ الرسالة إليهم؛ أي لا يمنعك كيدهم ومكرهم بك عن تبليغ الرسالة، ولا تخافن منهم، فإن الله يحفظك من كيدهم ومكرهم بك كقوله: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67].

(وما ربك بغافل عما تعلمون) أي ما ربك بغافل عما يريدون بك من كيدهم ومكرهم، بل يعلم ذلك، وينصرك، وينتصر منهم...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

عمَّى عن قلوبهم العواقبَ، وأخفى دونهم السوابق، وألزمهم القيامَ بما كَلَّفهم في الحال، فقال: {فَاعْبُدْهُ} فإنْ تقسَّمَ القلبُ وتَرَجَّمَ الظَنُّ وخيف سوءُ العاقبة.. فتوكَّلْ عليه أي اسْتَدْفِعْ البلاَءَ عنك بِحُسْنِ الظَّنِّ، وجميل الأمل، ودوام الرجاء. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}: أحاط بكل شيءٍ عِلْماً، وأمضى في كل أمرٍ حُكْماً.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ} فلا بدّ أن يرجع إليه أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{ولله غيب السماوات والأرض} الآية، هذه آية تعظم وانفراد بما لا حظ لمخلوق فيه، وهو علم الغيب، وتبين أن الخير والشر، وجليل الأشياء وحقيرها -مصروف إلى أحكام مالكه، ثم أمر البشر بالعبادة والتوكل على الله تعالى، وفيها زوال همه وصلاحه ووصوله إلى رضوان الله...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تضمن هذا التهديد العلم والقدرة، قال عاطفاً على ما تقديره: فلله كل ما شوهد من أمرنا وأمركم وأمر عالم الغيب و الشهادة كله ما كان من ابتداء أمورنا {ولله} أي المحيط وحده بكل شيء مع ذلك {غيب السماوات والأرض} أي جميع ما غاب علمه عن العباد فهو تام العلم، ومنه ما ينهى عنه وإن ظن الجهلة أنه خارج عن قدرته لما أظهر من الزجر عنه ومن كراهيته. ولما كان السياق هنا لأنه سبحانه خلق الخلق ذواتهم ومعانيهم للاختلاف، وكان تهديدهم على المعاصي ربما أوهم أنه بغير إرادته، فكان ربما قال جاهل: أنا بريء من المخالفين لأوليائه كثيراً جداً، وعادة الخلق أن من خالفهم خارج عن أمرهم، كان الجواب على تقدير التسليم لهذا الأمر الظاهر: فله كان الأمر كله ظاهراً وباطناً {وإليه} أي وحده {يرجع} بعد أن كان ظهر للجاهل أن خرج عنه؛ والرجوع: ذهاب الشيء إلى حيث ابتدأ منه {الأمر كله} في الحال على لبس وخفاء، وفي المآل على ظهور واتضاح وجلاء، فهو شامل القدرة كما هو شامل العلم، فلا بد من أن يرجع إليه أمرك وأمر أعدائك، أي يعمل فيه عمل من يرجع إليه الأمر فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، ولذلك سبب عن إسناد الأمور كلها إليه قوله: {فاعبده} أي وحده عبادة لا شوب فيها {وتوكل} معتمداً في أمورك كلها {عليه} فإنه القوي المتين، وفي تقديم الأمر بالعبادة على التوكل تنبيه على أنه إنما ينفع العابد. ولما كانت العادة جارية بأن العالم قد يغفل، نزه عن ذلك سبحانه نفسه فقال مرغباً مرهباً: {وما ربك} أي المحسن إليك بما يعلمه بإحاطة علمه إحساناً، وأغرق في النفي فقال: {بغافل عما تعملون} ولا تهديد أبلغ من العلم، وهذا بعينه مضمون قوله تعالى {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير الا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير} [هود 1 -2].

محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :

{ولله غيب السماوات والأرض} أي فلا تخفى عليه خافية مما يجري فيهما، فلا تخفى عليه أعمالكم. {وإليه يرجع الأمر كله} أي أمر العباد في الآخرة، فيجازيهم بأعمالهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتهديد للكفار بالانتقام منهم. {فاعبده وتوكل عليه} فإنه كافيك {وما ربك بغافل عما تعملون} بالياء التحتية في قراءة الجمهور، مناسبة لقوله {للذين لا يؤمنون} وفي قراءة بالتاء الفوقية على تغليب المخاطب، أي أنت وهم. أي فيجازي كلا بما يستحقه والله أعلم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{فاعبده وتوكل عليه} أي وإذا كان له كل شيء، وإليه يرجع كل أمر، فاعبده كما أمرت بإخلاص الدين له وحده من عبادة شخصية قاصرة عليك، ومن عبادة متعدية النفع لغيرك، وهي الدعوة إلى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وتوكل عليه ليتم لك وعليك ما وعدك بما لا تبلغه استطاعتك، فالتوكل لا يصح بغير العبادة، والأخذ بالأسباب المستطاعة، وإنما يكون بدونهما من التمني الكاذب والآمال الخادعة، كما أن العبادة وهي ما يراد به وجه الله من كل عمل لا تكمل إلا بالتوكل الذي يكمل به التوحيد، قال صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني). رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم عن شداد بن أوس بسند صحيح. {وما الله بغافل عما تعملون} جميعا: ما تعمله أنت أيها النبي والمؤمنون من عبادته والتوكل عليه، والصبر على أذى المشركين، وتوطين النفس على مصابرتهم وجهادهم، فهو يوفيكم جزاءه في الدنيا والآخرة، وما يعمله المشركون من الكفر والكيد لكم،...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

كلام جامع وهو تذييل للسورة مؤذن بختامها، فهو من براعة المقطع. والواو عاطفة كلاماً على كلام، أوْ واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير. واللاّم في {لله} للملك وهو ملك إحاطة العلم، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض. وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وُعدوا من النعيم المغيب عنهم، ونذارة المشركين بما تُوعَدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة. وتقديم المجروريْن في {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض، لأنّ ذلك ممّا لا يشاركه فيه أحد. وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره، لأنّ من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد، ومن كان كذلك كان حقيقاً بأن يفرد بالعبادة. ومعنى إرجاع الأمر إليه: أنّ أمر التّدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله، أي إلى علمه وقدرته، وإنْ حسَب الناس وهيّأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد، وكثيراً ما اعتزّ العزيز بعزّته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب، وربّما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة. والتعريف في {الأمر} تعريف الجنس فيعمّ الأمور، وتأكيد الأمر ب {كله} للتّنصيص على العموم. وتفريع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكّل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر، لأنّ الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكّل عليه في كلّ مهم. وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكّلوا على شفاعة الآلهة ونفعها. ويتضمّن أمر النبي عليه الصلاة والسّلام بالدّوام على العبادة والتوكّل. والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكّل عليه دون غيره بقرينة {وإليه يرجع الأمر كلّه}، وبقرينة التفريع لأنّ الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكّل إلى غيره، فلذلك لم يؤْتَ بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما. وجملة {وما ربك بغافل عَمّا تعملون} فذلكة جامعة، فهو تذييل لما تقدّم. والواو فيه كَالْوَاو في قوله: {ولله غيبُ السّماوات والأرض} فإنّ عدم غفلته عن أيّ عمل أنّه يعطي كل عامل جزاء عمله إنْ خيراً فخير وإنْ شراً فشرّ، ولذلك علّق وصف الغافل بالعمل ولم يعلّق بالذوات نحو: بغافل عنكم، إيماء إلى أنّ على العمل جزاء...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{وَللَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} بما يعلمه من شؤون خلقه وأعمال عباده، وهو المسيطر على ذلك، فلا مهرب لأحدٍ منه، ولا ملجأ إلاّ عنده، لأن إرادته هي التي تحيط بكل شيء، وتصنع كل شيء، وتتدخل في كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} وليس لأحد معه شيء، فهو الواحد في ألوهيته، وهو المستحق للعبادة، {فَاعْبُدْهُ} ولا تعبد غيره، {وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} في كل أمورك، فلا تخف من أشباح الغيب التي يمكن أن يواجهك بها المجهول، الذي لا تملك أمره قدرة واختياراً، وتقدّم إلى حياتك ورسالتك بقوّة وثبات، فإن الله يكفي المتوكلين عليه من كل شر، {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فلا تغفلوا عن مراقبته، في كل عمل، لتخلصوا له وتطيعوه، فلا يصدنّكم الشيطان عن ذلك بوسوسته وتثبيطه، وكيده وحبائله وغروره، فيبعدكم عن الله، ويصرفكم عن الحق من حيث لا تشعرون، وتلك هي الرقابة الداخلية التي يريد القرآن إثارتها في وعي الإنسان، فيشعر بالحضور الإلهيّ في كل أموره وأعماله، فينضبط في موقع المسؤولية، ويثبت في مواقف الاهتزاز، لتحصل له العصمة من ربّه، في ما يرحم به عباده، وفي ما يفيضه عليهم من لطفه ورضوانه، إنه أرحم الراحمين...

ختام السورة:

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

الخلاصة الإجمالية لسورة هود عليه السلام وفيها ستة أبواب:

هذه السورة أشبه السور بسورة يونس التي قبلها في أسلوبها، وما اشتملت من أصول عقائد الإسلام التي بيناها في خلاصتها، من التوحيد، والبعث والجزاء، والعمل الصالح، وعاقبة الظلم والفساد في الأرض، وحجج القرآن، وإعجازه، والتحدي به، وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقصص الرسل عليهم السلام، وسنن الله في الأمم، ومناسبة لها في براعة المطلع والمقطع، كما بيناه في فاتحة هذه، ولكن في تلك من التفصيل في محاجة المشركين في التوحيد والقرآن والرسالة ما أجمل في هذه، وفي هذه من التفصيل في قصص الرسل ما أجمل في تلك. لهذا نختصر في خلاصتها الإجمالية فيما عدا قصص الرسل والبعث والجزاء وعاقبة الأقوام في الدنيا والآخرة. فنقول:

الباب الأول في توحيد الله تعالى وصفاته، وتدبيره لأمور عباده، وسننه في تصرفه فيهم بالرحمة والفضل، وجزائهم على أعمالهم بالعدل، والتنزه عن الظلم، وفيه ثلاث فصول:

الفصل الأول: في توحيد الربوبية والألوهية:

(1) توحيد الإلهية هو أول ما دعا إليه محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وأول ما دعا إليه جميع من قبله من رسل الله عز وجل، أعني عبادة الله وحده، وعدم عبادة شيء غيره أو معه، كما تراه بعد افتتاح السورة بذكر القرآن من خطابه تعالى لقومه وأمته بقوله في الآية الثانية {ألا تعبدوا إلا الله}، ومثله أول ما دعا إليه نوح عليه السلام في الآية [26] منها، وفي معناه أول ما دعا إليه هود في الآية [50]، وصالح في الآية [61]، وشعيب في الآية [84]: {قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}. وإن أكثر الذين يقرؤون القرآن أو يسمعونه وهم يأخذون عقائدهم المشوبة بالوثنية من تقاليد آبائهم الجاهلين لا من القرآن يظنون أن المراد بالعبادة في هذا الأمر والنهي عبادة الإسلام المنزلة من الصلاة والصيام ونحوهما مما جاء به أولئك الرسل أيضا، لأنهم يجهلون أن دعوته هذه هي أول ما وجهوه إلى المشركين غير المؤمنين بهم، قبل فرضية العبادات المنزلة عليهم، نهوهم بها عن عبادتهم الوثنية التقليدية، وهي دعاء غير الله لجلب النفع وكشف الضر، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، وشد الرحال لتعظيم غير الله تعظيما تعبديا يتقربون به إلى غير الله ليقربهم إلى الله، ويشفع لهم عنده، ويظنون أن المراد بغير الله من هذه المعبودات خاص بالأصنام كما يرون تفسيرها في مثل الجلالين، وأن دعاء الأنبياء والأولياء لدفع الضر وجلب النفع والنذور وتقريب القرابين لهم لا ينافي دين الله وتوحيده على هذا التفسير. والصواب المجمع عليه المعلوم من دين الإسلام بالضرورة ونصوص القرآن القطعية أنه لا فرق في عبادة غير الله بمثل ما ذكرنا بين الأصنام وغيرها من حجر وشجر وكوكب، أو بشر ولي أو نبي، أو شيطان أو ملك، إذا توجه العبد إليها توجها تعبديا ابتغاء نفع أو كشف ضر في غير العادات والأسباب التي سخرها الله لجميع الناس، فعبادة الملك أو النبي أو الولي كفر كعبادة الشيطان أو الوثن والصنم بغير فرق، إذ كل ما عدا الله فهو عبد وملك لله، لا يُتوجه إليه مع الله ولا من دون الله، ولا لأجل التقريب زلفى إلى الله، بل يتوجه في كل ما سوى العادات العامة إلى الله وحده كما أمر الله إبراهيم ومحمدا صلى الله عليه وسلم في كتابه، ولا فرق في هذا التوجه بين تسميته عبادة -كما كانت العرب تقول، وهي أعلم بلغتها- وبين تسميته توسلا أو استشفاعا كما فعل بعض المتأخرين، فالمعنى واحد لا يختلف حكمه باختلاف أسمائه.

(2) توحيد الربوبية:

الإله هو المعبود الذي يُتوجه إليه بالدعاء والتأله والخشوع الخاص بالإيمان بالسلطان الغيبي، والرب هو الخالق المربي والمدبر لعباده والمتصرف فيهم بذاته، ومقتضى حكمته ونظام سننه، وتسخيره الأسباب لمن شاء بما شاء، وكان أكثر مشركي العرب ومن قبلهم من أقوام الأنبياء يؤمنون بأن الرب الخالق المدبر واحد، وإنما يقولون بتعدد الآلهة التي يُتقرب إليها توسلا إلى الله وطلبا للشفاعة عنده، وكانت الأنبياء والرسل تقيم الحجة عليهم بأن توحيد الربوبية يقتضي توحيد الألوهية، إذ العبادة لا تصح ولا تنبغي إلا للرب وحده، وآيات القرآن في هذا كثيرة جدا. تأمل كيف خاطب الله أمة خاتم النبيين في الآية الثانية من هذه السورة بعبادته وحده، وفي الآية الثالثة عقبها باستغفار ربهم والتوبة إليه من كل ذنب ليمتعهم متاعا حسنا ويؤتي كل ذي فضل فضله، وتجد مثل هذا في قصة هود [52]، وفي قصة شعيب [90]، وتأمل كيف بين لنبيه في الآيتين 6 و 7 أنه {ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعا}، وأنه {هو الذي خلق السماوات والأرض} الخ، والمراد أن العبادة لا تصح ولا تنبغي إلا له سبحانه. ثم تأمل كيف أخبَر نوح -وهو أول الرسل قومَه، وهم أول من ابتدع الشرك بالغلو في تعظيم الصالحين -في الآية [31] بأنه ليس عنده خزائن الله فيقدر على رزقهم أو نفعهم، وأنه لا يعلم الغيب، ولا يقول إنه ملك يتصرف في تدبير العالم بإقدار الله إياه على ذلك كما فعلوا، إذ صاروا يدعون غير الله من المقربين عنده والمقربين إليه بزعمهم، وتقدم مثلها عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الآية [50] من سورة الأنعام، وفي معناهما من سورة الأعراف [الآية: 187]، ومن سورة يونس [الآية: 49]. ثم تأمل في قصة هود آية [56] {إني توكلت على الله ربي وربكم} الخ، وفي معناه توكل شعيب في الآية [88].

ثم ختم السورة بأمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه بقوله {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه} [هود: 123]، فجمع بين العبادة -وهي أعلى توحيد الألوهية- والتوكل -وهو أعلى توحيد الربوبية-، ونعزز هذه الشواهد بما يأتي عن الرسل عليهم السلام في الباب الثالث ولا سيما الفصل الثالث منه.

الفصل الثاني: في صفاته تعالى في السورة من صفات الذات والأفعال:

الحكيم العليم القدير الوكيل الغفور الرحيم الحفيظ القريب المجيب القوي العزيز الرقيب الودود البصير، فمنها ما وصف به تعالى مفردا، وما وصف به مقترنا بغيره، وما اتصل بمتعلقه، ولكل منها أتم المناسبة لموضوعه في موضعه مما يُذَكِّر المتدبرَ له بتدبيره تعالى لأمور عباده، ويزيده إيمان بمعرفة جلاله وجماله، وكماله في صفاته وأفعاله، ورحمته وإحسانه للمحسنين، وتربيته وعقابه للمجرمين والظالمين، وحسبُك شاهدا عليه في نفسك تدبر إحاطة علمه تعالى بما تُسر وتُعلن في الآية الخامسة {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور}. فلا تغفلن عن هذه المعاني أيها التالي للقرآن أو المستمع له،فيفوتك من العرفان وغذاء الإيمان ما أنت في أشد الحاجة إليه لتزكية نفسك، التي هي أقرب الوسائل لفلاحك وسعادتك، فإن تأمل هذه الأسماء في مواضعها من بيان شؤونه تعالى في العباد أقوى تفقيها في الدين وتكميلا للعرفان من تكرار الاسم الواحد مرارا كثيرة كما يفعل المتصوفة المرتاضون، ومقلدتهم المرتزقون، وهو غير مشروع خلافا لما زعمه المتأولون لقوله تعالى: {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} [الأنعام: 91]. فاسم الجلالة هنا مبتدأ لجملة في جواب سؤال حذف خبره لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى} [الأنعام: 91] الخ، والمعنى: قل الله هو الذي أنزله، فهو ليس اسما مفردا يكرر تعبدا. ومثله تأولهم لحديث (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله). رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أنس، ولفظ الجلالة فيه مرفوع على أنه مبتدأ حذف خبره للعلم به من القرينة، والمعنى: حتى لا يقال: الله فعل كذا، الله أمات وأحيى مثلا، لذهاب الإيمان به تعالى. والاسم المفرد في ذكرهم يكررونه بالسكون لا يقصد به معنى جملة، وإنما يقصد به حصر التوجه وجمع الهمة بما جربه الرياضيون، وجهله المقلدون.

الفصل الثالث: آياته تعالى في الخلق والتقدير، والتصرف والتدبير، وفيه أربعة شواهد على ما قبله:

[ش1] قوله تعالى بعد آية توحيد العبادة للإله الواحد استدلالا عليه بتوحيد الربوبية {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا} [هود: 3] الخ، فهو صريح في أن رب الناس هو الذي يعطيهم ما يتمتعون به من منافع الدنيا المادية الجسدية، وما يفضل به بعضهم بعضا من الفضائل النفسية من علم وأدب وخلق، وأن الوسيلة لهذا وذاك بعد الإيمان بوحدانيته ولقائه في الآخرة هي استغفاره من كل ذنب، والتوبة من كل تقصير في طاعته، والرجوع إليه عقب كل إعراض عن آيات هدايته، ليس لغيره تأثير شخصي في إعطاء هذا ولا ذاك بتصرفه بنفسه، ولا بشفاعته عنده فيدعى من دونه أو يتوجه إليه معه في طلبه، ومن راقب نفسه وحاسبها في هذا شاهد تأثيره في نفسه، فازداد إيمانا بربه، وشاهده في غيره من الموحدين المستغفرين التوابين، وضده في المشركين والمصرين على ذنوبهم وجرائمهم. فإنه يرى أكثر هؤلاء متاعا في هم واصب، وتنغيص دائب، لأن سعادة الدنيا من صفات النفس، لا من كثرة الإعراض في اليد. ولهذا كان رسل الله الأولون يأمرون أقوامهم بعد التوحيد بالاستغفار والتوبة أيضا كما ترى في الآية [52] من قصة هود، وقد جعل جزاءه إرسال المطر عليهم وهو سبب سعة الرزق، وزيادة القوة البدنية لهم، إذ كان هذا أهم ما يطلبه قومه من ربهم، ويتوسلون إلى ما يعجزون عنه بآلهتهم، وفي الآية [61] من قصة صالح، وقد بنى الأمر فيها على ما سبق من فضله تعالى على قومه بسعة الرزق واستعمارهم في الأرض، وفي معناها الآية [90] من قصة شعيب عليهم السلام.

[ش 2] قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} [هود: 6] الآية. أي عليه وحده، فإنه لم يشاركه في خلق رزق هوامها وأنعامها وطيرها ووحشها وإنسها وجنها أحد من الأنداد الذين اتخذهم المشركون، ولا يشاركه أحد منهم في تسخير هذا الرزق لها، ولا في إيصاله إليها بشفاعة ولا وساطة أخرى بينه وبينها، فلذلك لم يشرك به أحد منها ولا من غيرها من خلقه غير بعض الإنس والجن المكلفين.

[ش 3] قوله بعدها- وهو دليل على مضمونها- {خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} [هود: 7] الآية. أي خلقهما وما كان يوجد معه أحد من هؤلاء الشفعاء والأولياء المزعومين، فهو غني عنهم الآن وفي كل آن، كما كان غنيا عنهم عند بدء التكوين، وراجع ما فصلناه في تفسيرها من خلق كل شيء حي من الماء، تر فيه من عجائب قدرته وحكمته ما يربأ بكل عاقل أن يجعل له وسيطا بينه وبين خلقه من هذا الإنسان الضعيف كما وصفه خالقه القوي القدير.

[ش 4] الآيات [9 و 10 و 11] في بيان أحوال الناس فيما يذيقهم ربهم بحكمته من البأساء والضراء، في هذه الحياة الدنيا دار البلاء، وأصنافهم فيها من يائس كفور، وفرح فخور، وصبور شكور، فبهذا التقسيم المشهود المخبور تعرف توحيد الله تعالى وفضله على المؤمنين الموحدين، وجدارتهم بسعادة الدارين، واستحالة أن يكون له شريك في فضله عليهم، أو وسيط في نعمه وتكريمه لهم.

