172- بيَّن اللَّه هنا هداية بني آدم بنصب الأدلة في الكائنات ، بعد أن بيَّنها عن طريق الرسل والكتب ، فقال : واذكر - أيها النبي - للناس حين أخرج ربك من أصلاب بني أدم ونسلهم وما يتوالدون قرنا بعد قرن ، ثم نصب لهم دلائل ربوبيته في الموجودات ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها من معرفتنا ، والاستدلال بها على التوحيد والربوبية ، حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بل أنت ربنا شهدنا بذلك على أنفسنا ، لأن تمكينهم من العلم بالأدلة وتمكنهم منه في منزلة الإقرار والاعتراف . وإنما فعلنا هذا لئلا تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين لا نعرفه .
ثم بدأت السورة بعد أن انتهت من حديثها عن بنى إسرائيل وحتى نهايتها تحدثنا عن قضية التوحيد من زاوية جديدة عميقة ، زاوية الفطرة التي فطر الله عليها البشر ، ولنتصاحب سويا - أيها القارىء الكريم - متأملين فيما ساقته لنا السورة الكريمة في الربعين الأخيرين منها من آيات تزخر بالأدلة العقلية والمنطقية التي تثبت وحدانية الله وتبطل الشرك والشركاء ، مستعيننة في ذلك بما تهدى إليه الفطرة البشرية والطبيعة الإنسانية .
تدبر معى قوله - تعالى - : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ . . . } .
قال صاحب المنار ، هذه الآيات بدء سياق جديد في شئون البشر العامة المتعلقة بهداية الله لهم بما أودع في فطرتهم وركب في عقولهم من الاستعداد للايمان به وتمجيده وشكره ، في إثر بيان هدايته لهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب في قصة بنى إسرائيل . فالمناسبة بين هذا وما قبله ظاهرة ، ولذلك عطف عليه عطف جملة على جملة أو سياق على سياق .
قوله { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الظهور : جمع ظهر وهو العمود الفقرى لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته .
والذرية : سلالة الإنسان من الذكور والإناث .
وقوله { مِن ظُهُورِهِمْ } بدل بعض من قوله { مِن بني ءَادَمَ } و { ذُرِّيَّتَهُمْ } مفعول أخذ .
والمعنى : واذكر أيها الرسول وذكر كل عاقل وقت أن استخرج الله - تعالى - من أصلاب بنى آدم ذريتهم ، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فاخرجها - سبحانه - في أرحام الأمهات ، وجعلها علقة ثم مضغة ، ثم جعلها بشراً سويا ، وخلقا كاملا مكلفاً .
قال الآلوسى : وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن الإجتباء والاصطفاء وهو السبب في إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتى . وقيل إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق ، فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج .
والتعبير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية .
وقوله : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ } أى : أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته ، وعجائب خلقه ، وغرائب صنعته ، وبما أودع في قلوبهم من غريزة الإيمان ، وفى عقولهم من مدارك تهديهم إلى معرفة ربهم وخالقهم .
وقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } مقول لقول محذوف : أى : قائلا لهم - بعد أن أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل الوحدانية - ألست بربكم ، ومالك أمركم ، ومربيكم على الإطلاق ، من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شئونكم { قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } أى : قالوا بلى شهدنا على أنفسنا عن عقيدة وإقناع بأنك أنت ربنا وخالقنا ولا رب لنا سواك ، فإن آثار رحمتك وعجائب خلقك ، ومظاهر قدرتك تجعلنا لا نتردد في هذه الشهادة .
و { بلى } حرف جواب ، وتختص بالنفى فلا تقع إلا جوابه فتفيد إبطاله سواء أكان مجردا أم مقرونا بالاستفهام ولذلك قال ابن عباس وغيره ، لو قالوا نعم لكفروا . لأن نعم حرف تصديق للمخبر بنفى أو إيجاب .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } من باب التمثيل ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته ، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى ، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم وقال لهم : ألست بربكم ؟ وكأنهم قالوا : بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك ، وباب التمثيل واسع في كلام الله - تعالى - وفى كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وفى كلام العرب .
ونظيره قوله تعالى - { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } وقوله { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما تمثيل وتصوير للمعنى " .
