ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك صورة فيها ما فيها من وجوه المقارنات بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين ، لكى ينحاز كل ذى عقل سليم إلى فريق الإيمان لا الكفر ، فقال - تعالى - : { هذان خَصْمَانِ . . . } . { هذان خَصْمَانِ . . . } .
ذكر المفسرون فى سبب نزول قوله - تعالى - { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ . . . } روايات أشار الإمام ابن كثير إلى معظمها فقال : " ثبت فى الصحيحين عن أبى ذر : أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية { هذان خَصْمَانِ } نزلت فى حمزة وصاحبيه . وعتبة وصاحبيه ، يوم برزوا فى بدر .
وعن قتادة قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : كتابنا يقضى على الكتب كلها ، ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم ، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه - أى فنصر الله الإسلام - ، وأنزل الآية .
وعن مجاهد فى الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما فى البعث .
وهذا القول يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها ، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان .
أى : هذا خصمان اختصموا فى ذات ربهم وفى صفاته ، بأن اعتقد كل فريق منهم أنه على الحق ، وأن خصمه على الباطل .
قال الجمل : والخصم فى الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا ، وعليه قوله - تعالى - : { وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } ويجوز أن يثنى ويؤنث ، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طوائف قال : { اختصموا } بصيغة الجمع كقوله - تعالى - : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } فالجمع مراعاة للمعنى .
وقوله - سبحانه - : { فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ . . . } تفصيل وبيان لحال كل خصم وفريق .
أى : فالذين كفروا جزاؤهم أنهم قطع الله - تعالى - لهم من النار ثيابا ، وألبسهم إياها .
قال الآلوسى : أى أعد الله لهم ذلك ، وكأنه شبه إعداد النار الحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم . ففى الكلام استعارة تمثيلية تهكمية ، وليس هناك تقطيع ثياب ولا ثياب حقيقة . وكأن جميع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم ، وكون بعضها فوق بعض . . . وعبر بالماضى ، لأن الإعداد قد وقع ، فليس من التعبير بالماضى لتحققه . . .
وقوله : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم } زيادة فى عذابهم ، أى : لم تقطع لهم ثياب من نار فحسب ، وإنما زيادة على ذلك يصب من فوق رءوسهم " الحميم " أى : الماء البالغ أقصى درجات الشدة فى الحرارة .
ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :
هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ؛ ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
إنه مشهد عنيف صاخب ، حافل بالحركة ، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .
هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب ( الذين كفروا )من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا( الغم )وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : ( وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد !
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .
وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
وقوله تعالى : { هذان خصمان } الآية ، اختلف الناس في المشار إليه بقوله { هذان } فقال قيس بن عباد وهلال بن يساف : نزلت هذه الآية في المتبارزين يوم بدر وهو ستة : حمزة ، وعلي ، وعبيدة بن الحارث ، برزوا لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة{[8330]} وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة{[8331]} ، وأقسم أبو ذر على هذا القول ع ووقع أن الآية فيهم في صحيح البخاري ، وقال ابن عباس : الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وذلك أنه وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود نحن أقوم ديناً منكم ونحو هذا ، فنزلت الآية ، وقال عكرمة : المخاصمة بين الجنة والنار ، وقال مجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن بن أبي الحسن وعاصم والكلبي : الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ع وهذا قول تعضده الآية ، وذلك أنه تقدم قوله { وكثير من الناس } المعنى هم مؤمنون ساجدون ، ثم قال { وكثير حق عليه العذاب } ثم أشار الى هذين الصنفين بقوله { هذان خصمان } والمعنى أن الإيمان وأهله والكفر وأهله خصمان مذ كانا إلى قيام الساعة بالعداواة والجدال والحرب ، وقوله تعالى : { خصمان } يريد طائفتين لأن لفظة خصم هي مصدر يوصف به الجمع والواحد ويدل على أنه أراد الجمع قوله { اختصموا } فإنها قراءة الجمهور ، وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما في ربهم » وقوله { في ربهم } معناه في شأن ربهم وصفاته وتوحيده ، ويحتمل أن يريد في رضاء ربهم وفي ذاته ، ثم بين حكمي الفريقين فتوعد تعالى الكفار بعذاب جهنم ، و { قطعت } معناه جعلت لهم بتقدير ، كما يفصل الثوب ، وروي أنها من نحاس وقيل ليس شيء من الحجارة والفلز أحر منه إذا حمي ، وروي في صب { الحميم } وهو الماء المغلي أنه تضرب رؤوسهم ب «المقامع » فتنكشف أدمغتهم فيصب { الحميم } حينئذ ، وقيل بل يصب أولاً فيفعل ما وصف ، ثم تضرب ب «المقامع » بعد ذلك ، و { الحميم } الماء المغلي .