الباب الثاني: في الوحي المحمدي "القرآن العظيم "وإثبات رسالته صلى الله عليه وسلم به. وفيه سبع مسائل:

[م الأولى] افتتح هذه السورة كالتي قبلها بذكر هذا الكتاب العظيم، وإحكام آياته ثم تفصيلها من لدن حكيم خبير، إعلاما بأن إحكامها مبني على أساس الحكمة، وتفصيلها مرفوع على قواعد العلم ودقة الخبرة.

[م الثانية] قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} [هود: 12] يعني أن حالك أيها الرسول مع هؤلاء المنكرين المقترحين عليك ما ليس أمره إليك حال من يتوقع منه ترك بعض ما يثقل عليهم من الوحي، وضيق صدره من ذلك القول، فلا تترك شيئا مما يوحى إليك، ولا يضق به صدرك، إنما أنت رسول وظيفتك التبليغ والإنذار، لا الإتيان بالآيات، ولا الوكالة عليهم فتكرههم على الإيمان.

[م الثالثة] الرد في الآية [13] على قولهم: (افتراه) بتحديهم بالإتيان بعشر سورة مثله مفتريات، ودعوة من استطاعوا من دون الله لمظاهرتهم وإعانتهم على الإتيان بها إن كانوا صادقين. وقد بينا في تفسيره معنى هذا التحدي بالعشر المفتريات بعد ما سبق في سورة يونس من التحدي بسورة واحدة، وهو ما لا تجد مثله في تفاسير الأولين ولا الآخرين، والحمد لله رب العالمين، وفيه إثبات أن المراد بهذه السور ما اشتمل على قصص الرسل، وأن في إعجاز هذه القصص بالبلاغة والأساليب والنظم والعلم ما ليس في غيرها، وحكمة جعلها عشرا، وما في العشر من هذه السورة وما قبلها من أنواع العلم والهدى والإصلاح، فراجعه.

[م الرابعة] قوله {فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [هود: 14] وبينا في تفسيره معنى إنزاله بعلم الله، وكونه حجة على ما فسرنا الإعجاز فيها، وقد غفل عنه المفسرون.

[م الخامسة] قوله {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [هود: 49] وهو استدلال بقصة نوح على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة أنه ما كان يعلمها هو ولا قومه من قبل إنزالها عليه في هذا الوحي الإلهي، ولو كان أحد من قومه يعلمها قبل ذلك لاحتجوا به عليه، وإذن لامتنع إيمان من لم يكن آمن منهم، ولارتد من كان آمن.

[م السادسة] قوله تعالى: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك} [هود: 100] الآية، وفيه الاستدلال بجملة قصص السورة على كونها وحيا من وجهين: أحدهما ما في المسألة الخامسة من كونها مما لم يكن علمه محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما ما اشتملت عليه من العلم الإلهي والاجتماعي والتشريعي الذي فصلناه في بيان التحدي بالعشر السور من عشر جهات.

[م السابعة] قوله تعالى: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} [هود: 120] الآية، وهي في موضوع التي قبلها من فوائد قصص الرسل، إلا أن تلك في فوائدها الاجتماعية في الأمم وإهلاك الظالمين، وإنجاء المتقين، وهذه في فوائدها الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وتأييد دعوته، وفي المؤمنين به من قومه. فهذه جملة ما في السورة خاصا بالقرآن العظيم من حيث كونه وحيا من الله تعالى دالا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وقد فصلنا معنى كل منها في موضعه.

الباب الثالث: في الرسالة العامة وقصص الرسل مع أقوامهم، وفيه ستة فصول: الفصل الأول: في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:

بدئت السورة بدعوة هذه الرسالة من أولها إلى الآية 24، وهي متضمنة لأصول دين الله [الإسلام] على ألسنة جميع الرسل، وهي التوحيد والبعث والجزاء والعمل الصالح، المبينة في الآية، وسأذكرها في أول الفصل التالي لهذا، ومتضمنة لإعجاز القرآن بتقسيمه اللغوي والعلمي، وقد فصلناه بفضل الله وإلهامه بما لا نظير له في سائر التفاسير، ثم ختمت بمثل ما تضمنته أوائلها من الآية [99 إلى 123] فالتقى قطراها واحتبك طرفاها، فأحاطا بالقصص التي بينهما مؤيدة لهما، وذكر في أثنائها برهان على رسالته صلى الله عليه وسلم في آخر قصة نوح عليه السلام وهو الآية {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك} [هود: 49] الخ، ولعل حكمة تخصيص هذا بالذكر ما في هذه القصة من زيادة التفصيل والتأثير ببلاغته الممتازة، وإلا فسائر هذه القصص من أنباء الغيب ودلائل إعجاز القرآن، كما أشير إليه في الآية [100]، وهي المقصودة بالذات، فيسهل على المتفقه في القرآن أن يراجع تفسير هذه الآية مضمومة إلا كلامنا المفصل في إعجازه بقسميه المشار إليه آنفا، وأن يتأمل الآيات الأربع والعشرين من أول السورة، والآيات الخمس والعشرين من آخرها، ليحيط بما في السورة من علوم رسالة خاتم النبيين علما إجماليا. وأما بيان أنواعها مفصلة في السورة فيراها في الفصول التالية من هذا الباب، وفي الأبواب التي بعدها، ويفقه سر افتتاحها بقوله تعالى: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود: 1] وجعله عنوانا لها.

الفصل الثاني: في الهداية الإجمالية في قصص السورة وأصول الدين الثلاثة التي دعا إليها جميع الرسل:

قد بينا في الكلام على إعجاز القرآن العلمي الذي فصله في قصص الرسل عليهم السلام وتكرارها أنها مشتملة فيه على عشرة أنواع كلية من العلم والهداية، فراجعها أيها المتدبر المتفقه، وتأملها إجمالا، ثم تأمل ما في هذه السورة منها في الفصول التالية.

وأما أصول الدين فهي المجملة في قول الله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 62]:

الأصل الأول: الإيمان بالله تعالى، وقد بينا في الباب الأول شواهده من قصص السورة كلها.

الأصل الثاني: الإيمان باليوم الآخر وهو البعث والجزاء، وسيأتي تفصيله في الباب الرابع.

الأصل الثالث: العمل الصالح، وهو قسمان: ما أمر الله تعالى به، وما نهى عنه على ألسنة رسله عليهم السلام بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك. وقد ذكر العمل الصالح باللفظ المجمل الدال على كل ما تصلح به أنفس البشر في موضعين من هذه السورة؛ الأول: قوله -بعد بيان قسمي اليئوس الكفور والفرح الفخور من الناس- {إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات} [هود:23]، وفي معناها الإحسان في قوله {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود: 7] وقوله {إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114]. وأما الأوامر والنواهي المفصلة فهي خصائص السورة المدنية ونذر ما هنا من أصولها في الباب الخامس.

الفصل الثالث: في وظيفة الرسل الأساسية وصفاتهم وبيناتهم وفيه إحدى عشرة عقيدة:

الأولى: وظيفة الرسل الأساسية هي ما بعثهم الله لأجله من تبليغ رسالته، بإنذار من تولى عن الإيمان وعصى، وتبشير من أجاب الدعوة فآمن واهتدى، والشواهد عليها من هذه السورة قوله تعالى في دعوة رسول خاتم النبيئين {إنني لكم منه نذير وبشير} [هود: 2]، وقوله له {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} [هود: 12]، ومثل هذا الحصر في القرآن كثير، وقوله حكاية عن نوح عليه السلام -وهو أول رسله إلى الأقوام المشركة -{إني لكم نذير مبين} [هود: 25]، وقوله حكاية عن رسوله هود عليه السلام {فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم} [هود: 57]. وموضوع التبليغ هو الدعوة إلى أركان الدين الثلاثة المبينة آنفا، وعليها مدار سعادة المكلفين في الدنيا والآخرة، وكلها مبطلة لما كان عليه أقوامهم المشركون من أن بينهم وبين الله تعالى وسائط منهم أو من غيرهم من خلقه يقربونهم إليه بجاههم الشخصي، ويقضون حوائجهم من جلب نفع أو دفع ضر بشفاعتهم لهم عنده، أو بتصرفهم في خلقه بما خصهم به من خوارق العادات، إلا ما جعله من آياته دليلا على صدقهم في دعوى الرسالة، كإبراء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص، وإحيائه للموتى بإذن الله له بأن دعاه في ذلك فاستجاب له، وسيأتي بيانه.

الثانية: أنهم بشر مرسلون، أي لا يملكون من أمور العالم شيئا مما هو فوق كسب البشر غير ما خصهم الله به من الرسالة دون شؤون ربوبيته، أو ما خص به ملائكته، حتى أنهم لا يملكون هداية أحد إلى الدين بالفعل؛ لأن هدايتهم خاصة بالتبليغ والتعليم كما تقدم آنفا، وحكاية نوح مع ابنه الكافر حجة في هذا الموضوع، واضحة، والشواهد على هذا في القرآن كثيرة: [منها] في هذه السورة ما علمت من آيات توحيد الربوبية، والرد على مشركي مكة في اقتراحهم مجيء المَلَك بقوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} [هود: 12]، وقوله حكاية عن نوح {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} [هود: 31]، وتقدم ما في معناه عن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم قريبا، وفي معناه آيات كثيرة في السور الأخرى. [ومنها] في احتجاج المشركين على رسلهم بأنهم بشر في قصة نوح {فقال الذي كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا} [هود: 27]، وقد قال مثل هذا سائر أقوام الرسل بعده إلى خاتمهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين. ولو كان أولئك الرسل في عصرهم على غير ما يعهد أقوامهم من البشر، بأن كانوا يتصرفون في الكون بالضر والنفع وعلم الغيب لما احتجوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما يدعي الذين ضلوا من أقوامهم من بعدهم عما جاؤوا به مع دعوى اتباعهم، فزعموا أنهم هم وبعض من وصفوا بالصلاح والولاية من أتباعهم يضرون وينفعون، ويشقون ويسعدون، ويميتون ويحيون: أحياؤهم وأمواتهم في هذا سواء، يزعمون أنهم أحياء في قبورهم حياة مادية بدنية يأكلون فيها ويشربون، ويسمعون كلام من يدعوهم ويستغيث بهم ويستجيبون دعاءهم فيها، وقد يخرجون من قبورهم فيقضون حوائجهم في خارجها، يخالفون بهذه الدعاوى مئات من آيات القرآن المحكمات في التوحيد وصفات الربوبية وفي صفات الأنبياء، وكونهم بشرا لا يقدرون على شيء مما لا يقدر عليه البشر، وأن النبوة والرسالة وآياتها ليست من كسبهم، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فيما ورد فيه بعض أنباء الغيب في حياة الشهداء البرزخية، فيقيسون عليها بأهوائهم حياة أوليائهم رجما بالغيب وافتراء على الله، وحسبنا هنا التذكير بما أمر الله نبينا أن يرد به على الذين سألوه بعض الآيات الكونية {قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا} [الإسراء:93].

الثالثة: بيناتهم وآياتهم: ما من نبي دعا قومه إلى الله إلا وجاءهم ببينة على صدقه في دعواه من حجة عقلية وآية كونية، وكانت تشتبه على عامتهم الآيات الكونية بالسحر؛ لأنهم يرون أن كلا منهما أمر غريب لا يعرفون سببه، ويرونه من الدجالين والمرتزقة، وكان المهتدون هم الذين يميزون به الفريقين بالبينات العقلية، والهداية الخلقية والعملية، وكذلك الجاحدون المعاندون منهم، بينت لنا هذه السورة أن كل رسول كان يحتج ويستدل على قومه بأنه على بينة من ربه، وليس فيها ولا في غيرها أن كلا منهم تحدى قومه بآية كونية، كما تحدى موسى فرعون وملأه، وكما تحدى محمد قومه والإنس والجن معهم ومن استطاعوا ليظاهروهم على معارضة القرآن بمثله في مزايا إعجازه العامة الظاهرة في كل سورة منه، ومزايا إعجازه المكررة في عشر سور مما ادعوا افتراءه منه، ثم إنه بعد التحدي بعشر مثله مفتريات في الآية [13] من هذه السورة، وبعد تقرير عن المعارضة في الآية [14] قال في تقرير الحجة العقلية والنقلية التاريخية {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة} [هود: 17]. ثم قال في حجة نوح {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم} [هود: 28] الآية، وحكى عن قوم هود أنهم {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} [هود: 53]، ولكنه كذبهم بعد ذلك بقوله عز وجل {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله} [هود: 59] الآية. ثم قال في قصة صالح {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة} [هود: 63] الآية، وذكر بعدها آيته الكونية التي أنذرهم العذاب بها فقال {يا قوم هذه ناقة الله لكم آية} [هود: 64] الخ، ثم قال في قصة شعيب {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا} [هود: 88] الآية، ثم قال {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه} [هود: 96] الآية. ومن المعلوم القطعي أن هذه الآيات وغيرها ليست من أعمال أولئك الرسل وكسبهم، ولا في حدود استطاعتهم، فآية خاتمهم الكبرى هي كلام الله عز وجل كان صلى الله عليه وسلم عاجزا عن الإتيان بسورة مثله بعد النبوة فعجزه قبلها أظهر، وناقة صالح لم تكن من خلقه ولا كسبه، ولما رأى موسى آيته الكبرى -وهي العصا، إذ ألقاها فإذا هي حية تسعى- ولي مدبرا خائفا منها، كما ترى في سورتي النمل والقصص. وأما آيات عيسى التي أسند إليها فعلها فقد صرح القرآن بأنها كانت بإذن الله تعالى وإرادته، وفي رسائل الأناجيل المتداولة أنه كان يدعو الله تعالى ويتضرع إليه بطلبها ليؤمنوا به ويعلموا أنه يستجيب له، وقد قال اليهود: إنها سحر مبين، وأهل هذا العصر يوردون عليها شبهات من غرائب صوفية الهنود وغيرهم من الروحانيين، كما بيناه في كتاب الوحي المحمدي، وبينا أن آيات موسى كانت أعظم منها مظهرا، وأدل على قدرة الله تعالى وتأييده له، لإيمان أعلم علماء السحر بها، ولم تكن فتنة للناس بموسى كما كانت تلك فتنة للناس بعيسى إذ اتخذوه بها إلها، فالذين فُتِنوا وضلوا بخوارق العادات الصورية من الأولين والآخرين أضعاف أضعاف الذين اهتدوا بالحقيقي منها، فإن الملايين من مدعي أتباع عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام يتبعون الدجالين المدعين للتصرف في الكون بأنفسهم أو باستخدامهم للجن، وسدنة قبور الأولياء، والقديسين الذين يدتون التصرف لمن تنسب إليهم، وكل هؤلاء يجهلون حقيقة الإيمان الذي بعث الله به جميع رسله ووظيفة رسالاتهم.

الخامسة: حجة الرسل على أقوامهم بإخلاصهم لله وعدم طلب أجر على عملهم: هذه المسألة مكررة في القرآن، ومن الشواهد عليها هنا حكاية عن نوح قوله تعالى {ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله} [هود: 29]، وتقدم عنه معناه في سورة يونس، وسيأتي مثله في سورة الشعراء بلفظ الأجر. [ومنها] عن هود [يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون} [هود: 51]، وراجع مثل هذا عن الرسل في سورة الشعراء [الآيات: 109 و 127 و 145و 164 و 180]. وقد تكرر هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في عدة سور: الأنعام [6: 9] ويوسف [12: 104] والشورى [42: 23] ونص هذه الأخيرة بعد تبشير الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات {ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور} والاستثناء في هذه الآية منقطع، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا البتة، سنة الله في النبيين المرسلين، ولكن أسألكم المودة في أولي القربى لكم وصلة أرحامكم، وكانت هذه الوصية مما يحمدونه من هدى الإسلام لتعصبهم لأنسابهم، ويفسرها قوله تعالى: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله وهو على كل شيء شهيدا} [سبأ: 47]. ولكن الشيعة جعلوا الاستثناء متصلا، وفسروا المودة في القربى بمودة قرابته صلى الله عليه وسلم، وخصوها بابن عمه علي وذريته عليهم السلام دون عمه العباس وذريته وسائر ذرية أعمامه، واشتهر هذا التأويل الباطل في كتب التفسير والمناقب ودواوين الشعر، وجعلوه عهدا من الله عاهد عليه المؤمنين... وهذا التأويل تحريف للقرآن، وطعن شنيع على رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم إخراجه من سنة الله تعالى في جميع رسله بأنهم يبلغون رسالاته لوجهه الكريم، لا يسألون عليه أجرا لأنفسهم ولا لأولي قرباهم، وأنه هو الذي انفرد بطلب الأجر لأولي قرباه- [وحاشاه] -وهل يسعى جميع طلاب الدنيا إلا لذرياتهم؟ وللتنزه عن هذه الشبهة حرم الله تعالى الصدقة على آل رسوله، وهم بنو هاشم، ومن كان يواليهم من بني المطلب، دون إخوتهم من بني أمية وبني عبد شمس الذين كانوا يعادونهم، وموالاة علي وآله واجبة لا خلاف فيها، ولا حاجة إلى الاستدلال عليها بهذا التحريف للقرآن بباطل التأويل للآيات المحكمات اللاتي هن أم الكتاب.

السادسة: عصمتهم صلوات الله تعالى عليهم في تبليغ الدعوة والعمل بها:

من الشواهد عليها قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليه} [هود: 12]. والمراد منها أنه لا يترك مما أوحي إليه شيئا لا يبلغه. [ومنها] قوله حكاية عن نوح {وما أنا بطارد الذين آمنوا} [هود: 29]، والنفي فيها للشأن، أي ما كان طردهم من شأني، ولا مما يقع من نبي مثلي، فأنا معصوم من إجابتكم إليه فلا تطمعن فيها، والوعيد عليه في الآية [30] التي بعدها مبني على فرض وقوع الطرد منه المعبر عنه بأداة الشرط التي ليس من شأن فعلها أن يقع. [ومنها] قول شعيب لقومه {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88]، وهو يدل على أن الرسول لا ينهى عن شيء لا ينتهي هو عنه، فهو لا يخالف رسالته في شيء، إذ لو خالفها لدحض حجته، ونقض دعوته، [ومنها] قوله لهم {ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل} [هود: 93] الآية وما فيه من الوعيد. فإن قيل: إن أمر الله تعالى ونهيه لهم بالتكاليف، ووعيده على المخالفة والمعصية الشامل لهم ولأقوامهم والخاص بهم كقوله تعالى لنوح {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} [هود: 46]، واستعاذة نوح به تعالى من مخالفة الموعظة وقوله {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} [هود: 47]، وحكايتهم عن أنفسهم ما يعملون وما يتركون- كل هذا وأمثاله يدل على جواز وقوع المعصية منهم لا استحالته، وفي بعضه ما يدل على وقوع الذنب بالفعل، ومنه سؤال نوح ربه نجاة ولده الكافر، وكونه من سؤال ما ليس له به علم، وهو منهي عنه. "قلت" إن المتكلمين استدلوا على ما سموه عصمة الأنبياء بالعقل لا بالنقل، وتأولوا الآيات والأحاديث الواردة بوقوع بالذنوب منهم بَله الدالة على إمكانها، وليس المراد بدلالة العقل على عصمتهم أنها كعصمة الملائكة منافية لطباعهم، فإن مما فضلوا به على الملائكة أنهم بشر كسائر البشر، جبلوا على الشهوات الجسدية، وداعية كل من المعصية والطاعة، كما علم من قصة أبيهم آدم، ولكنهم بقوة الإيمان ومعرفة الله عز وجل والخوف منه والرجاء فيه والحب له يرجحون الطاعة على المعصية بملكة راسخة فيهم، يعصمهم الله تعالى بها من الخطأ في التبليغ، ومن الكتمان لشيء مما أمروا به منه، ومن مخالفته، ومن الرذائل والمعاصي المنافية للرسالة، المبطلة للحجة، دون الخطأ في الاجتهاد والرأي الذي لا يخالف نص الوحي، فإذا وقع منهم بهذا الاجتهاد ما كان الخير والكمال لهم في علم الله خلافة بينه الله لهم تعليما، وعلمهم ما هو الأليق بهم تربية وتكميلا، ومنه اجتهاد نوح الذي رجح له بالحنان الأبوي جواز دخول ابنه الكافر فيمن وعده الله بنجاتهم كما بيناه في موضعه، ولم يعلم أن سؤاله ربه ما ليس له به علم قطعي ممنوع إلا بعد أن سأله نجاة ولده فأجابه بهذه الموعظة، وقد فصلنا هذه المسألة في تفسير أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الفداء من أسرى بدر من سورة الأنفال [الآية: 67]، وتفسير عتابه على الإذن لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك، والعفو عنه في سورة التوبة [الآية: 43].

السابعة والثامنة والتاسعة: كمال إيمانهم، وثقتهم بالله، وتوكلهم عليه، وشجاعتهم، ويقينهم بعاقبة أمرهم:

هذه المزايا الثلاث ظاهرة أوضح الظهور في كل قصة من قصصهم؛ إذ هي عبارة عن تصدي رجل واحد من وسط قوم لتجهيلهم في تقاليدهم الدينية الموروثة، ودعوتهم لتركها إلى ما هو خير منها في حقيته وكماله وحاله ومآله، وتوبيخهم على الإصرار عليها، وإنذارهم سوء عاقبتها، وعدم مبالاته بكفرهم به، وسخريتهم منه، وتهديدهم له، ومقابلته لذلك بما هو أشد منه، كما ترى في الآيتين [38 و 39] من قصة نوح، وما هو أشد منها في معناها من سورة يونس [الآية: 76] التي صرح لهم فيها باعتصامه بالتوكل على الله وأمرهم بإجماع أمرهم وشركائهم، والتثبت فيه، والقضاء إليه بما يجمعون عليه من عقابه بدون إنظار ولا إمهال، وفي معناه من هذه السورة الآيات [55-57].