والمقصود من الآية الكريمة الاحتجاج على المشركين بمعرفتهم ربوبيته - تعالى - معرفة فطرية لازمة لهم لزوم الاقرالر منهم والشهادة . قال - تعالى - : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } والفطرة هى معرفة ربوبيته - سبحانه - :
وقد وردت أحاديث كثيرة تشهد بأن الناس قد فطرهم الله - تعالى - على معرفته ، ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مولود إلا ويولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة جمعاء - أى سالمة الأذن - هل تحسون فيها من جدعاء - أى مقطوعة الأذن " .
وفى صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله - تعالى - إنى خلقت عبادى حنفاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالهم عن دينهم - أى صرفتهم عن دينهم - وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وروى الطبرى عن الحسن الأسود بن سريع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها " ولذلك يتبين لنا أن المعنى الإجمالى للآية الكريمة أن الله - تعالى - نصب للناس في كل شىء من مخلوقاته - ومنها أنفسهم - دلائل توحيده وربوبيته ، وركز فيهم عقولا وبصائر يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفته والاستجلال بها على التوحيد والربوبية حتى صاروا بمنزلة من إذا دعى إلى الإيمان بها سارع إليه بدون شك أو تردد .
فالكلام على سبيل المجاز التمثيلى لكون الناس قد فطرهم الله - تعالى - على معرفته والإيمان به ، وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته ، ولا إخراج للذرية ولا قول ولا إشهاد بالفعل .
وعلى هذا الرأى سار المحققون من مفسرى السلف والخلف .
ويرى بعض المفسرين أن معنى الآية الكريمة : أن الله - تعالى - مسح ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذر ، وأحيانهم وجعل لهم العقل والنطق ، وألهمهم ذلك الاقرار ، ثم أعادهم إلى ظهر ابيهم آدم ، واستشهدوا لذلك بأحاديث وآثار ليست صحيحة الاسناد ، وما حسن إسناده منها فقد أوله العلماء بما يتفق مع منطوق الآية الكريمة .
وقد رد أصحاب الرأى الأول على هذا البعض بردود منها : أ ، الله - تعالى - قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ } ولم يقل من آدم ، وقال { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره ، وقال { ذُرِّيَّتَهُمْ } ولم ذريته . قال { أَوْ تقولوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } ولم يكن لهم يومئذ أب مشرك ، لأن آدم حاشاه من الشرك بالله - تعالى :
قال الإمام ابن كثير بعد أن ساق عدداً كبيراً من الأحاديث في هذا المعنى : ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبى هريرة وعياض والأسود بن سريع وقد فسر الحسن الاية بذلك " .
ثم بين - سبحانه - سبب الاشهاد وعلله فقال : { أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ } أى : فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا ، أو منعا من أن تقولوا يوم القيامة معتذرين عن شرككم : إنا عن هذا الأمر وهو إفراد الله - تعالى - بالربوبية غافلين لم ننبه إليه ، لأنهم ما داموا قد خلقوا على الفطرة ، ونصب الله لهم في كل شىء من مخلوقاته ما يدل على وحدانيته ، وجاءتهم الرسل فبشرتهم وأنذرتهم ، فقد بطل عذرهم ، وسقطت حجتهم .
( وإذ أخذ ربك من بني آدم - من ظهورهم - ذريتهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى شهدنا ! أن تقولوا يوم القيامة : إنا كنا عن هذا غافلين . أو تقولوا : إنما أشرك آباؤنا من قبل . وكنا ذرية من بعدهم . أفتهلكنا بما فعل المبطلون ؟ . . وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون ) . .
إنها قضية الفطرة والعقيدة يعرضها السياق القرآني في صورة مشهد - على طريقة القرآن الغالبة - وإنه لمشهد فريد . . مشهد الذرية المكنونة في عالم الغيب السحيق ، المستكنة في ظهور بني آدم قبل أن تظهر إلى العالم المشهود ، تؤخذ في قبضة الخالق المربي ، فيسألها : ( ألست بربكم ؟ ) . . فتعترف له - سبحانه - بالربوبية ؛ وتقر له - سبحانه - بالعبودية ؛ وتشهد له - سبحانه - بالوحدانية ؛ وهي منثورة كالذر ؛ مجموعة في قبضة الخالق العظيم !
