فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (123)

{ ولله غيب السماوات والأرض } أي علم جميع ما هو غائب عن العباد فيهما وخص الغيب مع كونه يعلم ، بما هو مشهود كما يعلم بما هو مغيب لكونه من العلم الذي لا يشاركه فيه غيره .

وقيل أن غيب السماوات والأرض نزول العذاب من السماء وطلوعه من الأرض والأول أولى وبه قال علي الفارسي وغيره وأضاف الغيب إلى المفعول توسعا .

{ وإليه يرجع } بالبناء للفاعل يعود وللمفعول يرد { الأمر كله } أي أمر الخلق كلهم في الدنيا والآخرة فيجازي كلا بعمله ممن عصى ويثيب من أطاع .

وقال ابن جريج : فيقضي بينهم بحكم العدل { فاعبده وتوكل عليه } فإنه كافيك كل ما تكره ومعطيك كل ما تحب والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله سبحانه قيل هذا الخطاب له ولجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار بأنه لا ينفع دونها .

{ وما ربك بغافل عما تعملون } بل عالم بجميع ذلك ومجاز عليه إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا وقرأ أهل المدينة والشام وحفص بالفوقية على الخطاب وهي سبعية والباقون بالتحتية وهم الجمهور .

وأخرج عبد الله ابن أحمد وابن الدريس وابن جرير وأبو الشيخ عن كعب الأحبار قال : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمة التوراة خاتمة هود { ولله غيب السماوات والأرض } إلى آخر الآية .

ختام السورة:

استدراك

فاتنا أن نعلق على الآيات التي مرت في سورة هود الواردة في بيان وظيفة الرسل بأوسع مما كتبه المؤلف فرأينا أن نستدركه هنا :

وظيفة الرسل الأساسية هي ما بعثهم الله لأجله من تبليغ رسالته بإنذار من تولى عن الإيمان وعصى وتبشير من أجاب الدعوة فآمن واهتدى والشواهد عليها من هذه السورة قوله تعالى في دعوة رسوله خاتم النبيين { إنني لكم منه نذير مبين } وقوله حكاية عن رسوله هود صلى الله عليه وسلم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم .

وموضع التبليغ هو الدعوة إلى أركان الدين ، وعليها مدار سعادة المكلفين في الدنيا والآخرة وكلها مبطلة لما كان عليه أقوامهم المشركون من أن بينهم وبين الله تعالى وسائط منهم أو من غيرهم من خلقه يقربونهم إليه بجاههم الشخصي ويقضون حوائجهم من جلب نفع أو دفع ضر بشفاعتهم لهم عنده أو بتصرفهم في خلقه بما خصهم به من خوارق العادات إلا ما جعله من آياته دليلا على صدقهم في دعوى الرسالة .

والرسل بشر بمعنى أنهم لا يملكون من أمور العالم شيئا مما هو فوق كسب البشر ، غير ما خصهم الله به من الرسالة دون شئون ربوبيته حتى إنهم لا يملكون هداية أحد إلى الدين بالفعل لأن هدايتهم خاصة بالتبليغ والتعليم ، وحكاية نوح مع ابنه الكافر حجة في هذا الموضوع واضحة .

والشواهد على هذا في القرآن كثيرة ، ومنها في هذه السورة ما عملت من آيات توحيد الربوبية والرد على مشركي مكة في اقتراحهم مجيء الملك بقوله تعالى { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل } وقوله حكاية عن نوح { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك } وفي معناه آيات كثيرة في السور الأخرى .

ومنها في احتجاج المشركين على رسلهم بأنهم في قصة نوح { فقال الملأ الذين كفروا من قومه : ما نراك إلا بشرا مثلنا } وقد قال مثل هذا سائر أقوام الرسل بعده إلى خاتمهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين .

ولو كان أولئك الرسل في عصرهم على غير ما يعهد من البشر بأن كانوا يتصرفون في الكون بالضر والنفع وعلم الغيب لما احتجوا عليهم بأنهم بشر مثلهم كما يدعي الذين ضلوا من أقوامهم من بعدهم عما جاءوا به مع دعوى إتباعهم فزعموا أنهم وبعض من وصفوا بالصلاح والولاية من أتباعهم يضرون وينفعون : أحياؤهم وأمواتهم في هذا سواء .

بل يزعمون أنهم أحياء في قبورهم حياة مادية بدنية ، يأكلون فيها ويشربون ويسمعون كلام من يدعوهم ويستغيث بهم ويستجيبون دعاءهم فيها : يخالفون بهذه الدعاوي مئات من آيات القرآن المحكمات في صفات الأنبياء وكونهم بشرا لا يقدرون على شيء مما لا يقدر عليه البشر .

وقد يحتجون بما ورد فيه من بعض أنباء الغيب في حياة الشهداء البرزخية فيقيسون عليها بأهوائهم حياة أوليائهم رجما بالغيب وافتراء على الله .