العاشرة: إنذارهم الأخير لأقوامهم وقوع عذاب سماوي يهلكهم، ويقطع دابر المعاندين المصرين على جحودهم وظلمهم، ووقوع ذلك كله كما بلغوهم عن الله تعالى بلا تأخير ولا تقديم، وهو برهان على أنه كان بعلم الله وإرادته لعقابهم به.

الحادية عشرة: احتجاج المتأخر من هؤلاء الرسل على قومه بما وقع لمن قبله من الرسل مع أقوامهم المعروفين عند قومه، كما ترى في إنذار شعيب قومه ذلك في الآية [89]، وفي سورة الأعراف تذكير هود قومه بقوم نوح قبلهم، ثم تذكير صالح بقوم هود من قبلهم، وقد أنذر محمد صلى الله عليه وسلم قومه بجميع هؤلاء الأقوام وما حل بهم، فدل على أنه وقع بأمره عقابا لهم، وإن كان موافقا لسننه تعالى في الأسباب العامة. وجملة القول في قصص الرسل مع أقوامهم- وما فيها من أصول دين الله تعالى "الإسلام"، ومن سنته تعالى في تبليغهم له، وهدايتهم، وفضائلهم، وضلال المكذبين لهم وظلمهم وفسادهم – أنها دلائل واضحة على رسالة خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وإعجاز كتابه، وكونه من عند الله تعالى أكمل به دينه، ووجوه الدلالة فيها كثيرة من عقلية وعلمية واجتماعية وتاريخية وغيبية، وقد فصلناها في" كتاب الوحي المحمدي "تفصيلا. الباب الرابع في البعث والجزاء آيات البعث في القرآن نوعان:

أحدهما لدعوة المشركين إلى الإيمان به، والاستدلال على قدرة الخالق تعالى عليه، وإزالة استبعادهم له، وتقريبه إلى إدراكهم بضرب الأمثال له.

والثاني: لتذكير المؤمنين به، للترغيب والترهيب، والموعظة. والجزاء قسمان أيضا: جزاء المؤمنين المتقين الصالحين، وجزاء الكافرين الظالمين المجرمين. ولكل من البعث والجزاء بقسميه ألوان من البيان الرائع العجيب، وأساليب في التعبير البليغ، وكل من النوعين والقسمين يجتمعان ويفترقان في التعبير عنهما والخطاب بهما بتلك الأساليب المختلفة في الآية والآيتين والآيات، ولكل منهما تأثيره في الخوف والرجاء، بجعل التكرار الضروري لتثبيت المعاني في النفس، غير ممل للسمع، ولا مسئم للطبع، وهذا من أبدع ما يمتاز به كلام الرب المعجز على كلام خلقه، فتأمل ذلك وتدبره في قوله أول السورة بعد ذكر الإنذار والتبشير والتخويف من عذاب يوم كبير {إلى الله مرجعكم وهو على كل شيء قدير} [هود: 4]، ثم تأمل قوله بعد ذكر خلق السماوات والأرض؛ إذ كان عرشه على الماء ليبلو العقلاء المخاطبين أيهم أحسن عملا {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [هود: 7]، فالآيتان من نوع الاستدلال على البعث والجزاء معا بأن الخالق القدير ذي الحكمة البالغة في التقدير والتدبير لا تظهر عظمة قدرته وسر حكمته في تقديره إلا باختبار عباده الذين وهبهم العقل والتمييز بين الحق الذي تتجلى به الحكمة في الخلق، والباطل العبث بخلوها منه، وبالجزاء على ما يعملون من خير وشر، وحسن وقبيح، وهذا الجزاء لا يكون تاما عاما للأفراد في الدنيا لقصر أعمارهم فيها، فدل على أن الحكمة الربانية تقتضي أن يكون في حياة ثانية بعد هذه الحياة الدنيا، فكل ما يدل على ربوبيته تعالى وحكمته وعدله يدل على البعث والجزاء؛ لأنه من لوازمها. وإن ما بعد هذا من الآيات في رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم قد تكرر فيه جزاء الكافرين والمؤمنين في الآخرة؛ لأن مشركي العرب كانوا أكثر جدالا من كل قوم في البعث بعد الموت، فترى بعدها كل جدال نوح وصالح لقومه في عقيدة التوحيد بعبادة الله وحده دون عقيدة البعث، وزاد شعيب مسألة الأمر والنهي في المكيال والميزان، وانحصر إنذار لوط في النهي عن الفحشاء والمنكر، ثم ختم الله العبرة في هذه القصص بهلاكهم في الدنيا وعدم إغناء آلهتهم عنهم من شيء- وهو دليل التوحيد- وبعذاب الآخرة، إذ عاد الكلام كما بدأ في إنذار مشركي أم القرى وما حولها من العرب، فذكر اليوم الآخر وما فيه من الجزاء بتلك الآيات البليغة الممتازة {إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} [هود: 103] الآيات، ولما بين فيها جزاء كل من فريقي الأشقياء والسعداء وخلودهم في النار والجنة استثنى بعد كل منهما استثناء لم يسبق له فيما قبله، ولا فيما بعده من القرآن نظير في ذاته، ولا في التفرقة بينهما، وهو قوله في أهل النار {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [هود: 107]، وفي أهل الجنة {خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ} [هود: 108]. حار في هذا الاستثناء والتفرقة فيه بين الدارين المفسرون من علماء الآثار والمتكلمين والصوفية لتعارضه في الظاهر مع الآيات الكثيرة في خلود الفريقين، وتأكيد بعضها بكلمة التأبيد، ولكن أكثره في المؤمنين أصحاب الجنة حتى في الآيات التي فيها المقابلة بين الفريقين كما تراه في سورة النساء [الآيات: 56 و 75 و 121 و 122]، وفي سورة التغابن [الآيتان: 9 و 10]، وفي سورة البينة [الآيتان: 6 و 7]، ففي هذه الآيات يؤكد خلود المؤمنين في الجنة بالتأييد دون خلود الكافرين في النار، كما يؤكده في آيات أخرى من سور كالنساء والتوبة والمائدة والطلاق بدون مقابلة. ومثل هذه الفروق لا تأتي في الذكر الحكيم جزافا أو عبثا أو عن غفلة ككلام البشر، بل يتعين أن يكون لها حكمة في التشريع، ونكتة في بلاغة التعبير، ولا يقدر على الغوص في هذا البحر الخضم واستخراج أمثال هذه الدرر منه إلا الجامع بين أسرار العلمين –علم حكم التشريع وعلم أسرار البلاغة- ولقد كان أقرب ما يقال في تلك الآيات إنها بمعنى الاستثناء في هاتين الآيتين المتبادر منهما في ذاتهما وهو التفرقة بين الجزاء بالفضل فوق العدل الذي يضاعف من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف، والجزاء بالعدل والمساواة الذي لا يظلم فيه مثقال ذرة، وما فوقه من رحمة الله التي وسعت كل شيء، ولكن يقف في طريق هذا الفهم على وضوحه أن التأبيد أكد به جزاء الذين كفروا وظلموا في أواخر سورة النساء [الآية: 128]، وجزاء الذين لعنهم الله منهم في سورة الأحزاب [الآية: 64]، وجزاء العصاة في سورة الجن {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} [الجن: 23]، والقواعد تقتضي جعل العصيان هنا عاما شاملا لترك الإيمان بمعنى الشرك. على أننا بينا في تفسير ما تقدم من الآيات في الخلود والتأبيد معناهما اللغوي، وأنه لم يكن عند العرب عند لفظ منها ولا من غيرها يدل على التأبيد في الاصطلاح الشرعي، وهو عدم النهاية في الوجود، وإن قدرت بألوف الألوف وما لا يحصى من السنين. وبينا في تفسير الاستثناء هنا وفي سورة الأنعام أن جمهور المفسرين تأولوه لموافقة المقرر في العقائد من أن خلود أهل النار كأهل الجنة، وأن بعضهم جعله على ظاهره؛ لأنه معارض بنصوص القرآن والحديث الصريحة في سعة رحمة الله وعدله، وكون العقاب عنده على قدر الذنب؛ لأن الزيادة ظلم، وهو محال على الله عز وجل عقلا ونقلا، وكنت وعدت بأن أذكر هنا كل ما قاله العلماء في هذا الموضوع، ثم رأيت الآن أن لا حاجة إليه بعد أن وجهت تفسير الاستثناء بما يجمع بين النصوص المتعارضة الظاهر وما سبق في تفسير آية الأنعام [6: 127 ج8 تفسير طبعة أولى]، وهو ما بسطه المحقق ابن القيم من دلائل الفريقين وخلاصته أن رحمة الله تعالى أوسع وأكمل، وإرادته أعم وأشمل، فلا يقيدهما شيء، ولا يحيط بهما إلا علمه. وقد تعرض لهذا الموضوع من المفسرين المتأخرين القاضي الشوكاني في تفسيره [فتح القدير]، وتبعه السيد حسن صديق خان في تفسيره [فتح البيان] فليراجعهم من شاء.

الباب الخامس: في صفات النفس وأخلاقها من الفضائل والرذائل التي هي مصادر الأعمال من الخير والشر والحسنات والسيئات والصلاح والفساد، وفيه فصلان: مقدمة في أسلوب القرآن المعجز في الأخلاق والفضائل والرذائل:

للحكماء والصوفية والأدباء والشعراء مناهج وأساليب مختلفة في علم الأخلاق وما يترتب عليها من الأعمال خيرها وشرها، والعادات حسنها وقبيحها، كما تراه في كتب أهلها من فلسفة وحكمة، وأدب وتربية، وحكايات تمثيلية لوقائع بين الحاضرين أو أساطير الأولين، أو على ألسنة الحيوان، أو خرافات الشياطين والجان، تبارى في تصنيفها علماء الشعوب في عهد حضارة كل منها، وفي كل منها فوائد لقرائها بقدر استعدادهم، وأخطاء ينكرها بعضهم على بعض، ولم تهتد أمة من الأمم بكتاب منها كما اهتدى أتباع الأنبياء المرسلين الذين آمنوا لهم في دينهم. وعند الأمم المتدينة كتب مقدسة في أصول أديانها وآدابها يعزى بعضها إلى الوحي الإلهي، وبعضها إلى مواعظ الأنبياء والصالحين من سلفها، وأعلاها الأحاديث الشريفة المسندة إلى نبينا محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم رويت منثورة متفرقة، ثم جمعت في دواوين مرتبة، فما تجد من خير وفضيلة عند هؤلاء الأمم، فهو من تأثير اتباع هذه الكتب وما حفظوا وفقهوا منها، وما تجد من شر وباطل فهو من فلسفة رؤساء الدين والدنيا وإضلالهم إياهم عنها، أو تحريفهم لها.

وأما القرآن فلا يشبه شيئا، ولا يشبهه شيء من هذه الكتب في أسلوبه، ولا في منهاجه وتربيته، ولا في تربيته وتأديبه، ولا في تأثيره فيما يحمده ويرغب فيه، ولا فيما يذمه ويزجر عنه، في كل ما يحتاج إليه المكلفون لتزكية أنفسهم وتطهيرها عقلا ونفسا وخلقا، وكأن ليس فيه شيء منها تصنيفا ووصفا، فمن تلاه حق تلاوته، وتدبر حق تدبره، وجد كل علم وحكمة، وخير وفضيلة، وبر ومكرمة، حاضرا في نفسه، وكل جهل وشر كان ملتاثا به أو عرضه له كأن بينه وبينه حاجزا كثيفا، أو أمدا بعيدا، ولكنه لا يجد شيئا من هذا ولا ذاك في سورة مدلولا عليه بعناوينه، كما يجده في أبواب الكتب التي صنفها علماء البشر وفصولها، فمقاصده ومعانيه ممزوج بعضها ببعض في جميع سوره، طوالها وقصارها، بل في جملة آياته منها؛ لأجل أن يرتل بنغمة اللائق به ترتيلا، ويتعبد بتدبر ما فصله من آياته تفصيلا، فجملة القول فيه إنه هو أعلى من كل ما عهده البشر وعرفوه صورة ومعنى، وهداية وتأثيرا، كما فصلناه في كتاب [الوحي المحمدي] مقتبسا من هذا التفسير، ولا سيما إجمالا كل سورة فسرت فيه بعد تفصيل، وتأمل في فصلي هذا الباب، وما هو ببدع من سائر الأبواب. يقرأ كثير من الناس هذه السورة فلا يكادون يفطنون لما فيها من بيان فضائل الرسل والمؤمنين التي يجب التأسي بها، ومساوي الكفار التي يجب تطهير الأنفس منها، فمن قرأ منهم تفسيرها في أكثر كتب التفسير المتداولة كانت أشغل شاغل له عن ذلكم بمباحث الفنون العربية والمجادلات الكلامية، والأساطير الإسرائيلية، ومن يهمه العلم الذي يعينه على تهذيب نفسه صار يطلبه من كتب الأخلاق والأدب والتصوف دون القرآن، وهو هو الذي قلب طباع الأمة العربية كلها وزكى أنفسها، وسودها على بدو العالم وحضره منذ الجيل الأول من إسلامها، إلى أن أعرضوا عن هدايته وأدبه اشتغالا بفلسفة الشعوبية وآدابها، أو تنازعا في زينة الدنيا وسلطانها، فكانوا يبعدون عن الحق والعدل والفضل والسيادة والملك قدر ما يبعدون عن هداية القرآن فيها. إنني بعد أن كتبت تفسير السورة ونشرته وشرعت في كتابة هذه الخلاصة تأملت السورة في المصحف الشريف وحده وقفت في هذا الباب منها أطول من وقفاتي فيما سبقه من الأبواب، فرأيت في تضاعيف الآيات من دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم في فاتحتها وخاتمتها، ومن قصص الرسل في وسطها، عشرين مسألة أو أكثر في عقائل الفضائل ومكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، ومثلها في فساد النفس باتباع الهوى، واجتناب الهدى، بعضها يخص العقل والفهم، والعلم والجهل، وبعضها يخص الخلق والعادة الأعمال، لهذا جعلت هذا الباب في فصلين أسرد فيهما ما لاح الآن لفهمي منها.

الفصل الأول: في مساوي النفس العقلية والخلقية وسيئات الأعمال والعادات وفيه 21 مسألة:

المسألة الأولى: خسارة النفس: أبدأ بهذه المسألة وإن كانت نتيجة تابعة لمفاسد ذكرت في هذه السورة قبلها لغفلة أكثر الناس في عصرنا عنها، على تكرار ذكرها في القرآن، وانفراده دون جميع كتب العلم البشرية والسماوية بالتذكير بها، فقال هنا في الظالمين لأنفسهم بالافتراء على الله الصادين عن سبيله يبغونها عوجا، الذين فقدوا الاستعداد للانتفاع بسمعهم وأبصارهم {أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} [هود: 21-22] ثم ذكر أضدادهم من المؤمنين الصالحين، وضرب للفريقين مثل الأعمى والأصم والسميع والبصير، فكان هذا آخر ما افتتحت به السورة من الكلام في رسالة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ومعنى هذه الخسارة هنا يفهم مما قبل الآيتين وما بعدهما، وخلاصته أن فطرتهم الإنسانية فسدت كلها، ففقدت استعدادها الخاص بها الخ، أرأيت من خسر نفسه فأي شيء بقي له؟ أيغني عنه ربح تجارته وكثرة ماله وجاهه بالباطل؟ كلا، إنك تفهم من معنى هذه الكلمة الكبيرة المرعبة باستعمال عوام المصريين لها ما لا تفهمه من مثل تفسير الجلالين، يقولون فيمن فسد خلقه وضاع شرفه وصار مهينا محتقرا: فلان خسر – أي ذهبت مزاياه وفضائله حتى لم تبق له قيمة في الوجود.

م – الثانية: فقد هداية السمع والبصر وهما أول طرق الاستدلال: وهذا معنى يغفل عنه أكثر الناس أيضا، ولذلك قرره القرآن كثيرا بأساليب بليغة، ومنها قوله قبل مسألة خسران النفس في أهلها {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20]، ونكتة اختلاف التعبير فيه أن الإنسان يسمع الأصوات وإن لم يقصد سماعها ولم يصغ لها، فالمراد هنا أنهم لشدة كراهتهم أن يسمعوا آيات الله وحججه في كتابه ما كانوا يستطيعون إلقاء السمع له إذا تلي لئلا يسمعوه فيحولهم عما كانوا فيه كما يدل عليه قولهم {إن كان ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها} [الفرقان: 42]، ولو ألقوا السمع لما سمعوا إسماع فهم وتأمل، ولو سمعوا لما عقلوا وفقهوا كما وصفهم في الأنفال [الآيات: 21-23] وقال هنا حكاية عن قوم مدين {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول} [هود: 91]، وكذلك ما كانوا يبصرون الآيات المرئية إذا هم نظروا دلائلها، ومنها رؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم ولذلك قال فيهم {وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون} [الأعراف: 198]، ووضح هذا بضربه المثل لهم وللمؤمنين بقوله فيهما {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والسميع والبصير} [هود: 24].

م-الثالثة: الشك والارتياب في دعوة الرسل: وصف القرآن الكفار بهذا الجهل في قوله تعالى حكاية عن قوم صالح {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب} [هود: 62]، ومثله في قوم موسى الذين اختلفوا في كتابه قال {وإنهم لفي شك منه مريب} [هود: 110]، أكد شك قوم موسى في كتابهم بعد إيمانهم ولكنه قال في قوم محمد قبل إيمانهم {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} إلى قوله {إن كنتم صادقين} [البقرة: 23] إنكم في ريب منه فكذبهم في دعوى الريب. وفي سائر السور كثير من هذا في الكفار كوصفهم باتباع الظن وبالخرص ونفيه العلم عنهم، فهذه شواهد في وصف حالهم العقلية وردت في سياق قصصهم دالة على مطالبة الإسلام الناس [العلم، وفقه الشرائع، وبراهين العقائد، وأنى لهم به، والتقليد يصدهم عن النظر العقلي الموصل إليه؟

م-الرابعة: التقليد: المراد منه اتباع بعض الناس لمن يعظمه أو يثق به أو يحسن به الظن فيما لا يعرف أحق هو أم باطل، وخير هو أم شر، ومصلحة أم مفسدة، وأصل التقليد في اللغة تحلية المرأة بالقلادة، أو الرجل بالسيف، أو الهدي بما يعرف به، [وهو بالفتح ما يهديه مريد النسك إلى الحرم من الأنعام}، وتقليده أن يعلق عليه جلدة أو غيرها ليعرف أنه هدي فلا يتعرض له، ومنه تقليد الولايات والمناصب، يقال: قلده السيف أو العمل فتقلده، وقولهم: قلد فلان الإمام الشافعي مثلا معناه جعل رأيه وظنه الاجتهادي في الدين قلادة له، والأصل أن يقال: تقلد مذهب الشافعي. وعرف الفقهاء التقليد بأنه العمل بقول من لا يعرف دليله، وقد نهى الأئمة المعروفون الناس عن تقليدهم في دينهم، وقالوا: لا يجوز لأحد أن يتبع أحدا إلا فيما عرف دليله وظهر له أنه حق، فالعالم مبين للحكم لا شارع له، والتقليد بهذا المعنى شأن الطفل مع والديه، والتلميذ مع أستاذه، وهو لا يليق بالراشد المستقبل، ولكن المرءوسين مع الرؤساء والعامة مع الزعماء والأمراء كالأطفال مع الأمراء المستبدين، وأما تلقي النصوص القطعية والسنن العملية عن ناقليها فهو ليس بتقليد لهم، وكذا أخذ الفنون والصناعات عن متقنيها، وأما تشبه الشرقيين بالإفرنج فيما لا باعث عليه إلا تعظيمهم؛ لأنهم أقوى منهم، ولا سيما أزياء النساء والعادات فكله من التقليد الضار، الدال على الصغار. ولما كان الإسلام دين الرشد والاستقلال أنكر على العقلاء البالغين المكلفين جمود التقليد على ما كان عليه آباؤهم من أمر دينهم ودنياهم لا لأجل أن يقلدوا آخرين من أهل عصرهم ويسنوا لمن بعدهم تقليدهم، بل ليكونوا مستقلين في طلب الحقائق من أدلتها، وعلله بقوله تعالى {أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} [المائدة: 104] على ما بيناه في مواضع من هذا التفسير متفرقة، ثم في كتاب الوحي المحمدي مجتمعة، وفي قصص هذه السورة في حكاية هذا التقليد عن ثمود {قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} [هود: 62]، وعن مدين {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87]. ومن عجائب الجهل بالقرآن أن يعود الخلق الكثير من مدعي اتباع القرآن إلى التقليد- لا تقليد أئمة العلم المتقدمين الذين نهوهم عن التقليد اتباعا للقرآن- بل تقليد آبائهم وشيوخهم المتأخرين المقلدين حتى فيما ابتدعوا أو قلدوا أهل الملل من عبادة غير الله بدعاء غير الله، والنذر لغير الله، وشرع ما لم يأذن به الله، ولئن سألتهم ليقولن ليس هذا بعبادة لغير الله، بل توسل إلى الله وتقرب إليه؟! فإن قلت لهم: إن هذا ما كان يقوله المشركون الذين قاتلهم لأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم آل أمرهم إلى الاستدلال على الشيء بنفسه، وهو تقليدهم لمن يفعل فعلهم أو يقره من مشايخ الأزهر ومشايخ الطريق، فإن قلت لهم: إن هؤلاء مخالفون لنصوص الكتاب والسنة وللأئمة الذين يدعون اتباعهم؟ قالوا: إنهم أعلم منا بما كان عليه الأئمة المختصين بفهم الكتاب والسنة. فما أضيع البرهان عند المقلد ولو كان التقليد حجة مقبولة عند الله لقبلها من مقلدي جميع الأمم والملل فإنه هو الحكم العدل، لا يظلم ولا يحابي بعض عباده على بعض.