إنه مشهد كوني رائع باهر ، لا تعرف اللغة له نظيراً في تصوراتها المأثورة ! وإنه لمشهد عجيب فريد حين يتملاه الخيال البشري جهد طاقته ! وحينما يتصور تلك الخلايا التي لا تحصى ، وهي تجمع وتقبض . وهي تخاطب خطاب العقلاء - بما ركب فيها من الخصائص المستكنة التي أودعها إياها الخالق المبدع - وهي تستجيب استجابة العقلاء ، فتعترف وتقر وتشهد ؛ ويؤخذ عليها الميثاق في الأصلاب !
وإن الكيان البشري ليرتعش من أعماقه وهو يتملى هذا المشهد الرائع الباهر الفريد . وهو يتمثل الذر السابح . وفي كل خلية حياة . وفي كل خلية استعداد كامن . وفي كل خلية كائن إنساني مكتمل الصفات ينتظر الإذن له بالنماء والظهور في الصورة المكنونة له في ضمير الوجود المجهول ، ويقطع على نفسه العهد والميثاق ، قبل أن يبرز إلى حيز الوجود المعلوم !
لقد عرض القرآن الكريم هذا المشهد الرائع الباهر العجيب الفريد ، لتلك الحقيقة الهائلة العميقة المستكنة في أعماق الفطرة الإنسانية وفي أعماق الوجود . . عرض القرآن هذا المشهد قبل قرابة أربعة عشر قرناً من الزمان ، حيث لم يكن إنسان يعلم عن طبيعة النشأة الإنسانية وحقائقها إلا الأوهام ! ثم يهتدي البشر بعد هذه القرون إلى طرف من هذه الحقائق وتلك الطبيعة . فإذا " العلم " يقرر أن الناسلات ، وهي خلايا الوراثة التي تحفظ سجل " الإنسان " وتكمن فيها خصائص الأفراد وهم بعد خلايا في الأصلاب . . أن هذه الناسلات التي تحفظ سجل ثلاثة آلاف مليون من البشر ، وتكمن فيها خصائصهم كلها ، لا يزيد حجمها على سنتيمتر مكعب ، أو ما يساوي ملء قمع من أقماع الخياطة ! . . كلمة لو قيلت للناس يومذاك لاتهموا قائلها بالجنون والخبال ! وصدق الله العظيم : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . .
أخرج ابن جرير وغيره - بإسناده - عن ابن عباس قال : " مسح ربك ظهر آدم ، فخرجت كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة . . . فأخذ مواثيقهم ، وأشهدهم على أنفسهم : ( ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ) " . . وروي مرفوعاً وموقوفاً على ابن عباس . وقال ابن كثير : إن الموقوف أكثر وأثبت . .
فأما كيف كان هذا المشهد ؟ وكيف أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ؟ وكيف خاطبهم : ( ألست بربكم )وكيف أجابوا : ( بلى شهدنا )? . . فالجواب عليه : أن كيفيات فعل الله - سبحانه - غيب كذاته . ولا يملك الإدراك البشري أن يدرك كيفيات أفعال الله ما دام أنه لا يملك أن يدرك ذات الله . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية . وكل فعل ينسب لله سبحانه مثل الذي يحكيه قوله هذا كقوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان . . . ) . . ( ثم استوى على العرش ) . . ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) . . ( والسماوات مطويات بيمينه ) . . ( وجاء ربك والملك صفاً صفاً ) . . ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) . . . إلى آخر ما تحكيه النصوص الصحيحة عن فعل الله سبحانه ، لا مناص من التسليم بوقوعه ، دون محاولة إدراك كيفيته . . إذ أن تصور الكيفية فرع عن تصور الماهية كما قلنا . . والله ليس كمثله شيء . فلا سبيل إلى إدراك ذاته ولا إلى إدراك كيفيات أفعاله . إذ أنه . لا سبيل إلى تشبيه فعله بفعل أي شيء ، ما دام أن ليس كمثله شيء . . وكل محاولة لتصور كيفيات أفعاله على مثال كيفيات أفعال خلقه ، هي محاولة مضللة ، لاختلاف ماهيته - سبحانه - عن ماهيات خلقه . وما يترتب على هذا من اختلاف كيفيات أفعاله عن كيفيات أفعال خلقه . . وكذلك جهل وضل كل من حاولوا - من الفلاسفة والمتكلمين - وصف كيفيات أفعال الله ، وخلطوا خلطاً شديداً !