م-الخامسة: الاختلاف في الدين: الاختلاف طبيعي في البشر، وفيه من الفوائد والمنافع العلمية والعملية ما لا تظهر مزايا نوعهم بدونه، وفيه غوائل ومضار شرها وأضرها التفرق والتعادي به، وقد شرع الله لهم الدين لتكميل فطرتهم والحكم بينهم فيما اختلفوا فيه بكتاب الله الذي لا مجال فيه للاختلاف، ولكنهم اختلفوا في الكتاب بالمزيل للاختلاف أيضا، فاستحق الذين يحكمونه فيما يتنازعون فيه رحمة الله وثوابه، والذين اختلفوا فيه سخطه تعالى وعقابه، وذلك ما بينه في الآية 119 في خاتمة هذه السورة، وسنعيد ذكرها في سنن الاجتماع. هذا ما يتعلق بالعقل والعلم والفهم من هذه الرذائل، وهاك الشواهد الخاصة بصفات النفس من الأخلاق والأهواء والأعمال، تابعة لما قبلها في العدد.

م- السادسة: اتباع الإتراف وما فيه من الفساد والإجرام: بين الله لنا في خواتيم هذه السورة الأسباب النفسية لهلاك الأمم الذين قص علينا أنباء إهلاكهم فكانت الآية [116] من أجمعها للمعاني، والمراد منها هنا أن مثار الظلم والإجرام الموجب لهلاك أهلها هو اتباع أكثرهم لما أترفوا فيه من أسباب النعيم والشهوات واللذات، والمترفون هم مفسدو الأمم ومهلكوها، وفي معنى هذه الآية آيات أخرى في سور الإسراء والأنبياء والمؤمنين وسبأ والزخرف والواقعة، ويؤيد مضمنوها علم الاجتماع الحديث ووقائع التاريخ، وأن كل ما نشاهده من الفساد في عصرنا فمثاره الافتتان بالترف، واتباع ما يقتضيه الإتراف من فسوق وطغيان وإفراط وإسراف. علم هذا المهتدون الأولون بالقرآن من الخلفاء الراشدين، وعلماء الصحابة والسلف الصالحين، فكانوا مثلا صالحا في الاعتدال في المعيشة، أو تغليب جانب الخشونة والبأس والشدة، على الخنوثة والمرونة والنعمة، فسهل لهم فتح الأمصار، ثم أضاعها من خلف بعدهم من متبعي الإتراف، فانظر كيف اهتدى السلف الصالح بالقرآن وحده وبيان السنة له إذ خرجوا به من ظلمات الجاهلية، إلى نور العلم والعرفان والحكمة، ثم كيف ضل الخلف الطالح عنه بعد، أن استفادوا العلوم والفنون والملك والسلطان به؟

م-السابعة والثامنة: والتاسعة والعاشرة: ضعف العزيمة، وما يلزمه من اليأس من رحمة الله، أو فرح البطر والغرور وما يلزمه من الأمن من مكر الله، تأمل في هذه الصفات النفسية الآيات الثامنة والتاسعة والعاشرة واقرأ تفسيرها فإنها تصورها لك ماثلة أمام عينيك في الحالتين المتضادتين اللتين تعرضان للمترف الخوار، والكفور الختار، إذا أذاقه الله نعماء بعد ضراء مسته، إذ ينسيه فرح البطر الاعتبار وشكر المنعم فيأمن مكر الله، وإذا نزعت منه بذنبه نعمة كان ذاقها من رحمة ربه، إذ يخونه الصبر فييأس من رحمته، ثم كيف استثنى الصابرين الذين يعملون الصالحات، تجد في نفسك من العظة والاعتبار، ما لا تجده في قراءة المطولات من تلك الأسفار.

م-الحادية عشرة: حصر الإرادة في شهوات الحياة الدنيا وزينتها، دون الآخرة والاستعداد لها، خلق الله تعالى هذا الإنسان مستعدا لعلوم ومعارف لا حد لها، فجعله خليفة له في الأرض {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، ولذلك ترى الناس يبحثون عن جميع الموجودات مما في الأرض وفي السماوات، من كشف عن قطبي الأرض وشناخيب أعلى الجبال، وغوص في أعماق البحار، وتحليق في أقصى محيط الهواء، بل تجاوزوا كل هذا إلى رؤية ما فوقه من شموس وأقمار، وما تتألف منه من ضياء وأنوار، وما فيها من عجائب وأسرار، ويبذلون في سبيل ذلك الأموال والشهوات والحياة أيضا، وهم مستعدون بفطرتهم الروحية للوصول إلى ما هو أعلى من ذلك كله من عالم الغيب، والوصول إلى العلم الأعلى بالله الواحد القهار، ومعرفته معرفة كشف ورؤية بالبصائر يغشى نورها الأبصار بالتجلي الذي ترفع به أكثر الحجب والأستار، بغير كيف ولا حد ولا انحصار، في حياة بعد هذه الحياة الدنيوية، المقيدة فيها أرواحهم بهذه الأشباح الكثيفة الجسدية، وأن له تعالى هنالك لتجليات لعباده المقربين كما تجلى كلامه في الدنيا لأسماعهم وأبصارهم وعقولهم وقلوبهم بما يعلو كلام المخلوقين. أفليس من الحماقة والجناية على هذا الاستعداد العلوي العظيم أن يجعل هذا الإنسان إرادته محصورة في هذه الحياة المادية، وزينتها الجسدية، فيكون منكرا أو كالمنكر لتلك الحياة الأبدية؟ بلى وذلك قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 15، 16] وما في معناهما من الآيات. [فإن قيل] وما تفعل بقوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة} [الأعراف: 32] الآية؟ [قلت]: إنما كانت للمؤمنين في الدنيا بالاستحقاق، وإنْ شاركهم غيرهم بالكسب وسنن الأسباب؛ لأنهم هم الذين يشكرونها لله، ولا تشغلهم عنه، فتكون إرادتهم محصورة في التمتع بها، كيف وهم الذين قال فيهم {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الكهف: 28]، فالمؤمن الشاعر الصابر تزيده النعم شوقا إلى الله وحبا، والشدائد معرفة بالله وقربا.

م- الثانية عشرة: ازدراء الكفار المستكبرين للفقراء والضعفاء من المؤمنين: كان الملأ المستكبرون من الأقوام، المغرورون بالمال والجاه، هم أول الذين يجحدون آيات ربهم ويكذبون رسله؛ لأنهم يرون في اتباعهم لهم غضا من عظمتهم، وخفضا من علو رياستهم، ووقوفا مع الدهماء، حتى الفقراء والضعفاء، في وصف التابعين لأولئك الأنبياء، وجعلهم مثلهم مرءوسين لهم، كما حكاه التنزيل عن جواب ملأ فرعون لموسى وأخيه [عليهما السلام] بقوله {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض} [يونس: 78] كما كان الذين يسبقون إلى الإيمان بهم من هؤلاء الضعفاء والفقراء وكذا الوسط، ولهذا كان الكبراء المستكبرون يزدادون إعراضا عن الأنبياء وعداوة لهم كما بينه التنزيل مرارا وتكرارا، ومنه في قصة نوح {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} -إلى قوله عليه السلام- {ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خبرا} [هود: 27-31]، ومنه تهديد مدين لرسولهم شعيب [عليه السلا م] بالرجم هنا لولا رهطه، وتهديده ومن آمن معه في سورة الأعراف بالنفي والإخراج من أرضهم، ومنه تهديد فرعون لموسى وأخيه، وما فعله مشركو مكة برسول الله وخاتم النبيين من التهديد بالقتل أو الحبس أو الإخراج من وطنه، وقد فعلوا ما استطاعوا، وكذلك يفعلون بدعاة الإصلاح وكل من يرشد الشعوب إلى مقاومة الظلم والاستبداد، والرياسة الطاغية المتكبرة في كل زمان ومكان، فهذا الإرشاد الرباني في كتاب الله تعالى عام دائم لا نهاية له، ولا غنى عنه. وقد غفل أهل القرآن عنه.

م-الثالثة عشرة: الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا: كان الظالمون المعاندون للرسل يستهزئون بدعوتهم ويزدرون أتباعهم من الضعفاء حتى إذا ما كثروا وخافوا منهم قوة الكثرة طفقوا يصدونهم عن سبيل الله، أي الطريق الموصلة إلى ما يحبه لهم من الحق والخير والسعادة، يصدونهم بكل ما استطاعوا من أسباب الصد كالإهانة والتخويف والتعذيب للضعفاء، وتزيين العصبية وحب الرياسة والغنى للأقوياء، ويبغونها عوجا أي يطلبوا جعلها معوجة بذمها وادعاء بطلانها وضررها، وقد ورد هذان الوصفان في الآية 19 من سياق رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم هنا وفي سورتي إبراهيم والأعراف، وفي قصة شعيب من سورة الأعراف أيضا إذ كان قومه يقعدون في كل طريق من طرقهم يصدون الناس عن دعوته ويبغونها عوجا، وتكرر ذكر الصد عن سبيل الله بدون وصفها بالعوج في سور أخرى، وكذلك يفعل أعداء الإسلام من الملاحدة ودعاة الأديان الباطلة حتى هذا الزمان.

م-الرابعة عشرة: العداوة بالكيد والتهديد والوعيد للرسل: جاء في قصة هود عليه السلام قوله {فيكدوني جميعا ثم لا تنظرون} [هود:55]، فقد كان يتوقع الكيد منهم وهل كان وقع له فقاس المستقبل على الماضي أم علمه من حالهم، أم فرض وقوعه فرضا وأنبأهم بعد مبالاته به؟ كل جائز. وفي قصة شعيب عليه السلام حكاية عن قومه {وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز} [هود: 91]، وفيها من العبرة أن هذا دأب المفسدين في عداوة المصلحين ورثة الأنبياء، وأشدهم كيدا لهم الحسد والبدع من لابسي لباس العلماء، وأعوان الملوك والأمراء.

م-الخامسة عشرة: افتراء الكذب على الله تعالى: الدين في حقيقته وطبيعته وعرف جميع الملل تشريع إلهي موضوعه معرفة الله تعالى وعبادته وشكره وتزكية النفس وتهذيبها باجتناب الشر وفعل الخير والتعاون بين الناس على البر والتقوى الخ، ومصدره وحيه تعالى لمن اصطفى من عباده لرسالته، وتبليغهم لما ارتضاه وشرعه لهم من الدين، فليس لأحد غيره تعالى أن يشرع لهم عبادة ولا حكما دينيا من حرام أو حلال، ومن فعل ذلك كان مفتريا على الله الكذب، سواء أسنده إليه تعالى بالقول أم لا، لأن كل ما يتخذ دينا من قول أو فعل أو ترك فهو يتضمن معنى نسبته إلى الله، وادعاء أنه هو الذي شرعه؛ لأن الدين لا يكون إلا منه وله، وآيات القرآن صريحة في هذا، سبق بعضها في السور التي فسرناها، ولا سيما الأنعام والأعراف والتوبة ويونس، ومنه في هذه السورة {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [هود: 18] الآية، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ما، ومنه القول في الدين بغير علم من عقيدة وعبادة وتحليل وتحريم، وهو شرك بالله بتعدي ضرره إلى عباده، وبهذا كان أشد جرما وكفرا من عبادة الأصنام وغيرها كما تقدم بيانه في تفسير {وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطان وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]، ومن ثم كان ابتداع العبادات والتحليل والتحريم في الدين شركا وكفرانا، إذ الجاهلون يعدونها عبادة يرجون بها ثوابا، ويسمون مبتدعيها أولياء الله وأحبابا، ويجهلون أنهم اتخذوهم من دونه أندادا وأربابا.

م-السادسة عشرة: الاستهزاء بالأنبياء وما جاؤوا به من الحق والسخرية منهم ووصفهم بالسحر:

اقرأ في مسألة السحر الآية السابعة، وفي مسألة الاستهزاء بالحق وما أنذروا به من العذاب الآية الثامنة، وكلاهما في قوم خاتم النبيين، وفي السخرية الآية 38 في قوم نوح، وفي هذا المعنى آيات في سور أخرى، وتقدمت الشواهد في صفة المستهزئين المغرورين بزعامتهم وثروتهم وإترافهم، واحتقارهم للضعفاء والفقراء في المسائل [11 -14]، وهذا نوع منه، فلا نطيل في العبرة به وبأهله في عصرنا.

[م-السابعة عشرة: اعتقاد بعضهم أن آلهتهم تنفع وتضر بنفسها] بينا مرارا أن غريزة الشعور بوجود إله للخلق هو مصدر غيبي للنفع والضر بذاته هي أصل الدين الفطري، وأن العبادة الفطرية هي التقرب إلى المعبود النافع الضار بقدرته الذاتية غير مقيد بالأسباب الكسبية، وأن سبب الشرك توهم أن بعض ما في عالم الشهادة يضر وينفع بذاته أو بوساطته عند الرب ذي القدرة الذاتية الغيبية على ذلك. فالشرك دركتان إحداهما أسفل من الأخرى، والظاهر أن قوم هود كانوا في الدركة السفلى؛ إذ قالوا له {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} [هود: 54]، وأما قوم نبينا صلى الله عليه وسلم فقد ارتقوا عن هذه الوثنية السفلى؛ إذ كانوا يعتقدون أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع ولكنها تشفع لهم عند الله تعالى يقولون: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، وتجد أمثالا للفريقين في مدعي الإيمان بالقرآن كما بيناه في تفسير تلك الآية وغيرها، فهم يقولون في كل من تصيبه مصيبة من المنكرين لخرافتهم وتصرف أوليائهم في العالم: إن الولي تصرف فيه أو عطبه، وراجع تفسير الآية والكلام في التوحيد ووظائف الرسل من هذه الخلاصة. كل هذه الرذائل والمخازي المبينة في المسائل السبع عشرة هي من فساد العقائد وصفات النفس الباطنة، وأما الرذائل العملية التي اشتهر بها أولئك الأقوام فأجمعها للفساد إسراف بعضهم في الشهوة البدنية، وإسراف آخرين في الطمع المالي، وتجد في قصص هذه السورة منها المسألتين [18 و19].

م-الثامنة عشرة: استباحة شهوة اللواط وإعلان المنكرات: وهي ما حكاه الله تعالى عن قوم لوط في عدة سور، ومنها في هذه السورة الآيات 77 وما بعدها، وقد بينا مخازيها في تفسير سورة الأعراف.

م-التاسعة عشرة: استباحة أموال الناس بالباطل: وهو ما حكاه عن قوم شعيب من التطفيف في المكيال والميزان، وبخس الناس أشياءهم، والعثي في الأرض بالفساد، واحتجاجهم على ذلك بحرية التصرف في الأموال، وهو ما حكاه تعالى عنهم في الآيات 84- 88.

م- العشرون: الطغيان والركون إلى الظالمين: الطغيان تجاوز الحد في الشر والركون إلى الظالمين ظلم، وهما من أمهات الرذائل، فاجتنابها من الفضائل السلبية التي لا تتم الاستقامة بدونها، ولذلك عطف النهي عنهما على الأمر بها بقوله {ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} [هود: 112، 113]، وقد أطلنا في الكلام على الركون إلى الظالمين، وأوردنا فيه أقوال أشهر المفسرين فراجعه.

م-الحادية والعشرون: الظلم: جريمة الظلم أم الرذائل كلها؛ لأنها تشمل ظلم المرء لنفسه بدنا وعقلا ودينا ودنيا، وظلمه للناس أفرادا وجماعة وأمة، فكل ما سبق من الرذائل فهو داخل في معناها، ولذلك جعل إهلاك أولئك القرون عقابا على الظلم، وترى بيان هذا في آخر الباب السادس من هذه الخلاصة.

وجملة القول في هذا الفصل: إن كل ما فيه من الرذائل يدخل في باب قسم المحرمات المنهي عنها من الركن العملي من أركان الدين الذي هو عمل الصالحات المستلزم لترك أضدادها، وأما قسم المأمورات فهو ما تراه في الفصل الثاني وهو: الفصل الثاني من الباب الخامس [في الأخلاق والفضائل النفسية والعملية البدنية] قلنا إن هذه السورة في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام، والتثبيت عليها، بقصص أشهر الرسل الذين خلوا من قبله في جزيرة العرب، وما جاورها مع أقوامهم، مما يفهمه مشركو قومه، وتقوم به الحجة عليهم، فليس موضوعها بيان تفصيل الفضائل والأعمال الصالحة التي توجه إلى المؤمنين به، ولكن ما يخصهم منها على قلته، كثير في معناه وفائدته، ولهم من الذكرى وما يجب التأسي به من فضائل الرسل غير ما خصهم الله من الوحي والعصمة، ما يكفي المتدبرين له المعتبرين به في تزكية أنفسهم، وجعلهم أسعد الناس بمعرفة ربهم وعبادته وإرشاد عباده، فالفضائل فيها قسمان، نسرد لقارئي هذا التفسير ما فهمناه من مسائلهما والشواهد عليها جميعا، وهي إحدى وعشرون أيضا:

الأولى والثانية: استغفار الرب، والتوبة إليه من كل ذنب:

هاتان فضيلتان فريضتان متلازمتان فكأنهما واحدة، جاء الأمر بهما في الآية الثالثة من صدر هذه السورة عقب النهي عن عبادة غير الله عز وجل من دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم كرر في دعوة غيره في الآيات 52، 60، 90، فعلم أنه كان أمرا عاما على ألسنة الرسل عليهم السلام، وسنذكر فائدتهما العمرانية في الكلام على السنن الإلهية من الباب السادس من هذه الخلاصة.

الثالثة: الصبر:

ذكر الصبر في صفة المؤمنين في الآية الحادية عشرة من الكلام في رسالته صلى الله عليه وسلم، ثم أعيد ذكره في آية الاحتجاج على رسالته صلى الله عليه وسلم بعد قصة نوح بقوله تعالى له {فاصبر إن العاقبة للمتقين} [هود: 49]، ثم في آخر السورة بقوله تعالى: {واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} [هود: 115]، فالصبر هو الخلق الذي يستعان به على جميع أعمال الأفراد والأمم في الشدة والرخاء.

الرابعة: العمل الصالح المطلق:

ذُكر العمل الصالح مع الصبر في آيته الأولى، ثم ذُكر في صفة المؤمنين في الآية 23، وتقدم ذكره في إجمال الباب، وفي معناه إحسان العمل في الآية السابعة، وسيأتي الكلام عليها في ابتلاء البشر.

الخامسة: الإخبات إلى الرب عز وجل:

ذكرت هذه الفضيلة معطوفة على العمل الصالح في آيته الثانية و [32]، ويا لها من فضيلة تدل على كمال الإيمان والعرفان والفرقان، فراجع تفسير الآية.

السادسة: الاستقامة كما أمر الله تعالى:

أمر الله رسوله خاتم النبيين في خواتيم هذه السورة بهذه الفضيلة بقوله {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112]، فجعل هذا الأمر بعد قصص الرسل فذلكة لفوائدها، وأشرك معه فيها المؤمنين من أتباعه، فراجع تفسيرها وما فيه من تعظيم شأنها.

السابعة: إقامة الصلاة في أوقاتها من النهار والليل:

جاء الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الإقامة للصلاة معطوفا على ما قبله من النهي عن الطغيان، والركون إلى الظالمين، والأمر بالاستقامة، وعلله بالقاعدة العامة في تكفير الحسنات للسيئات، وأعظم الحسنات الروحية إقامة الصلوات، إرشادا لأمته إلى المبادرة إلى تطهير أنفسهم وتزكيتها، في إثر كل ما يعرض لهم مما يدسيها ويدنسها، فراجع تفسيرها وتحقيق معنى هذا التطهير فيه بما يرشد إليه علم النفس.

الثامنة والتاسعة: النهي عن الفساد في الأرض، ويلزمه الأمر بالصلاح فيها، وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

بعد أن بين الله تعالى لعباده في آخر كتبه على لسان رسوله خاتم النبيين ما يكفر سيئاتهم أفرادا، وهو فعل الحسنات التي تمحو أثرها السيئ من أنفسهم، بين لهم ما هو منجاة للأمة والشعب من الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، وهو وجود طائفة عظيمة التأثير فيها تنهاها عن الفساد في الأرض بالظلم والفساد والفسوق بارتكاب الفواحش والمنكرات، وهو قوله {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض} [هود: 116]، وبين لنا عقب هذا في الآية أن القرون التي أهلكها لم يكن فيها إلا قليل من أمثال هؤلاء هم الذين أنجاهم مع رسلهم، وأن الجمهور الذين أهلكهم كانوا متبعين للإتراف بالفسوق والإسراف، وهو غاية الفساد والإفساد، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياج الدين والأخلاق والآداب. وصرح في الآية التي بعدها [117] بأن سنته في الأمم أنه لا يهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون في الأرض، وعبر عن الأمم بالقرى وهي عواصم ملكها، لأنها مأوى الزعماء والرؤساء الحاكمين الذين تفسد الأمم بفسادهم، وتصلح بصلاحهم، وهي حقائق فسرها علم الاجتماع الحديث، وإننا لنرى مصداقها بأعيننا، والذين يتعبدون بألفاظ القرآن دون معانيه لا يعتبرون بها؛ لأنهم لا يفقهون ما فيه، وسنعود إلى ذكرها في بيان سنن الاجتماع من الباب السادس، ولا بد من التكرار في هذه الأبواب. فهذه التسع من أمهات الفضائل تكفي من تدبرها علما وعرفانا وهداية وإرشادا لجميع الأعمال الصالحات التي هي الركن الثالث من أركان الدين، وفي السورة من الفضائل التي تستمد فيها من سيرة الرسل عليهم السلام ويقتدى بهم فيها، وجميع المكلفين مطالبون معهم بها، فنشير إليها تتمة للعدد.

العاشرة: البينة من الله تعالى في الدين:

إن ما تقدم في صفات الرسل عليهم السلام من أنهم كانوا على بينة من ربهم بما خصهم به من الوحي والآيات يشاركهم فيها المؤمنون بهم بالاتباع لهم فيها، كما قال الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم -وهو خاتمهم- {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف: 108]، فبصيرته صلى الله عليه وسلم مقتبسة من نور القرآن، تلقاها هو من وحي الله، وتلقيناه نحن من تبليغه عن ربه وربنا عز وجل مؤيدا بالحجة والبرهان، وإنما المحروم من نوره من يتلقى عقيدته وعبادته من غيره.

الحادية عشرة: الحرية والاستقلال في هذه البيئة:

قال تعالى حكاية عن رسوله نوح عليه السلام {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} [هود: 28]، فيؤخذ من هذه الآية التي بلغها أول المرسلين لقومه، ومن قوله تعالى لخاتم النبيين والمرسلين {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس:99]، ومن إنزاله عليه عند إمكان الإكراه في عهد القوة {لا إكراه في الدين} [البقرة: 256] أن دعوة الدين والهدى تقوم بالبينة والحجة، لا كما فعل نصارى الإفرنج، ولا تزال تفعل بعض دولهم من نشر النصرانية بالإكراه والقوة، أو بالخداع والحيلة، فعلى كل مسلم أن يكون على بينة من ربه وبصيرة في دينه، وقد فسروا البصيرة بالحجة، والدعوة إلى سبيل الله كما أمر بالحكمة والموعظة الحسنة.

الثانية عشرة: الاحتساب والإخلاص لله في الدعوة دون التجارة بها:

تقدم في صفات المرسلين عليهم السلام أن دعوتهم وهدايتهم كانت لإعلاء كلمة الله تعالى وإرادة وجهه الكريم، وأنهم كانوا يصرحون لأقوامهم بأنهم لا يسألونهم عليها مالا ولا أجرا، كما رأيت في الآيتين 29 و 51 من هذه السورة، وذكرناك بمثلها في السور الأخرى، فعلى كل داع إلى الله تعالى أن يكون في دعوته وهدايته مخلصا لله تعالى لا يبتغي بها مالا ولا جاها في الدنيا، ولكن هذا لا يمنع وجوب بذل المسلمين المال لمساعدة الدعاة، فإنه تعالى قال لهم {وتعاونوا على البر والتقوى} [المائدة: 2].

الثالثة عشرة: ولاية فقراء المؤمنين وضعفائهم ككبرائهم:

تقدم في صفات الرسل عليهم السلام أن هذه الفضيلة من أخص فضائلهم، واستشهدنا عليها بما رد به نوح عليه السلام على أشرف قومه؛ إذ طعنوا على أتباعه، ولقبوهم بأراذلهم في الآيات 27-30 وما في معناها، وناهيك في هذا الباب بسورة الأعمى؛ ففيها العبرة الكبرى لكل ذي بصر وبصيرة، ومن خصائص المسلمين الثابتة في الكتاب أن بعضهم أولياء بعض، ومن صفاتهم في السنة: المسلمون ذمتهم واحدة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم) الخ، وأنهم (كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا)، وبهذا يكونون الآن كما كان سلفهم أمة قوية في قتالهم وسلمهم، فهل مسلمو عصرنا كما وصف الله ورسوله؟

الرابعة عشرة: النصيحة العامة:

كان الأنبياء عليهم السلام كلهم ناصحين لأقوامهم، فيجب الاقتداء بهم، وقد ذكرنا من شواهد النصح في قصة نوح قوله {ولا ينفعكم نصحي} [هود: 34] الآية، وفيها من سورة الأعراف قوله لقومه {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} [الأعراف:62]، وفي قصة هود منها {أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين} [الأعراف: 68]، وفي قصة صالح منها {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} [الأعراف: 79]، وفي قصة شعيب منها {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين} [الأعراف: 93]، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم. فهل مسلم عصرنا على هذا الدين، دين جميع النبيين والمرسلين؟

الخامسة عشرة: محبة الأولاد وحدود السعي لخيرهم:

محبة الأولاد فضيلة من فضائل الفطرة الإنسانية؛ بل الغريزة الحيوانية، وحقوقهم على الوالدين مقررة في الشرع بما يحدد دواعي الغريزة والطبع، ويقف بها دون الغلو المفضي إلى عصيان الله تعالى أو هضم حقوق عباده، وفي قصة نوح مع ولده الكافر في هذه السورة ما فيه إرشاد وهدى للمؤمنين في ذلك، فهل هم متبعون؟

السادسة عشرة: إكرام الضيف وحفظ كرامته:

في خبر إبراهيم الخليل مع الملائكة المبشرين له بإسحاق وعنايته بضيافتهم، ثم في قصة لوط معهم وشدة عنايته بحفظهم من شر قومه -قبل أن يعرف أنهم ملائكة جاؤوا لتعذيبهم – خير أسوة في فضيلة إكرام الضيف وتكريمه، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، وقال: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) متفق عليه.

السابعة عشرة: العمل بالعلم، والائتمار والانتهاء على من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر:

هذه فضيلة هي فريضة ثابتة بنصوص القرآن تؤيدها بداهة العقل، وهي شرط طبيعي لقبول العلم والإرشاد من القائمين به، ورسل الله تعالى أئمة الهدى فيها، وفي هذه السورة منها قول شعيب عليه السلام لقومه {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88]، وإنها لعبارة بليغة في موضوعها، فراجع تفسيرها وما هو أعم منها، كأول سورة الصف، وآية {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44]، الخ. وانظر أين تجد علماء عصرنا من هذه الآيات.

الثامنة عشرة: الإصلاح العام بقدر الاستطاعة:

ما شرع الله الدين للبشر إلا ليكونوا صالحين في أنفسهم، مصلحين في أعمالهم، وقد بين ذلك شعيب عليه السلام بصيغة الحصر في الآية 88، وهي {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت}، وهو أبلغ البيان، وأعمه، وأتمه، وهو واجب على كل مسلم.

التاسعة عشرة والعشرون: الاستقامة والثبات على الفضائل والأعمال الصالحة: قال تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112]، وأهمها المحافظة على الصلوات في أوقاتها، ومن شواهدها هنا {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل} [هود: 114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل) متفق عليه.

الحادية والعشرون: التوكل على الله عز وجل:

تقدم الكلام عليه في بحث التوحيد، في الفصل الأول من الباب الأول، وفي صفات الرسل من آخر الباب الثالث.

الباب السادس: في سنن الله تعالى في التكوين والتقدير والطبائع والغرائز والاجتماع البشري وفيه ثلاثة فصول:

الفصل الأول: في سنن التكوين والتقدير، أي نظام الخلق وفيه أنواع سننه تعالى في رزق الأحياء:

النوع الأول: قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا علي رزقها} [هود:6] يشير إلى سنن كثيرة، فإن الرزق المضاف إلى ضمير هذه الدواب الكثيرة عام يشمل أنواعا كثيرة منها، ومن المعلوم بالآيات المنزلة والآيات المشاهدة أن رزق الله تعالى لجميع الأحياء هو ما خلقه من الأقوات لكل جنس ونوع منها، وهداه إلى التغذي به لحفظ حياته ونمائه وبقائه إلى الأجل المقدر له، ويجري ذلك بسنن كثيرة وضع البشر لتفصيلها علوما كثيرة في النبات والحيوان ووظائف أعضاء التغذي والهضم وغير ذلك. سننه في مستقر الأحياء ومستودعها.

الثاني: قوله {ويعلم مستقرها ومستودعها} [هود:6] يشمل سننا أخرى كثيرة، فقد بينا في تفسير المستقر والمستودع أن فيهما أقوالا إلا يحتملها اللفظ، ونقول على المذهب المختار في جواز أن يكون كل معنى يحتمله اللفظ مرادا منه: إن تعدد أنواع الاستقرار والاستيداع وأماكنهما وأزمانهما- لكل نوع من الدواب في الحمل به، وحضانته، وولادته، وحياته، وموته، ووطنه، وتنقله -يقتضي أن يكون لكل من ذلك سنن في منتهى الحكمة والنظام، ولك أن تجملها في نوع واحد وأن تفصلها فتجعلها عدة أنواع. سننه في كتابة نظام العالم ومقاديره

الثالث: قوله تعالى: {كل في كتاب مبين} [هود:6] بيان لنوع آخر من النظام، وهو نوع الكتابة بالشامل لما ذكر قبله من نوع تعلق العلم، وما قبله من نوع تعلق القدرة بما وجد من المعلومات بالفعل، ومثاله المقرب لتصوير حكمته تدوين كتاب ديوان الحكومة النظامية لكل ما فيها من أعيان وأموال وأعمال ومقادير وتدبير، فالوحي يعلمنا أن الكون الأعظم قائم بنظام أحاط به علم الله تعالى، وأن مقاديره التي نفذت بقدرته تعالى: {كان ذلك في الكتاب مسطورا} [الإسراء: 58]، فهو مسطور في لوح محفوظ في عالم الغيب، لا نعلم تأويله، ولا صفة كتابته فيه، وله تعالى في كل نوع منه وفي جملته في عالم الشهادة سنن حكيمة يقوم بها بقدرته وإرادته {وكل شيء عنده بمقدار} [الرعد: 8]، وهو النظام، فله تعالى كتابان: في أحدهما نظام التكوين، وفي الآخر بيان التكليف، فكتاب التكليف بين لنا ما نحن محتاجون إليه مما يفتح لنا أبواب العلم بما في كتاب التكوين، وكل منهما كتاب مبين، وقد اشتبه على بعض المفسرين أحد الكتابين بالآخر. سننه في خلق السماوات والأرض في ستة أيام.

الرابع: قوله تعالى: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام} [هود: 7]، فيه من بيان سنته تعالى في التكوين أنه كان أطوارا في أزمنة مقدرة بنظام محكم، ولم يكن شيء منه أُنُفا [بضمتين]، أي فجائيا بغير تقدير ولا ترتيب، فإن كلمة الخلق معناها التقدير المحكم الذي تكون فيه الأشياء على مقادير متناسبة، ثم أطلقت بمعنى الإيجاد التقديري، ومنه أن السماوات السبع المرئية للناظرين وكل جرم من الأجرام السماوية يرى فوق أهل الأرض أو أرض من الأرضين، فكلها قائمة بسنن دقيقة النظام، وأن كل نوع من أنواع ما فيها من البسائط والمركبات الغازية والسائلة الجامدة قائم بسنن أيضا، وأن الكون في جملته قائم بسنة عامة في ربط بعضه ببعض، وحفظ نظامه أن يبغي بعضه على بعض، كالذي يسميه العلماء نظام الجاذبية العامة والجاذبيات الخاصة. سننه في خلق الأحياء من الماء، وخلق المركبات أزواجا.

الخامس: قوله تعالى بعد ذكر هذا الخلق {وكان عرشه على الماء} [هود:7] فيه إشارة إلى نوع من أنواع التكوين الأول، وهو الماء الذي خلق منه جميع أنواع الأحياء، وقد كتبنا في تفسير هذه الجملة فصلا في هذا التكوين ذكرنا من سننه سنة الزوجية في خلق جميع المركبات، فقد قال {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30]، وقال {ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]، وقال {سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون} [يس: 36]، وقد وصل علم البشر في عصرنا إلى كثير من هذه السنن، وما قامت به، مما لم يكن يعلمه المتقدمون من علماء المواليد وغيرها، ولا يزالون يتوقعون أن يظهر لهم غيرها، مما يدل على أن هذه المخلوقات لا يحيط بها إلا علم خالقها عز وجل، كما بسطناه في تفسير هذه الآية [7].

الفصل الثاني: في سنن الطبائع والغرائز البشرية وفيه بضعة شواهد سنته تعالى في اختبار البشر لأجل إحسان كل عمل:

الشاهد الأول: بين الله تعالى لنا بعد ما تقدم آنفا من بدء الخلق حكمته العظمى فيه للبشر بقوله {ليبلوكم أيكم أحسن عملا} [هود: 7]، فإن إحسانهم لأعمالهم التي أعدهم لها هي التي تظهر ما في هذا الخلق علويه وسفليه من الحكم والأسرار التي لا حد لها ولا نهاية، بين هذا بأسلوب الالتفات عن الخبر إلى الخطاب العام، ويا له من أسلوب لا يعرف له ضريب من كلام بلغاء البشر، ثم التفت عنه إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} [هود: 7]، وفي هذا الخبر المؤكد بصيغة القسم بيان لسنتين من سنن الله تعالى في البشر، إحداهما في حالة من أحوال اجتماعهم وموضعها الفصل الثالث، والأخرى في نوع من أنواع غرائزهم وطباعهم وهي أنهم إذا أخبروا بشيء لم تصل إلى إدراكه عقولهم أنكروه، على أنهم مستعدون بالفطرة للعلم بكل شيء كما قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]، فإذا قال لهم الرسول المخبر: إن هذا الخبر عن الله القادر على كل شيء، وجاءهم بالآية الدالة على صدقه من علمية أو عقلية يعجزون عن مثلها قال أكثرهم {إن هذا لسحر مبين}، أي بين ظاهر، يعنون أنهم ما عجزوا عن مثلها إلا لأن لها سببا خفيا عليهم، قد يعرفه غيرهم، وقد يعرفونه بعد، فهذه سنة من سنته تعالى فيهم في حال من أحوالهم الناقصة المتعارضة كما بينته في محله من قبل، والمراد هنا التذكير لا تفصيله وتحقيقه. غريزة الناس في العجل والاستعجال.

[ش 2] قوله تعالى عقب ذلك {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} [هود: 8] الآية يرشدنا إلى سنتين من سننه تعالى في غرائز البشر، وفي اجتماعهم، كاللتين فيما قبله، نرجئ إحداهما إلى الفصل الثالث، ونبين الأولى بأن من طباعهم العجلة والاستعجال لما يطلبون من خير للتمتع به، وما ينذرون من شر ينكرونه للاحتجاج على بطلانه، كما بيناه في تفسير {ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم} [يونس:11] فراجعه في [ج 11 تفسير]. غريزة الفرح بالنعمة واليأس عند المصيبة

[ش3 و 4] في الآيتين 9 و10 بيان لغريزتين متقابلتين من الصفات المذمومة، بيناهما في الفصل الأول من الباب الخامس من الوجه البشري: وهما فرح البطر بالنعمة، ويأس الكفر عند المصيبة، ونُذَكر بهما هنا من وجه النظام الإلهي والسنن العامة، ومن دقائق التناسب بين الآي ورود هذه السنن متعاقبة متصلة. غريزة الإفراط في توجيه القوى إلى شيء يلزمه ضعف ضده

[ش5] قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} [هود: 15] الآية فيه شاهد على سنة العجل في غرائز البشر المبينة في الشاهد الثاني آنفا، وشاهد على سنة أخرى هي أن الإنسان إذا وجه إرادته بكل قوتها إلى ما فيه متاع له من اللذة والمنفعة العاجلة عسر عليه أن يعقل ما ينذر به من الضرر الآجل الذي يعقبه في الدنيا، وما ينذر به مما لا يؤمن به من عذاب الآخرة يكون فقهه له أعسر، واقتناعه به أبعد، إلا أن يهديه الله للإيمان بالقرآن إيمانا يشترك فيه العقل والوجدان. فقد هداية السمع والبصر.

[ش6] قوله تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} [هود: 20] في معنى ما تقدم من سنته تعالى في توجيه الإنسان كل إرادته إلى شيء يضعف فيه غريزة الإدراك لما يخالفه، ونزيد عليه أنه يضعف هداية السمع والبصر حتى يفقد القدرة على الاهتداء بهما والانتفاع بدلائلهما، فهي من هذه الناحية سنة أخرى. الإيمان بالإقناع دون الإكراه واستعداد البشر للإضلال.

[ش7] الآية 28 حكاية عن نوح [عليه السلام] في شأن ما آتاه الله من البينة على صحة دعوته لهم- إذا عميت عليهم -أنه لا يمكن أن يلزمهم إياها وهم كارهون لها تدل على أن سنته في البشر أن الإيمان لا يكون بالإلزام، وأن الكاره للشيء لا تتوجه إرادته إلى طلبه، وفهم ما يدل عليه من الآيات والحجج، وأن دعوة الرسل توجه إلى استعمال ما أعطوا من الاستعداد للنظر والاستدلال، وهو المراد بقوله تعالى في غريزة الإنسان {وهديناه النجدين} [البلد: 10]، وقوله في صفة نفسه {فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس: 8]. سننه في ضلال الناس وغوايتهم.

[ش8] قوله تعالى حكاية عنه في مجادلة قومه {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} [هود: 34]، فيه بيان لسنته تعالى في غواية الغاوين، وكفر الكافرين، وضلال الضالين الخ، وقد بيناها في تفسير الآيات الكثيرة التي أسند فيها إليه تعالى فعل شيء من ذلك بما خلاصته أن الإغواء والإضلال عبارة عن وقوع الغواية والضلال بسنة الله في تأثير ارتكاب أسبابهما من الأعمال الاختيارية، والإصرار عليها، إلى أن تتمكن من صاحبها، وتحيط به خطيئته، حتى يفقد الاستعداد للرشاد والهدى، وقد غفل عن هذه السنن علماء الكلام فطفقوا يتنازعون بينهم في خلق الله الكفر والضلال للإنسان حتى يكون عاجزا عن الإيمان والعمل الصالح: هل هو جائز من الخالق عقلا وشرعا وواقع فعلا، أم هو مستحيل عليه، وينزه عنه؛ لأنه ظلم ينافي العدل والحكمة؟ وأي الآيات فيه يجب تأويلها؟ والحق -إن شاء الله- ما قلنا، فلا تأويل.

[ش9] قوله تعالى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} [هود: 118] نص في أن سنته تعالى في البشر أن يتفرقوا بمقتضى الغريزة إلى شعوب وقبائل، ويكونوا مختلفين في العقول والأفهام والمنازع، وفي اللغات والأديان والشرائع، ومتنازعين في المصالح والمنافع.

الفصل الثالث: في سنن الاجتماع والعمران، وفيه بضعة عشر شاهدا سنة الله في توبة الأمم من الذنوب كالأفراد:

[ش1] أمر القرآن الأمم كالأفراد باستغفار الرب والتوبة إليه من كل ذنب في الآيات 3 و 52 و90، وجعلهما سببا وشرطا لما وعدها به من التمتيع المادي والفضل المعنوي في الأولى، ومن إدرار الغيث وزيادة القوة في الثانية، بصراحة المنطوق، وما في معناهما من حفظ النعم بدلالة المفهوم في الثالثة، فالآيات الثلاث بيان لسنة من سنن الاجتماع، وهو أن الصلاح والإصلاح سبب لارتقاء الأقوام والأمم وحفظها، كما أنه سبب لارتقاء الأفراد، والخطاب هنا للأقوام لا للأفراد، وما كل فرد يُعاقَب على ذنوبه في الدنيا، ولكن كل أمة تعاقب على ذنبها في الدنيا، وعقابها نوعان فصلناهما من قبل: [أحدهما ديني] وهو ما تقدم من إهلاك أقوام الرسل بتكذيبهم لهم وظلمهم لأنفسهم حسب إنذارهم، ومثاله عقاب الحكام لمخالفي شرائعهم وقوانين حكومتهم، [وثانيهما أثر طبيعي] اجتماعي لذنبها الذي يتحقق بفشوه فيها كما بيناه في تفسير هذه السورة وغيرها مفصلا، ونذكره في شواهد هذا الفصل مجملا، وقد كانت هذه السنة معروفة للمهتدين بالقرآن من سلفنا الصالح، ومن الآثار المروية عن العباس رضي الله عنه أنه لما قدمه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على نفسه في صلاة الاستسقاء لتذكير المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم، لقربه وشبهه به، فتخشع قلوبهم، كان مما قاله العباس في دعائه: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يرفع إلا بتوبة الخ. أما كون الظلم والبغي والفساد في الأرض سببا لانحطاط الأمم وضعفها وهلاكها فسيأتي في آخر هذا الفصل، وأما كونها سببا لقلة المطر والقحط أو للطوفان والجوائح فليس مما ثبت في علم الاجتماع؛ لأن الانقلابات الجوية لا يعرف لها البشر اتصالا بالذنوب الشخصية ولا القومية التي توصف بالاجتماعية، ولقد شرحنا هذه المسألة في العلاوة الرابعة لحادثة الطوفان [في ج 12 تفسير]. ارتقاء الأمم بإحسان الأعمال وإتقانها.

[ش2] قلنا في أول الفصل الذي قبل هذا: إن قوله تعالى في الآية السابعة [ليبلوكم أيكم أحسن عملا} فيه إرشاد إلى سنة من سنن الاجتماع، ونقول هنا في بيانها: إن من ضروريات هذا العلم أن ارتقاء الشعوب في مصالحها القومية والوطنية، وفي عزتها الدولية، هو أثر طبيعي لإحسان أعمالها في أسباب المعاش والثروة والقوة الحربية والتكافل والتعاون على المصالح والمقومات العامة لها، ولا يتم ما ذكر إلا بالصدق والعدل والأمانة والاستقامة، ولا تكمل هذه إلا بالإيمان بالله واليوم الآخر. عقاب الأمم له آجال طبيعية.

[ش3] قلنا أيضا إن في قوله تعالى: {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه} [هود: 8] سنة اجتماعية، ونقول هنا في بيانها: إن المراد بهذه السنة أن هذا العذاب له أجل عند الله معلوم، وزمن في كتاب نظام الخلق معدود، وهو ما يبلغ به ذنبها حده في الإفساد. وقد علمت آنفا أنه لا يقع عقاب إلا بذنب، ولكن الأمم الجاهلة لا تعقل هذا، وإنما يعقله بعض حكمائها، وقد ينذرونها وقوعه في وقته، فلا تغني عنهم النذر شيئا، كما يعلم من قصص الرسل وسنبسطه قريبا. أول أتباع الرسل والمصلحين الفقراء.

[ش 4] قوله تعالى حكاية عن قوم نوح {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي} [هود: 27] الآية هو نص في سنة الله في السابقين إلى اتباع الرسل، وكذا غيرهم من المصلحين، كما بيناه في تفسير الآية، وفي هذه الخلاصة، وتتمة في الشاهد التالي وهو. فلاح الجماعات والأمم بتكافل المصلحين فيها.

[ش5] قوله عليه السلام في جوابه لهم {وما أنا بطارد الذين آمنوا} [هود: 29] الآية مبني على سنن الاجتماع في الزعامة والعصبية، وتأليف الجماعات التي تحدث الانقلابات في الأمم، وكون ثباتها وظفرها رهنا بإيمان الجماعة التي تألفت لأجله إيمان يقين عقلي، ووجدان قلبي، وتكافل عملي، ومنه ولاية بعضهم لبعض بصفة يكون فيها الزعيم خير قدوة للأفراد، بتفضيله أدنى المؤمنين منهم على أعظم الكبراء من خصومهم، فأما الرسل عليهم السلام فقد هداهم الوحي إلى هذه السنة كما تقدم في بيان سنته تعالى في عداوة كبراء الدنيا من المتكبرين لهم، وأما زعماء الأمم في القرون الأخيرة فقد هدتهم إليها عِبَر التاريخ والتجارب، إلى أن دَوَّن علماء فلسفة التاريخ علم الاجتماع، وفصلوا فيه سننه، فعملوا به، وكان إمامهم حكيمنا العربي ابن خلدون رحمه الله. تنازع رجال المال ودعاة الإصلاح.

[ش6] في قصة شعيب مع قومه مسألة من أهم مسائل الاجتماع في العالم المدني، وهي التنازع بين رجال المال ورجال الإصلاح في حرية الكسب المطلقة، وتقييد الكسب الحلال، ومراعاة الفضيلة فيه، فقوم شعيب كانوا يستبيحون تنمية الثروة بجميع الطرق الممكنة حتى التطفيف في المكيال والميزان، فإذا كالوا أو وزنوا للناس نقصوا وأخسروا، وإذا اكتالوا عليهم لأنفسهم استوفوا وأكثروا، وكانوا يبخسون الناس أشياءهم في كل أنواعها، وكان شعيب عليه السلام ينهاهم عن ذلك كله، ويوصيهم بالقسط فيه، واجتناب أكل أموال الناس بالباطل والقناعة بالحلال، وكانت حجتهم حرية الكسب مقرونة بحرية الاعتقاد كما حكاه الله عنهم بقوله: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} [هود: 87]، وتقدم الاستشهاد بهذه الآية في الكلام على رذيلة التقليد ورذيلة استحلال أكل أموال الناس بالباطل، والكلام على فضيلة حرية الاعتقاد ومنع الإكراه في الدين، ونذكره شاهدا على كون هذا التنازع بين أهل الحق والفضيلة، وبين أهل الباطل والرذيلة، من سنن الاجتماع المعروفة، والأنبياء ينصرون الحق والفضيلة بالوعظ والإرشاد المؤيدين بالحجة ووسائل الإقناع، لا بالقوة ووسائل الإكراه، ومن كان له منهم شريعة مدنية كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كانت جامعة للوازعين: وازع النفس بمقتضى الإيمان، ووازع الشرع بمنع الاعتداء على حقوق الناس، وما زال التنازع المالي أعقد مشاكل الاجتماع، وزعم بعض علماء الاقتصاد أن الإصلاح المالي أعظم أسس الإسلام، ولأجله عادى كبراء قريش بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وتقدم تفصيل هذا في خلاصة سورة التوبة، وفي كتاب الوحي المحمدي. سننه تعالى في جعل العاقبة للمتقين.

[ش 7] قوله تعالى: {إن العاقبة للمتقين} [هود: 49] هو الأساس الأعظم لسنن الاجتماع في فوز الجماعات الدينية والسياسية والشعوب والأمم في مقاصدها، وغلبها على خصومها ومناوئيها، كما أنه هو الأساس الراسخ لفوز الأفراد في أعمالهم الدينية والدنيوية من مالية واجتماعية، فهذه الجملة البليغة آية من آيات كتاب الله الكبرى في جمع الحقائق الكثيرة، في المقاصد المختلفة في كلمة وجيزة، ولئن سألت أكثر علماء الدين في الأزهر وأمثاله -ممن لا بضاعة لهم في علم القرآن إلا مثل تفسير البيضاوي، وما دونه كالجلالين وحواشيه، وكذا تفسير الآلوسي الجامع لخلاصة هذه التفاسير- فقلت لهم: ما معنى كون العاقبة للمتقين؟ وما التقوى التي جعلها هذا النص علة لسكون العاقبة لهم على قاعدتكم في تعليق الحكم على المشتق؟ ليقولَنَّ أوسعُهم اطلاعا: إن التقوى فعل الطاعات وترك المعاصي، أو امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وإن الله وعد هؤلاء بحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، وهذا تفسير مجمل مبهم يمكن اختصاره بأن تقول: المتقون هم المسلمون الصالحون، وماذا عسى أن يقول قارئو هذه التفاسير على قلتهم غير هذا- أو ما في معناه- وقد قصر كل مؤلفيها فيما يجب من البيان التفصيلي لها في تقوى الأفراد والجماعات وتقوى الأمة؟ فإنه لم يشر أحد منهم إلى معناها العام، وهو اتقاء كل ما يفسد العقائد والأخلاق والروابط الخاصة والعامة، وتحري ما يصلحها بهدي الكتاب والسنة، وما أرشد إليه من سنن الله تعالى في حياة الأمم وموتها، وقوتها وضعفها، وبقاء دولها وزوالها، وكون هذه السنن مطردة في جميع الشؤون العامة من منزلية ومدنية ومالية وحربية وسياسية، لا تبديل لها ولا تحويل، ولا محاباة فيها بين أهل الملل والنحل، وبهذا كله تكون العاقبة المرجوة لهم في السيادة والسعادة، وقد بينا هذا المعنى في مواضع من هذا التفسير، لعل أجمعها وأدقها بالإجمال تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الأنفال: 29] الآية، ومن التفصيل له ما ترى في هذه الشواهد. نهي أولي الأحلام عن الفساد يحفظ الأمة من الهلاك.

[ش8] قوله تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض} [هود: 116]، جاءت هذه الآية بعد بيان إهلاك الأمم بظلمهم وإفسادهم في الأرض، للإعلام بأنه لو كان فيهم جماعات وأحزاب أولو بقية من الأحلام والفضائل والقوة في الحق ينهونهم عن ذلك لما فشا فيهم وأفسدهم، وإذن لما هلكوا، فإن الصالحين المصلحين في الأرض هم الذين يحفظ الله بهم الأمم من الهلاك ما داموا يطاعون فيها بحسب سنة الله، كما أن الأطباء هم الذين يحفظ بهم الأمم من فشو الأمراض والأوبئة فيها، مادامت الجماهير تطيعهم فيما يأمرون به من أسباب الوقاية قبل حدوث المرض، ومن وسائل العلاج والتداوي بعده، فإذا لم يمتثل الجمهور لأمرهم ونهيهم فعل الفساد فعله فيهم، وقد فهم الوعاظ والفقهاء من خلفنا الجاهل خلاف ما كان يفهمه السلف الصالح من بركة الصالحين المتقين وحفظ الله الأمم بهم، فظنوا أن المراد بهم الذين يكثرون من الصيام والقيام وقراءة الأوراد والأحزاب، كما قال الشاعر، وضرب الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المثل بقوله في الزواجر: لولا أناس لهم ورد يقومونا***وآخرون لهم سرد يصومونا لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا***فإنكم قوم سوء لا تطيعونا كلا، إن من أصحاب الأوراد من يقوم ليله بورد من تشريع مبتدع هو به عاص لله تعالى، لعبادته بغير ما شرعه، فكان ممن قال فيهم {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم} [الشورى: 21]، أي بهلاكهم، وفي الحديث: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر). كم من مصل هو مصداق لحديث (من لم تنه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا)، وكذلك كان دراويش مهدي السودان، وأمثالهم من المسلكين الجاهلين لهداية القرآن، فنكل بهم الإفرنج بمساعدة الفاسقين من المسلمين، واستولوا على بلادهم. وقد علمنا من أخبار هذا المهدي أنه كان على علم وبصيرة في صلاحه، ولكن قواده لم يكونوا بعده مثله، وصلاح دراويشه لا بصيرة فيه ولا علم. كلا، إن المراد بالصالحين الذين يحفظ الله بهم الأمم هم الذين قال الله فيهم {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء:105]، وهم المتقون الذين قال فيهم {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} [الأعراف: 128]، وقال: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم} [النور: 55] الآية، وقد تقدم الكلام فيهم قريبا، وأن الله لا يحفظ الأمم بذواتهم وبركة أجسادهم، ولا بعباداتهم الشخصية القاصر نفعها عليهم، بل بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وطاعة الأمة لهم. نعم، إن الله لا يهلك الأمة كلها بعذاب الاستئصال ما دام فيها جماعة من الصالحين؛ ولكنه يعذبها بذنوبها فيما عدا ذلك، مما فصلناه في علاوة قصة الطوفان الرابعة. الطغيان والركون إلى الظالمين سبب الحرمان من النصر.

[ش9] قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا} [هود: 112]، وقوله بعدها: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار} فيهما من سنن الله تعالى في الاجتماع أن الطغيان والركون إلى الظالمين من أسباب هلاك الأمم، وحرمانهم من النصر على أعدائهم، وهذا يشترك مع الظلم في شواهده الآتية. الشواهد 9-15 على إهلاك الأمم بالظلم في الآيات 100-102 و 112 و 113 و 116 و 117 أولها في هذا السياق قوله عز وجل لرسوله خاتم النبيين {تلك من أنباء القرآن نقصه عليك منها قائم وحصيد} [هود: 100]، والثانية {وما ظلمناهم} [هود: 101]، أي بإهلاكهم؛ بل أنذرناهم عاقبة ظلمهم {ولكن ظلموا أنفسهم} ظلما عاما فكان هلاكهم عاما، وكان أكبر ظلمهم الشرك، فكانوا يدعون آلهتهم أن تدفع عنهم العذاب، فاتكلوا عليها في دفع ما أنذرهم الرسل {فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء} [هود: 101] الآية. هذا معنى لا يكابر فيه أحد يدعي التوحيد والإيمان بالقرآن، ولكن كثيرا من الجاهلين بعقائد القرآن إذا بينت لهم ما يخالف تقاليدهم منها أنكروه، وأول ما ينكرونه أساسها الأعظم، وهو وتوحيد الله، ومعنى الشرك به منها، إذ هم يظنون أن شرك أولئك الأقوام عبارة عن عبادة أصنام وأوثان من الجماد يتكلون عليها لذاتها، فإذا قيل لهم: إن أصله الغلو في الصالحين، ولا سيما الميتين منهم، واعتقاد تصرفهم في الكون، ودعاؤهم في طلب النفع ودفع الضر، وأن مثله أو منه ما كان يحكى عن مسلمي بخارى أن شاه نقشبند هو الحامي لها، فلن تستطيع الدولة الروسية الاستيلاء عليها، وما كان يحكى عن مسلمي المغرب الأقصى من حماية مولاي إدريس لفاس وسائر المغرب أن تستولي عليها فرنسة، أنكروا على القائل: إن هذا كذاك، وقالوا: إنما هو توسل بجاه الأولياء عند الله، وليس من المنكر أن يدفعوها بكرامتهم، فكرامة الأموات ثابتة كالأحياء. وقد بينا لهم جهلهم هذا بتبدل الأسماء، ومخالفته لكتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرة السلف الصالح من الأمة في فتوحاتهم وتأسيس ملكهم وحفظه، وخصصنا إخواننا أهل المغرب الأقصى بالإنذار منذ أنشىء المنار، وأرشدناهم إلى تنظيم قواتهم الدفاعية العسكرية، وطلب الضباط له من الدولة العثمانية، وإلى العلوم والفنون المرشدة إلى القوة والثروة والنظام، وإلا ذهبت بلادهم من أيديهم قطعا. فقال المغوون لهم من أهل الطريق القدد بلسان حالهم أو مقالهم: إن صاحب المنار معتزلي منكر لكرامات الأولياء، وما هو بمعتزلي ولا أشعري، بل هو قرآني سني، وها هي ذي فرنسة استولت على بلادهم كما أنذرهم، وظهر أن أكبر مشايخ الطريق نفوذا ودعوى للكرامات بالباطل -كالتجانية- كانوا وما زالوا من خدمة فرنسة ومساعديها على فتح البلاد، واستعباد أهلها، أو إخراجهم من دين الإسلام إلى الإلحاد، أو النصرانية، من حيث يدرون أو لا يدرون. يجهل أمثال هؤلاء وغيرهم من الذين يظنون أن الشرك بالله تعالى خاص بعبادة الأصنام والأوثان أن أصل هذا الشرك هو الغلو في تعظيم الصالحين، والتبرك -أو التوسل- بأشخاصهم لإبطال سنن الله تعالى، وأولهم قوم نوح، فقد كانت آلهتهم [وُدّ وسُواع ويَغُوث ويَعُوق ونَسر] رجالا صالحين غلوا في تعظيمهم بعد موتهم، ووضعوا لهم الصور والتماثيل للتذكير بهم، كما رواه البخاري عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فكانوا يعتقدون أن أولئك الصالحين هم الذين ينفعون ويضرون، ويدفعون العذاب بكراماتهم، أو بشفاعتهم عند الله لا تماثيلهم. بل نرى هؤلاء وأمثالهم من الذين يلجؤون إلى قبور الصالحين لدعائهم -أو ما يسمونه التوسل بهم -في مثل ذلك يجهلون جميع عقائد القرآن، وسنن الله تعالى فيه التي أجملناها في خلاصة هذه السورة من التوحيد، ووظائف الرسل إلى هذه السنن في إهلاك الظالمين، وأمثالها في غير هذه السورة. وأكبر مصائب الإسلام أن افتتان المسلمين بالصالحين الذي اتبعوا فيه سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع -كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم- قد كان سبب لإلحاد فريق كبير من الذين يتعلمون علوم العصر، ومنها سنن الخلق والاجتماع ومروقهم من الدين باعتقادهم أن الإسلام دين خرافي هو الذي أضاع ملك المسلمين، حتى أن حكومة الترك الحاضرة تركت الإسلام الحق المنزه عن الخرافات، وعادى رئيسها ومؤسسها القرآن والسنة ولغتهما وحروفهما بما لم يسبق له نظير في عهد الجاهلية والصليبيين {فظلت أعناقهم لها خاضعين} [الشعراء: 4]. وخلاصة معنى الآية الثانية [102] أن أخذ الله للقرى الظالمة عند استحقاقهم له في المستقبل سيكون على نحو أخذه لها في الماضي أليما شديدا، لا هوادة، ولا رحمة، ولا محاباة. وخلاصة الثالثة والرابعة [113 و 114] أمر الله لرسوله بالاستقامة هو ومن تاب معه كما أمر، ونهيهم عن الطغيان والإفراط فيه، وعن الركون إلى الظالمين من المشركين، المشبهة حالهم في قريتهم [مكة] لحال أولئك الظالمين من أهل القرى المهلكة، لأجل أن ينجيهم من العذاب إذا وقع عليهم، كما أنجى أتباع أولئك الرسل قبيل إهلاك قومهم، لأن سنته تعالى في عباده واحدة. وخلاصة الخامسة [116] أن الوسيلة لمنع وقوع العذاب بالأمم الظالمة هو وجود أولي بقية فيها ينهون عن الفساد في الأرض فيطاعون، إذ بفقدهم يتبع الظالمون ما أترفوا فيه، فيكونون مجرمين فيهلكون، إن لم يكون باستئصالهم فبذهاب استقلالهم. وخلاصة السادسة [117] أنه لم يكن من شأن الله تعالى ولا من سنته في عباده أن يهلك القرى بظلم منه وأهلها مصلحون في أعمالهم وأحكامهم، وهذا هو الأساس الأعظم لعلم الاجتماع في حياة الأمم وموتها وعزتها وذلها، فراجع تفسيرها. إن علماء الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأئمة الأمصار -الذين ورثوا لغة القرآن بالسليقة، وسنة النبي وبيانه له بالاتباع- كانوا يفهمون هذه السنن الإلهية في الخلق ويهتدون بها، وإن لم يضعوا لها قواعد علمية وفنية لتفقيه من بعدهم فيها، ثم زالت سليقة اللغة من علماء المولدين فصاروا يفسرون القرآن بقواعد الفنون التي وضعوها للغة وللدين بقدر معارفهم الممزوجة بما ورثوا وما كسبوا من الشعوب التي اهتدت بالإسلام، ولم يكن علم الاجتماع مما دونه أحد، فلهذا لا نرى في تفاسيرهم شيئا من هذه السنن الخاصة بسياسة الأمم، بل تنكبوا هداية القرآن فيها، فكانت عاقبة أمرهم ما نشكو منه ونحاول تلافيه.

الشاهد 16 في الاختلاف في الدين ترى في الآيتين [118 و 119] بيان سنة الله تعالى في اختلاف الأمم في الدين، كاختلافهم في التكوين والعقول والفهوم، وحكمة جعلها في خاتمة السورة أنها أهم ما فيها من العبر للمؤمنين بالقرآن، وهو أكمل هداية وهبها الله للإنسان، لتكون كافلة كافية له إلى آخر الزمان، ذلك بأن ما قبلها كله من سنن الاجتماع المبينة لأسباب فساد الأفراد والأمم، وقد أرشدهم القرآن لاتقائها، فهو جامع لوصف أمراض البشر كلها، ولوصف علاجها، فمن آمن به وتدبره من الأفراد والجماعات الصغرى [البيوت والفصائل والعشائر] والكبرى [الشعوب والقبائل] عمل به، ومن عمل به سَلِم من الفساد والهلاك حتما، وإنما ينحصر الخوف عليهم في ترك العمل به، وهذا الترك إذا كان من بعض الأفراد فخطبه سهل؛ لأنه إما أن يكون من جهله بالحكم الذي خالفه ودواؤه التعليم، وإما أن يكون من فساد تربيته، ودواؤه النصيحة والإرشاد، وكل منهما مفروض على إخوانه المسلمين، فإن لم يقبل النصيحة بالقول فعلاجه من جماعة المؤمنين ومن حكومتهم معروف، وكذا إذا كان الترك من الجماعات الكبيرة أو الصغيرة للجهل، أو لأسباب مالية، أو عداوة شخصية، أو عصبية دنيوية، علاج كل ذلك في القرآن ظاهر. وإنما البلاء الأكبر والموت الأحمر والخطر الأسود المظلم فهو اختلاف الشيع والأحزاب في الدين، والزيغ عن القرآن باتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهذا الذي أشير إليه في هاتين الآيتين بحرمان أهله من رحمة الله في قوله {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك}، والمراد بهذه الرحمة في الدنيا ما وعد به المؤمنين، واختصهم به في آيات كثيرة منها ما هو في رحمته المطلقة كقوله {إنه بهم رؤوف رحيم} [التوبة: 117]، {وكان بالمؤمنين رحيما} [الأحزاب: 33]، ومنها ما هو خاص برحمته بكتابه الأخير الذي أكمل به دينه، وأتم على المؤمنين نعمته، كقوله فيه {وهدى ورحمة للمؤمنين}، ومنها ما هو خاص برحمته برسوله خاتم النبيين، وهو وصفه تعالى إياه بما وصف به نفسه في قوله {بالمؤمنين رؤوف رحيم} [التوبة: 117]، فهذه الرحمة الخاصة بالمؤمنين بالله الأول الآخر، وبكتابه الأخير، وبنبيه الخاتم صلى الله عليه وسلم، لا تتم لأفرادهم إلا بتمام الاهتداء والاتباع لما كلفوه بقدر الاستطاعة الشخصية، ولا تكون لجماعتهم- وهي الأمة -إلا باعتصامها بحبل الله، وعروة الوحدة الوثقى، باجتناب السواد الأعظم منها لما نهوا عنه من التفرق والتنازع في الأصول القطعية من النصوص والسنة العملية، ورد الاختلاف والتنازع في غير القطعي إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى ترجيح أولي الأمر في المصالح العامة من السياسة والقضاء، وترجيح الأفراد في المسائل الاجتهادية الخاصة، وقد فصلنا هذا في مواضعه، فالحق فيه ظاهر، ولكن تنفيذه يتوقف على وجود الجماعة التي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم باتباعها وعدم مفارقتها قيد شعرة، وهي جماعة [أولي الأمر] وأهل الحل والعقد، وهم الذين يثق بهم السواد الأعظم من الأمة، وينوط بهم الشرع نصب الأئمة [الخلفاء] والسلاطين عليها، وعزلهم، وقد فُقدوا من أمتنا باستبداد الظالمين من ملوك العصبيات المختلفة بعد أن قضى عليها الإسلام، وتبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم ممن دعا إلى عصبية، وممن قاتل على عصبية. فالواجب على المصلحين وضع نظام لإعادة حكم الإسلام، وقد بسطناه في [كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى]. وأختم هذه الخلاصة بحديث (شيبتني هود وأخواتها)، رواه الطبراني في الكبير عن عقبة بن عامر وأبي جحيفة مرفوعا، وأشار في الجامع الصغير إلى صحته، وروي عن بضعة نفر من الصحابة بزيادة (قبل المشيب)، وبزيادة (وأخواتها من المفصل) في بعضها، وبتسمية الواقعة والحاقة والمرسلات وعم يتساءلون وغيرها من سور قيام الساعة في بعض. وأسانيدها حسنة فليتدبرها المؤمنون.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وهكذا تختم السورة التي بدئت بالتوحيد في العبادة، والتوبة والإنابة والرجعة إلى الله في النهاية. بمثل ما بدئت به من عبادة الله وحده والتوجه إليه وحده. والرجعة إليه في نهاية المطاف. وذلك بعد طول التطواف في آفاق الكون وأغوار النفس وأطواء القرون.. وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام، والتناسق بين القصص والسياق، بكمال النظرة والفكرة والاتجاه في هذا القرآن. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.. وبعد. فإن المتتبع لسياق هذه السورة كلها -بل المتتبع للقرآن المكي كله- يجد أن هناك خطا أصيلا ثابتا عريضا عميقا، هو الذي ترتكز عليه؛ وهو المحور الذي تدور حوله؛ وإليه ترجع سائر خطوطها، وإليه تشد جميع خيوطها كذلك.. إنه خط العقيدة الذي يرتكز إليه هذا الدين كله.. وإنه محور العقيدة الذي يدور عليه هذا المنهج الرباني لحياة البشرية جملة وتفصيلا.. وسنحتاج -في التعقيب الإجمالي على هذه السورة- أن نقف وقفات إجمالية كذلك على ذلك الخط وعلى هذا المحور -كما يتجلى في سياق السورة- وبعضها مما يكون قد سبق لنا الوقوف عنده شيئا ما. ولكننا في هذا التعقيب الإجمالي سنحتاج إلى الإلمام به، ربطا لأجزاء هذا التعقيب الأخير: إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. سواء في مقدمتها التي تعرض مضمون الكتاب الذي أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم أو في القصص الذي يعرض خط الحركة بالعقيدة الإسلامية على مدى االتاريخ البشري. أو في التعقيب الختامي الذي يوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مواجهة المشركين بالنتائج النهائية المستخلصة من هذا القصص ومن مضمون الكتاب الذي جاءهم به في النهاية.. إن الحقيقة الأولى البارزة في سياق السورة كله.. هي التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره.. وتقرير أن هذا هو الدين كله.. وإقامة الوعد والوعيد، والحساب والجزاء، والثواب والعقاب، على هذه القاعدة الواحدة الشاملة العريضة.. كما أسلفنا في تقديم السورة وفي مواضع متعددة من تفسيرها.. فيبقى هنا أن نجلي أولا طريقة المنهج القرآني في تقرير هذه الحقيقة، وقيمة هذه الطريقة: إن حقيقة توحيد العبادة لله ترد في صيغتين هكذا: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...).. (ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير...).. وواضح اختلاف الصيغتين بين الأمر والنهي.. فهل مدلولهما واحد؟ إن مدلول الصيغة الأولى: الأمر بعبادة الله، وتقرير أن ليس هناك إله يعبد سواه.. ومدلول الصيغة الثانية: النهي عن عبادة غير الله.. والمدلول الثاني هو مقتضى المدلول الأول ومفهومه.. ولكن الأول "منطوق "والآخر "مفهوم".. ولقد اقتضت حكمة الله -في بيان هذه الحقيقة الكبيرة- عدم الاكتفاء بالمفهوم، في النهي عن عبادة غير الله. وتقرير هذا النهي عن طريق منطوق مستقل. وإن كان مفهوما ومتضمنا في الأمر الأول! إن هذا يعطينا إيحاء عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة، ووزنها في ميزان الله سبحانه، بحيث تستحق ألا توكل إلى المفهوم المتضمن في الأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه؛ وأن يرد النهي عن عبادة سواه في منطوق مستقل يتضمن النهي بالنص المباشر لا بالمفهوم المتضمن! ولا بالمقتضى اللازم! كذلك تعطينا طريقة المنهج القرآني في تقرير تلك الحقيقة بشطريها.. عبادة الله. وعدم عبادة سواه.. أن النفس البشرية في حاجة إلى النص القاطع على شطري هذه الحقيقة سواء. وعدم الاكتفاء معها بالأمر بعبادة الله وتقرير أن لا إله يعبد سواه؛ وإضافة النهي الصريح عن عبادة سواه إلى المفهوم الضمني الذي يتضمنه الأمر بعبادته وحده.. ذلك أن الناس يجيء عليهم زمان لا يجحدون الله، ولا يتركون عبادته، ولكنهم مع هذا -يعبدون معه غيره؛ فيقعون في الشرك وهم يحسبون أنهم مسلمون! ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالأمر وبالنهي معا؛ بحيث يؤكد أحدهما الآخر، التوكيد الذي لا تبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في صورة من صوره الكثيرة.. وقد تكرر مثل هذا التعبير القرآني في مواضع شتى؛ هذه نماذج منها من هذه السورة ومن سواها: (ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير: ألا تعبدوا إلا الله، إنني لكم منه نذير وبشير..) [هود: 1- 2] (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه: إني لكم نذير مبين: ألا تعبدوا إلا الله، إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم...) [هود: 25 -26] (وإلى عاد أخاهم هودا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إن أنتم إلا مفترون..) [هود: 50] (وقال الله: لا تتخذوا إلهين اثنين. إنما هو إله واحد. فإياي فارهبون)... [النحل: 51] (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. ولكن كان حنيفا مسلما. وما كان من المشركين).. [آل عمران: 67] (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا. وما أنا من المشركين)... [الأنعام: 79] وهو منهج مطرد في التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد، له دلالته من غير شك. سواء في تجلية قيمة هذه الحقيقة وضخامتها التي تستدعي ألا توكل في أي جانب من جوانبها إلى المفهومات الضمنية والمقتضيات اللازمة، وإنما ينص نصا منطوقا على كل جانب فيها. أو في دلالة هذه الطريقة على علم الله- سبحانه -بطبيعة الكائن الإنساني، وحاجته في تقرير هذه الحقيقة الكبيرة، وصيانتها في حسه وتصوره من أية شبهة أو غبش، إلى التعبير الدقيق عنها على ذلك النحو، الذي يتجلى فيه القصد والعمد.. ولله الحكمة البالغة.. وهو أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير. ثم نقف أمام مدلول مصطلح "العبادة "الوارد في السورة- وفي القرآن كله -لندرك ما وراء ذلك التركيز على الأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة غيره. وما وراء هذه العناية في التعبير عن شطري هذه الحقيقة في نص منطوق، وعدم الاكتفاء بالدلالة الضمنية المفهومة. لقد جلينا من قبل في أثناء التعقيب على قصة هود وقومه- في هذه السورة -ما هو مدلول مصطلح" العبادة "الذي استحق كل هذا التركيز وكل هذه العناية؛ كما استحق كل ذلك الجهد من رهط الرسل الكرام، وكل تلك العذابات والآلام التي عاناها الدعاة إلى عبادة الله وحده على ممر الأيام.. فالآن نضيف إلى ذلك التعقيب بعض اللمحات: إن إطلاق مصطلح" العبادات "على الشعائر وعلى ما يكون بين العبد والرب من تعامل، في مقابل إطلاقمصطلح:"المعاملات "على ما يكون بين الناس بعضهم وبعض من تعامل.. إن هذا جاء متأخرا عن عصر نزول القرآن الكريم؛ ولم يكن هذا التقسيم معروفا في العهد الأول. ولقد كتبنا من قبل في كتاب" خصائص التصور الإسلامي ومقوماته "شيئا عن تاريخ هذه المسألة نقتطف منه هذه الفقرات:"إن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و "معاملات" مسألة جاءت متأخرة عن التأليف في مادة "الفقه". ومع أنه كان المقصود به- في أول الأمر -مجرد التقسيم" الفني "الذي هو طابع التأليف العلمي، إلا أنه- مع الأسف -أنشأ فيما بعد آثارا سيئة في التصور، تبعها- بعد فترة -آثار سيئة في الحياة الإسلامية كلها؛ إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن صفة" العبادة "إنما هي خاصة بالنوع الأول من النشاط، الذي يتناوله" فقه العبادات". بينما أخذت هذه الصفة تبهت بالقياس إلى النوع الثاني من النشاط، الذي يتناوله "فقه المعاملات "! وهو انحراف بالتصور الإسلامي لا شك فيه. فلا جرم يتبعه انحراف في الحياة كلها في المجتمع الإسلامي." ليس في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى "العبادة" أو لا يطلب فيه تحقيق هذا الوصف. والمنهج الإسلامي كله غايته تحقيق معنى العبادة، أولا وأخيرا. "وليس هناك من هدف في المنهج الإسلامي لنظام الحكم، ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية، والتشريعات المدنية، وتشريعات الأسرة. وسائر التشريعات التي يتضمنها هذا المنهج" ليس هناك من هدف إلا تحقيق معنى "العبادة" في حياة الإنسان.. والنشاط الإنساني لا يكون متصفا بهذا الوصف، محققا لهذه الغاية- التي يحدد القرآن أنها هي غاية الوجود الإنساني -إلا حين يتم هذا النشاط وفق المنهج الرباني؛ فيتم بذلك إفراد الله- سبحانه -بالألوهية؛ والاعتراف له وحده بالعبودية.. وإلا فهو خروج عن العبادة لأنه خروج عن العبودية. أي خروج عن غاية الوجود الإنساني كما أرادها الله. أي خروج عن دين الله! "وأنواع النشاط التي أطلق عليها الفقهاء اسم" العبادات "وخصوها بهذه الصفة- على غير مفهوم التصور الإسلامي -حين تراجع في مواضعها في القرآن، تتبين حقيقة بارزة لا يمكن إغفالها. وهي أنها لم تجيء مفردة ولا معزولة عن أنواع النشاط الأخرى التي أطلق عليها الفقهاء اسم" المعاملات".. إنما جاءت هذه وتلك مرتبطة في السياق القرآني، ومرتبطة في المنهج التوجيهي. باعتبار هذه كتلك شطرا من منهج "العبادة" التي هي غاية الوجود الإنساني، وتحقيقا لمعنى العبودية، ومعنى إفراد الله- سبحانه -بالألوهية. "إن ذلك التقسيم- مع مرور الزمن -جعل بعض الناس يفهمون أنهم يملكون أن يكونوا" مسلمين "إذا هم أدوا نشاط" العبادات "- وفق أحكام الإسلام- بينما هم يزاولون كل نشاط" المعاملات "وفق منهج آخر.. لا يتلقونه من الله ولكن من إله آخر..! هو الذي يشرع لهم في شؤون الحياة ما لم يأذن به الله!" وهذا وهم كبير. فالإسلام وحدة لا تنفصم. وكل من يفصمه إلى شطرين -على هذا النحو- فإنما يخرج من هذه الوحدة، أو بتعبير آخر: يخرج من هذا الدين. "وهذه هي الحقيقة الكبيرة التي يجب أن يلقي باله إليها كل مسلم يريد أن يحقق إسلامه؛ ويريد في الوقت ذاته أن يحقق غاية وجوده الإنساني" فالآن نضيف إلى هذه الفقرات ما قلناه من قبل في هذا الجزء من أن العربي الذي خوطب بهذا القرآن أول مرة لم يكن يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية.. بل أنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية! إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به أن المطلوب منه هو "الدينونة" لله وحده في أمر كله، وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في أمره كله. ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم "العبادة" نصا بأنها "الاتباع" وليست هي الشعائر التعبدية، وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى، واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا: "بلى إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم".. إنما أطلقت لفظة" العبادة "على" الشعائر التعبدية "باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون. صورة لا تستغرق مدلول العبادة، بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة!.. ولقد قلنا من قبل في هذا الجزء:"إن الواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان! إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد، وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا وللآخرة سواء. "إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة.. إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلم على مدار الزمان.. لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه. فالله سبحانه غني عن العالمين. ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح لائقة بالإنسان، إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء".. وقد وعدنا هناك أن نزيد هذا الأمر بيانا في هذا التعقيب الختامي الأخير. فالآن نبين إجمالا قيمة حقيقة التوحيد في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء: ننظر ابتداء إلى أثر حقيقة التوحيد -على هذا النحو الشامل- في كيان الكائن الإنساني نفسه من ناحية وجوده الذاتي، وحاجته الفطرية، وتركيبه الإنساني.. أثرها في تصوره.. وأثر هذا التصور في كيانه:"إن هذا التصور إذ يتناول الأمور على هذا النحو الشامل -بكل معاني الشمول- يخاطب الكينونة البشرية بكل جوانبها، وبكل أشواقها، وبكل حاجاتها، وبكل اتجاهاتها، ويردها إلى جهة واحدة تتعامل معها، جهة تطلب عندها كل شيء، وتتوجه إليها بكل شيء. جهة واحدة ترجوها وتخشاها، وتتقي غضبها وتبتغي رضاها جهة واحدة تملك لها كل شيء، لأنها خالقة كل شيء، ومالكة كل شيء، ومدبرة كل شيء. "كذلك يرد الكينونة الإنسانية إلى مصدر واحد، تتلقى منه تصوراتها ومفاهيمها، وقيمها وموازينها، وشرائعها وقوانينها. وتجد عنده إجابة عن كل سؤال يجيش فيها وهي تواجه الكون والحياة والإنسان، بكل ما يثيره كل منها من علامات الاستفهام." عندئذ تتجمع هذه الكينونة.. تتجمع شعورا وسلوكا، وتصورا واستجابة. في شأن العقيدة والمنهج. وشأن الاستمداد والتلقي. وشأن الحياة والموت. وشأن السعي والحركة. وشأن الصحة والرزق. وشأن الدنيا والآخرة. فلا تتفرق مزقا؛ ولا تتجه إلى شتى السبل والآفاق، ولا تسلك شتى الطرق على غير اتفاق! "والكينونة الإنسانية حين تتجمع على هذا النحو، تصبح في خير حالاتها. لأنها تكون حينئذ في حالة" الوحدة "التي هي طابع الحقيقة في كل مجالاتها.. فالوحدة هي حقيقة الخالق -سبحانه- والوحدة هي حقيقة هذا الكون -على تنوع المظاهر والأشكال والأحوال- والوحدة هي حقيقة الحياة والأحياء -على تنوع الأنواع والأجناس- والوحدة هي حقيقة الإنسان -على تنوع الأفراد والاستعدادات- والوحدة هي غاية الوجود الإنساني -وهي العبادة- على تنوع مجالات العبادة وهيئاتها -وهكذا حيثما بحث الإنسان عن الحقيقة في هذا الوجود.." وحين تكون الكينونة الإنسانية في الوضع الذي يطابق "الحقيقة" في كل مجالاتها، تكون في أوج قوتها الذاتية؛ وفي أوج تناسقها- كذلك -مع "حقيقة" هذا الكون الذي تعيش فيه، وتتعامل معه؛ ومع "حقيقة" كل شيء في هذا الوجود، مما تتأثر به وتؤثر فيه.. وهذا التناسق هو الذي يتيح لها أن تنشئ أعظم الآثار، وأن تؤدي أعظم الأدوار. "وحينما بلغت هذه الحقيقة أوجها في المجموعة المختارة من المسلمين الأوائل، صنع الله بها في الأرض أدوارا عميقة الآثار في كيان الوجود الإنساني، وفي كيان التاريخ الإنساني.." وحين توجد هذه الحقيقة مرة أخرى- وهي لا بد كائنة بإذن الله -سيصنع الله بها الكثير، مهما يكن في طريقها من العراقيل. ذلك أن وجود هذه الحقيقة في ذاته ينشئ قوة لا تقاوم؛ لأنها من صميم قوة هذا الكون؛ وفي اتجاه قوة المبدع لهذا الكون أيضا."... إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني. وإن كان هذا التصحيح في ذاته غاية ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله- بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق. فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله؛ وحين يصبح كل نشاط فيها -صغر أم كبر- جزءا من هذه العبادة؛ أو كل العبادة، متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه. وهو إفراد الله -سبحانه- بالألوهية والإقرار له وحده بالعبودية.. هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه؛ ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه. وهو المقام الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها. مقام تلقي الوحي من الله. ومقام الإسراء أيضا: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالميين نذيرا... [الفرقان: 1]. (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله. لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير)... [الإسراء: 1]. وننتقل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده وآثارها في الحياة الإنسانية: إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره؛ وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية وحريته الحقيقية، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر -غير النظام الإسلامي- يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية، في صورة من صورها الكثيرة... سواء عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية؛ وبعضها مثل بعض؛ تخضع الرقاب لغير الله؛ بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين! لا بد للناس من دينونة. والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله؛ في كل جانب من جوانب الحياة! إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط. ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة: (والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم)... [محمد: 12] ولا يخسر الإنسان شيئا كأن يخسر آدميته، ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتما بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة. ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية للعبيد.. يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم -سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة، أو في جنس حاكم- فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده، ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها.. ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.. فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء!.. إن العبودية للعباد تتمثل في صور أخرى خفية؛ ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة! ونضرب مثالا لهذا تلك العبودية لصانعي المودات والأزياء مثلا! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جدا من البشر؟.. كل الذين يسمونهم متحضرين..! إن الزي المفروض من آلهة الأزياء -سواء في الملابس أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات... الخ.. ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي ولا لجاهلية أن يفلت منها؛ أو يفكر في الخروج عنها! ولو دان الناس- في هذه الجاهلية "الحضارية!" لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عبادا متبتلين!.. فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟ وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضا؟! وإن الإنسان ليبصر أحيانا بالمرأة المسكينة، وهي تلبس ما يكشف عن سوآتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثارا للسخرية! ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والمودات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها ردا، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها. فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟ وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟! وليس هذا إلا مثلا واحدا للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده؛ وحين يدينون لغيره من العبيد.. وليست حاكمية الرؤساء والحكام وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر، ولعبودية البشر للبشر! وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم، التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد، في صورة من صور الدينونة.. سواء في صورة حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور.. إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي؛ والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صورا منها؛ وتمثل أوهام العوام المختلفة صورا منها؛ وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال -وأحيانا من الأولاد!- تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف؛ ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب! ومن السحرة المتصلين بالجن والعفاريت! ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار! ومن.. ومن.. من الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء، حتى تتقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم، وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء! وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والمودات! فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع -إلى جانب الأعراض والأخلاق- في سبيل هذه الأرباب إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ؛ وعلى تصفيف الشعر وكيه؛ وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاما بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلى المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء!... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.. إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة التي لا تثبت على حال. ومن ورائها اليهود أصحاب رؤوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب! ولا يملك الرجل ولا المرأة وهما في هذا الكد الناصب أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء! وأخيرا تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية.. وما من أضحية يقدمها عابد الله لله، إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة! من الأموال والأنفس والأعراض. وتقام أصنام من "الوطن" ومن "القوم" ومن "الجنس" ومن "الطبقة" ومن "الإنتاج"... ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب.. وتدق عليها الطبول؛ وتنصب لها الرايات؛ ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد.. وإلا فالتردد هو الخيانة، وهو العار.. وحتى حين يتعارض العرض. مع متطلبات هذه الأصنام، فإن العرض هو الذي يضحى؛ ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم! كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام، ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله؛ ليعبد الله وحده في الأرض؛ وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان.. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله! والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذ هم جاهدوا في سبيل الله، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد، وفوقها الأخلاق والأعراض.. إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله؛ وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار! وأخيرا فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده، ورفض العبادة والدينونة لغيره من خلقه، ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة. كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض، وترقيتها، وترقية الحياة فيها. وهناك ظاهرة واضحة متكررة أشرنا إليها فيما سبق في هذا الجزء.. وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله، ليقيم من نفسه طاغوتا يعبد الناس لشخصه من دون الله.. احتاج هذا الطاغوت كي يعبد [أي يطاع ويتبع] إلى أن يسخر كل القوى والطاقات؛ أولا لحماية شخصه. وثانيا لتأليه ذاته. واحتاج إلى حواش وذيول وأجهزة وأبواق تسبح بحمده، وترتل ذكره، وتنفخ في صورته" العبدية "الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان" الألوهية "العظيمة! وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة! وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها. وحشد الجموع -بشتى الوسائل- للتسبيح باسمها، وإقامة طقوس العبادة لها...! وهو جهد ناصب لا يفرغ أبدا. لأن الصورة العبدية الهزيلة ما تني تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل. وما تني تحتاج كرة أخرى إلى ذلك الجهد الناصب من جديد! وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال -وأرواح أحيانا وأعراض!- لو أنفق بعضها في عمارة الأرض، والإنتاج المثمر، لترقية الحياة البشرية وإغنائها، لعاد على البشرية بالخير الوفير.. ولكن هذه الطاقات والأموال -والأرواح أحيانا والأعراض- لا تنفق في هذا السبيل الخير المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده؛ وإنما يدينون للطواغيت من دونه. ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده؛ وعبادة غيره من دونه.. وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض، والقيم والأخلاق. وفوق الذل والقهر والدنس والعار! وليس هذا في نظام أرضي دون نظام، وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات." ولقد حدث أن الذين فسقوا عن الدينونة لله وحده، فأتاحوا لنفر منهم أن يحكموهم بغير شريعته، قد وقعوا في النهاية في شقوة العبودية لغيره. العبودية التي تأكل إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، مهما اختلفت أشكال الأنظمة التي تحكمهم، والتي ظنوا في بعضها أنها تكفل لهم الإنسانية والحرية والكرامة. "لقد هربت أوربا من الله -في أثناء هروبها من الكنيسة الطاغية الباغية باسم الدين الزائف- وثارت على الله -سبحانه- في أثناء ثورتها على تلك الكنيسة التي أهدرت كل القيم الإنسانية في عنفوان سطوتها الغاشمة! ثم ظن الناس أنهم يجدون إنسانيتهم وحريتهم وكرامتهم -ومصالحهم كذلك- في ظل الأنظمة الفردية [الديمقراطية] وعلقوا كل آمالهم على الحريات والضمانات التي تكفلها لهم الدساتير الوضعية، والأوضاع النيابية البرلمانية، والحريات الصحفية، والضمانات القضائية والتشريعية، وحكم الأغلبية المنتخبة... إلى آخر هذه الهالات التي أحيطت بها تلك الأنظمة.. ثم ماذا كانت العاقبة؟ كانت العاقبة هي طغيان" الرأسمالية "ذلك الطغيان الذي أحال كل تلك الضمانات، وكل تلك التشكيلات، إلى مجرد لافتات، أو إلى مجرد خيالات! ووقعت الأكثرية الساحقة في عبودية ذليلة للأقلية الطاغية التي تملك رأس المال، فتملك معه الأغلبية البرلمانية! والدساتير الوضعية! والحريات الصحفية! وسائر الضمانات التي ظنها الناس هناك كفيلة بضمان إنسانيتهم وكرامتهم وحريتهم، في معزل عن الله سبحانه!!!" ثم هرب فريق من الناس هناك من الأنظمة الفردية التي يطغي فيها "رأس المال" و "الطبقة" إلى الأنظمة الجماعية! فماذا فعلوا؟ لقد استبدلوا بالدينونة لطبقة "الرأسماليين" الدينونة لطبقة "الصعاليك "! أو استبدلوا بالدينونة لأصحاب رؤوس الأموال والشركات الدينونة للدولة التي تملك المال إلى جانب السلطان! فتصبح أخطر من طبقة الرأسماليين!" وفي كل حالة، وفي كل وضع، وفي كل نظام، دان البشر فيه للبشر، دفعوا من أموالهم ومن أرواحهم الضريبة الفادحة. دفعوها للأرباب المتنوعة في كل حال. "إنه لا بد من عبودية! فإن لا تكن لله وحده تكن لغير الله.. والعبودية لله وحده تطلق الناس أحرارا كراما شرفاء أعلياء.. والعبودية لغير الله تأكل إنسانية الناس وكرامتهم وحرياتهم وفضائلهم. ثم تأكل أموالهم ومصالحهم المادية في النهاية." من أجل ذلك كله تنال قضية الألوهية والعبودية كل تلك العناية في رسالات الله -سبحانه- وفي كتبه.. وهذه السورة نموذج من تلك العناية.. فهي قضية لا تتعلق بعبدة الأصنام والأوثان في الجاهليات الساذجة البعيدة. ولكنها تتعلق بالإنسان كله، في كل زمان وفي كل مكان؛ وتتعلق بالجاهليات كلها.. جاهليات ما قبل التاريخ، وجاهليات التاريخ. وجاهلية القرن العشرين. وكل جاهلية تقوم على أساس من عبادة العباد للعباد". والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح من التقريرات القرآنية بجملتها -وهذه السورة نموذج منها- أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية -التي يعبر عنها في هذه السورة بالعبادة- هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام؛ وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام! إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم. وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد. وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق.. ثم هي بعد -بعد ذلك لا قبله- قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام؛ وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام. وتنفذ فيها الأحكام. وكذلك فإن قضية "العبادة" ليست قضية شعائر؛ وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة.. وأنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه العناية في المنهج الرباني المتمثل في هذا الدين.. واستحقت كل هذه الرسل والرسالات. واستحقت كل هذه العذابات والآلام والتضحيات. والآن نجيء إلى تتابع هذا القصص في السورة؛ ودلالته على الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في تاريخ البشرية: لقد بينا من قبل في التعقيب على قصة نوح أن الإسلام كان هو أول عقيدة عرفتها البشرية على يدي آدم عليه السلام أبي البشر الأول، ثم على يدي نوح -عليه السلام- أبي البشر الثاني.. ثم بعد ذلك على يدي كل رسول.. وأن الإسلام يعني توحيد الألوهية من ناحية الاعتقاد والتصور والتوجه بالعبادة والشعائر، وتوحيد الربوبية من ناحية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع: أي توحيد القوامة والحاكمية والتوجه والتشريع. ثم بينا كذلك أن الجاهلية -سواء كانت جاهلية الاعتقاد والتصور والعبادة والشعائر! أو جاهلية الدينونة والاتباع والطاعة والخضوع- أو هما معا -كانت تطرؤ على البشرية بعد معرفة الإسلام على أيدي الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه -وكانت تفسد عقائدهم وتصوراتهم، كما تفسد حياتهم وأوضاعهم؛ بالدينونة لغير الله- سبحانه -سواء كانت هذه الدينونة لطوطم أو حجر أو شجر أو نجم أو كوكب، أو روح أو أرواح شتى؛ أو كانت هذه الدينونة لبشر من البشر: كاهن أم ساحر أم حاكم.. فكلها سواء في دلالتها على الانحراف عن التوحيد إلى الشرك، والخروج من الإسلام إلى الجاهلية. ومن هذا التتابع التاريخي- الذي يقصه الله سبحانه في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه -يتبين خطأ المنهج الذي يتبعه علماء الدين المقارن؛ وخطأ النتائج التي يصلون إليها عن طريقه.. خطأ المنهج لأنه يتبع خط الجاهليات التي عرفتها البشرية، ويهمل خط التوحيد الذي جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم- وهم حتى في تتبعهم لخط الجاهليات لا يرجعون إلا لما حفظته آثار العهود الجاهلية التي يحوم عليها التاريخ -ذلك المولود الحدث الذي لا يعرف من تاريخ البشرية إلا القليل؛ ولا يعرف هذا القليل إلا عن سبيل الظن والترجيح!- وحتى حين يصلون إلى أثر من آثار التوحيد الذي جاءت به الرسالات رأسا في إحدى الجاهليات التاريخية في صورة توحيد مشوه كتوحيد أخناتون مثلا في الديانة المصرية القديمة؛ فإنهم يتعمدون إغفال أثر رسالة التوحيد -ولو على سبيل الاحتمال- وقد جاء أخناتون في مصر بعد عهد يوسف -عليه السلام- وتبشيره بالتوحيد كما جاء في القرآن الكريم -حكاية عن قوله لصاحبي السجن في سورة يوسف -: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون. واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون)... [يوسف: 37- 40] وهم إنما يفعلون ذلك، لأن المنهج كله إنما قام ابتداء على أساس العداء والرفض للمنهج الديني، بسبب ما ثار بين الكنيسة الأوروبية والبحث العلمي في كل صوره في فترة من فترات التاريخ. فبدأ المنهج وفي عزم أصحابه أن يصلوا إلى ما يكذب مزاعم الكنيسة من أساسها، للوصول إلى تحطيم الكنيسة ذاتها. ومن أجل هذا جاء منهجا منحرفا منذ البدء، لأنه يتعمد الوصول سلفا إلى نتائج معينة، قبل البدء في البحث! وحتى حين هدأت حدة العداء للكنيسة بعد تحطيم سيطرتها العلمية والسياسية والاقتصادية الغاشمة فإن المنهج استمر في طريقه. لأنه لم يستطع أن يتخلص من أساسه الذي قام عليه، والتقاليد التي تراكمت على هذا الأساس، حتى صارت من أصول المنهج! أما خطأ النتائج فهو ضرورة حتمية لخطأ المنهج من أساسه. هذا الخطأ الذي طبع نتائج المنهج كلها بهذا الطابع.. على أنه أيا كان المنهج وأيا كانت النتائج التي يصل إليها؛ فإن تقريراته مخالفة أساسية للتقريرات الإلهية كما يعرضها القرآن الكريم.. وإذا جاز لغير مسلم أن يأخذ بنتائج تخالف مخالفة صريحة قول الله سبحانه في مسألة من المسائل؛ فإنه لا يجوز لباحث يقدم بحثه للناس على أنه "مسلم" أن يأخذ بتلك النتائج. ذلك أن التقريرات القرآنية في مسألة الإسلام والجاهلية، وسبق الإسلام للجاهلية في التاريخ البشري، وسبق التوحيد للتعدد والتثنية.. قاطعة، وغير قابلة للتأويل. فهي مما يقال عنه: إنه معلوم من الدين بالضرورة. وعلى من يأخذ بنتائج علم الأديان المقارنة في هذا الأمر، أن يختار بين قول الله سبحانه وقول علماء الأديان. أو بتعبير آخر: أن يختار بين الإسلام وغير الإسلام! لأن قول الله في هذه القضية منطوق وصريح، وليس ضمنيا ولا مفهوما! وعلى أية حال فإن هذا ليس موضوعنا الذي نستهدفه في هذا التعقيب الأخير.. إنما نستهدف هنا رؤية الخط الحركي للعقيدة الإسلامية في التاريخ البشري؛ والإسلام والجاهلية يتعاوران البشرية؛ والشيطان يستغل الضعف البشري وطبيعة التكوين لهذا المخلوق المزدوج الطبيعة والاتجاه، ويجتال الناس عن الإسلام بعد أن يعرفوه، إلى الجاهلية؛ فإذا بلغت هذه الجاهلية مداها بعث الله للناس رسولا يردهم إلى الإسلام. ويخرجهم من الجاهلية. وأول ما يخرجهم منه هو الدينونة لغير الله سبحانه من الأرباب المتفرقة.. وأول ما يردهم إليه هو الدينونة لله وحده في أمرهم كله، لا في الشعائر التعبدية وحدها، ولا في الاعتقاد القلبي وحده. إن هذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقف البشرية اليوم، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك.. إن البشرية اليوم -بجملتها- تزاول رجعية شاملة إلى الجاهلية التي أخرجها منها آخر رسول -محمد صلى الله عليه وسلم- وهي جاهلية تتمثل في صور شتى: بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه، وإنكار لوجوده.. فهي جاهلية اعتقاد وتصور، كجاهلية الشيوعيين. وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه بوجود الله سبحانه، وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الدينونة والاتباع والطاعة، كجاهلية الوثنيين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك. وبعضها يتمثل في اعتراف صحيح بوجود الله سبحانه، وأداء للشعائر التعبدية. مع انحراف خطير في تصور دلالة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ومع شرك كامل في الدينونة والاتباع والطاعة. وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم "مسلمين" ويظنون أنهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه -بمجرد نطقهم بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية؛ مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين؛ ومع استسلامهم ودينونتهم لغير الله من العبيد! وكلها جاهلية. وكلها كفر بالله كالأولين. أو شرك بالله كالآخرين.. إن رؤية واقع البشرية على هذا النحو الواضح؛ تؤكد لنا أن البشرية اليوم بجملتها قد ارتدت إلى جاهلية شاملة، وأنها تعاني رجعية نكدة إلى الجاهلية التي أنقذها منها الإسلام مرات متعددة، كان آخرها الإسلام الذي جاء به محمد [صلى الله عليه وسلم].. وهذا بدوره يحدد طبيعة الدور الأساسي لطلائع البعث الإسلامي، والمهمة الأساسية التي عليها أن تقوم بها للبشرية؛ ونقطة البدء الحاسمة في هذه المهمة. إن على هذه الطلائع أن تبدأ في دعوة البشرية من جديد إلى الدخول في الإسلام كرة أخرى، والخروج من هذه الجاهلية النكدة التي ارتدت إليها. على أن تحدد للبشرية مدلول الإسلام الأساسي: وهو الاعتقاد بألوهية الله وحده، وتقديم الشعائر التعبدية لله وحده والدينونة والاتباع والطاعة والخضوع في أمور الحياة كلها لله وحده.. وأنه بغير هذه المدلولات كلها لا يتم الدخول في الإسلام؛ ولا تحتسب للناس صفة المسلمين؛ ولا تكون لهم تلك الحقوق التي يرتبها الإسلام لهم في أنفسهم وأموالهم كذلك. وأن تخلف أحد هذه المدلولات كتخلفها جميعا، يخرج الناس من الإسلام إلى الجاهلية، ويصمهم بالكفر أو بالشرك قطعا.. إنها دورة جديدة من دورات الجاهلية التي تعقب الإسلام. فيجب أن تواجهها دورة من دورات الإسلام الذي يواجه الجاهلية، ليرد الناس إلى الله مرة أخرى، ويخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.. ولا بد أن يصل الأمر إلى ذلك المستوى من الحسم والوضوح في نفوس العصبة المسلمة التي تعاني مواجهة الجاهلية الشاملة في هذه الفترة النكدة من حياة البشرية.. فإنه بدون هذا الحسم وهذا الوضوح تعجز طلائع البعث الإسلامي عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة من تاريخ البشرية؛ وتتأرجح أمام المجتمع الجاهلي- وهي تحسبه مجتمعا مسلما -وتفقد تحديد أهدافها الحقيقية، بفقدانها لتحديد نقطة البدء من حيث تقف البشرية فعلا، لا من حيث تزعم! والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيدة جدا.. ونقف الوقفة الأخيرة في هذا التعقيب الأخير أمام موقف الرسل الموحد من أقوامهم الذين أرسلوا إليهم. واختلاف هذا الموقف عند البدء وعند النهاية؛ كما يعرضه قصص الرسل في هذه السورة: لقد أرسل كل رسول إلى قومه. وعند بدء الدعوة كان الرسول واحدا من قومه هؤلاء. يدعوهم إلى الإسلام دعوة الأخ لإخوته؛ ويريد لهم ما يريد الأخ لإخوته من الخير الذي هداه الله إليه؛ والذي يجد في نفسه بينة من ربه عليه. هذا كان موقف كل رسول من قومه عند نقطة البدء.. ولكن هذا لم يكن موقف أي رسول عند نقطة الختام! لقد استجابت للرسول طائفة من قومه فآمنوا بما أرسل به إليهم.. عبدوا الله وحده كما طلب إليهم، وخلعوا مكن أعناقهم ربقة الدينونة لأي من خلقه.. وبذلك صاروا مسلمين.. صاروا "أمة مسلمة".. ولم تستجب للرسول طائفة أخرى من قومه. كفروا بما جاءهم به؛ وظلوا في دينونتهم لغير الله من خلقه؛ وبقوا في جاهليتهم لم يخرجوا منها إلى الإسلام.. ولذلك صاروا" أمة مشركة".. لقد انقسم القوم الواحد تجاه دعوة الرسول إلى أمتين اثنتين: أمة مسلمة وأخرى مشركة ولم يعد القوم الواحد أمة واحدة كما كانوا قبل الرسالة. مع أنهم قوم واحد من ناحية الجنس والأرومة. إلا أن آصرة الجنس والأرومة، وآصرة الأرض والمصالح المشتركة.. لم تعد هي التي تحكم العلاقات بينهم كما كانوا قبل الرسالة.. لقد ظهرت مع الرسالة آصرة أخرى تجمع القوم الواحد أو تفرقه.. تلك هي آصرة العقيدة والمنهج والدينونة.. وقد فرقت هذه الآصرة بين القوم الواحد، فجعلته أمتين مختلفتين لا تلتقيان، ولا تتعايشان! ذلك أنه بعد برزو هذه المفارقة بين عقيدة كل من الأمتين؛ فاصل الرسول والأمة المسلمة التي معه قومهمعلى أساس العقيدة والمنهج والدينونة. فاصلوا الأمة المشركة التي كانت قبل الرسالة هي قومهم وهي أمتهم وهي أصلهم.. لقد افترق المنهجان، فاختلفت الجنسيتان. وأصبحت الأمتان الناشئتان من القوم الواحد لا تلتقيان ولا تتعايشان! وعندما فاصل المسلمون قومهم على العقيدة والمنهج والدينونة فصل الله بينهما؛ فأهلك الأمة المشركة، ونجى الأمة المسلمة.. واطردت هذه القاعدة على مدار التاريخ كما رأينا في السورة.. والأمر الذي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي في كل مكان أن تكون على يقين منه: أن الله سبحانه لم يفصل بين المسلمين وأعدائهم من قومهم، إلا بعد أن فاصل المسلمون أعداءهم؛ وأعلنوا مفارقتهم لما هم عليه من الشرك؛ وعالنوهم بأنهم يدينون لله وحده، ولا يدينون لأربابهم الزائفة؛ ولا يتبعون الطواغيت المتسلطة؛ ولا يشاركون في الحياة ولا في المجتمع الذي تحكمه هذه الطواغيت بشرائع لم يأذن بها الله. سواء تعلقت بالاعتقاد، أو بالشعائر، أو بالشرائع. إن يد الله سبحانه لم تتدخل لتدمر على الظالمين، إلا بعد أن فاصلهم المسلمون.. وما دام، المسلمون لم يفاصلوا قومهم، ولم يتبرأوا منهم، ولم يعالنوهم بافتراق دينهم عن دينهم، ومنهجهم عن منهجهم، وطريقهم عن طريقهم، لم تتدخل يد الله سبحانه للفصل بينهم وبينهم، ولتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على الظالمين.. وهذه القاعدة المطردة هي التي ينبغي لطلائع البعث الإسلامي أن تدركها؛ وأن ترتب حركتها على أساسها: إن الخطوة الأولى تبدأ دعوة للناس بالدخول في الإسلام؛ والدينونة لله وحده بلا شريك؛ ونبذ الدينونة لأحد من خلقه- في صورة من صور الدينونة -ثم ينقسم القوم الواحد قسمين، ويقف المؤمنون الموحدون الذين يدينون لله وحده صفا- أو أمة -ويقف المشركون الذين يدينون لأحد من خلق الله صفا آخر.. ثم يفاصل المؤمنون المشركين.. ثم يحق وعد الله بنصر المؤمنين والتدمير على المشركين.. كما وقع باطراد على مدار التاريخ البشري. ولقد تطول فترة الدعوة قبل المفاصلة العملية. ولكن المفاصلة العقيدية الشعورية يجب أن تتم منذ اللحظة الأولى. ولقد يبطيء الفصل بين الأمتين الناشئتين من القوم الواحد؛ وتكثر التضحيات والعذابات والآلام على جيل من أجيال الدعاة أو أكثر.. ولكن وعد الله بالفصل يجب أن يكون في قلوب العصبة المؤمنة أصدق من الواقع الظاهر في جيل أو أجيال. فهو لا شك آت. ولن يخلف الله وعده الذي جرت به سنته على مدار التاريخ البشري. ورؤية هذه السنة على هذا النحو من الحسم والوضوح ضرورية كذلك للحركة الإسلامية في مواجهة الجاهلية البشرية الشاملة. فهي سنة جارية غير مقيدة بزمان ولا مكان.. وما دامت طلائع البعث الإسلامي تواجه البشرية اليوم في طور من أطوار الجاهلية المتكررة؛ وتواجهها بذات العقيدة التي كان الرسل- عليهم صلوات الله وسلامه -يواجهونها بها كلما ارتدت وانتكست إلى مثل هذه الجاهلية. فإن للعصبة المسلمة أن تمضي في طريقها، مستوضحة نقطة البدء ونقطة الختام، وما بينهما من فترة الدعوة كذلك. مستيقنة أن سنة الله جارية مجراها، وأن العاقبة للتقوى. وأخيرا، فإنه من خلال هذه الوقفات أمام القصص القرآني في هذه السورة تتبين لنا طبيعة منهج هذا الدين، كما يتمثل في القرآن الكريم.. إنها طبيعة حركية تواجه الواقع البشري بهذا القرآن مواجهة واقعية عملية. لقد كان هذا القصص يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة. والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها، والطريق شاق طويل لا يكاد المسلمون يرون له نهاية! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق؛ ويريهم معالمه في مراحله جميعا؛ ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق؛ وقد بات لاحبا موصولا بموكب الدعوة الكريم على مدار التاريخ البشري؛ وبات بهذا الركب الكريم مأنوسا مألوفا لا موحشا ولا مخوفا!.. إنهم زمرة من موكب موصول في طريق معروف؛ وليسوا مجموعة شاردة في تيه مقطوع! وإنهم ليمضون من نقطة البدء إلى نقطة الختام وفق سنة جارية؛ ولا يمضون هكذا جزافا يتبعون الصدفة العابرة! هكذا كان القرآن يتحرك في الصف المسلم؛ ويحرك هذا الصف حركة مرسومة مأمونة.. وهكذا يمكن اليوم وغدا أن يتحرك القرآن في طلائع البعث الإسلامي، ويحركها كذلك في طريق الدعوة المرسوم.. إن هذه الطلائع في حاجة إلى هذا القرآن تستلهمه وتستوحيه. تستلهمه في منهج الحركة وخطواتها ومراحلها؛ وتستوحيه في ما يصادف هذه الخطوات والمراحل من استجابات؛ وما ينتظرها من عاقبة في نهاية الطريق والقرآن- بهذه الصورة -لا يعود مجرد كلام يتلى للبركة. ولكنه ينتفض حيا يتنزل اللحظة على الجماعة المسلمة المتحركة، لتتحرك به، وتتابع توجيهاته، وتتوقع موعود الله فيه. وهذا ما نعنيه بأن هذا القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع. لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه! إن هؤلاء جميعا لن يدركوا من هذا القرآن شيئا يذكر. فإن هذا القرآن لم يتنزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو؛ إنما تنزل ليكون مادة حركة وتوجيه. إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف؛ والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد؛ والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده.. إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن؛ لأنهم يعيشون في مثل الجو الذي نزل فيه: ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنزل عليهم أول مرة؛ ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوصه لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع.. وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من عذابات وآلام. أأقول: جزاء؟! كلا. والله. إنه لفضل من الله كبير.. (قل: بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) والحمد لله العظيم رب الفضل العظيم.