على أن هناك تفسيرا لهذا النص بأن هذا العهد الذي أخذه الله على ذرية بني آدم هو عهد الفطرة . . فقد أنشأهم مفطورين على الاعتراف له بالربوبية وحده . أودع هذا فطرتهم فهي تنشأ عليه ، حتى تنحرف عنه بفعل فاعل يفسد سواءها ، ويميل بها عن فطرتها .
قال ابن كثير في التفسير : قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد - كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود ابن سريع - وقد فسر الحسن الآية بذلك . قالوا : ولهذا قال : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم )ولم يقل : من آدم . . ( من ظهورهم ) . . ولم يقل من ظهره . . ( ذرياتهم )أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرناً بعد قرن ، كقوله تعالى : وهو الذي جعلكم خلفاء الأرض . . وقال : ( ويجعلكم خلفاء الأرض ) . . وقال : ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) . . ثم قال : ( وأشهدهم على أنفسهم : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ! ) أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له . . حالاً . . وقالوا : والشهادة تارة تكون بالقول كقوله : ( قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . . وتارة تكون حالاً كقوله تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) . . أي حالهم شاهد عليهم بذلك ، لا أنهم قائلون ذلك . . وكذلك قوله تعالى : ( وإنه على ذلك لشهيد ) . . كما أن السؤال تارة يكون بالمقالوتارة يكون بالحال . كقوله : ( وآتاكم من كل ما سألتموه ) . . قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك . فلو كان قد وقع هذا ، كما قال من قال ، لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه . فإن قيل : إخبار الرسول [ ص ] به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره . وهذا جعل حجة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد . ولهذا قال : ( أن تقولوا ) . . أي لئلا تقولوا ( يوم القيامة إنا كنا عن هذا ) . أي التوحيد . . ( غافلين ) ،
وقوله تعالى : { وإذ أخذ ربك } الآية ، التقدير واذكر إذ أخذ وقوله : { من ظهورهم } قال النحاة : هو بدل اشتمال من قوله : { من بني آدم } ، وألفاظ هذه الآية تقتضي أن الأخذ إنما كان من بني آدم من ظهورهم وليس لآدم في الآية ذكر بحسب اللفظة وتواترت الأحاديث في تفسير هذه الآية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس وغيرهما أن الله عز وجل لما خلق آدم وفي بعض الروايات لما أهبط آدم إلى الأرض في دهناء من أرض السند قاله ابن عباس ، وفي بعضها أن ذلك بنعمان وهي عرفة وما يليها ، قاله أيضاً ابن عباس وغيره ، مسح على ظهره ، وفي بعض الروايات بيمينه ، وفي بعض الروايات ضرب منكبه فاستخرج منها أي من المسحة أو الضربة نسم بنيه ، ففي بعض الروايات كالَّذر ، وفي بعضها كالخردل ، وقال محمد بن كعب : إنها الأرواح جعلت لها مثالات ، وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس وجعل الله لهم عقولاً كنملة سليمان وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم وأن لا إله غيره » فأقروا بذلك والتزموه وأعلمهم أنه سيبعث الرسل إليهم مذكرة وداعية ، فشهد بعضهم على بعض ، قال أبيّ بن كعب وأشهد عليهم السماوات السبع فليس من أحد يولد إلى يوم القيامة إلا وقد أخذ عيله العهد في ذلك اليوم والمقام ، وقال السدي : أعطى الكفار العهد يومئذ كارهين على وجه التقية .
قال القاضي أبو محمد : هذه نخيلة مجموع الروايات المطولة ، وكأن ألفاظ هذه الأحاديث لا تلتئم مع ألفاظ الآية ، وقد أكثر الناس في روم الجمع بينهما فقال قوم : إن الآية مشيرة إلى هذا التناسل الذي في الدنيا ، و { آخذ } بمعنى أوجد على المعهود وأن الإشهاد هو عند بلوغ المكلف وهو قد أعطي الفهم ونصبت له هذه الصنعة الدالة على الصانع ، ونحا إلى هذا المعنى الزجّاج ، وهو معنى تحتمله الألفاظ لكن يرد عليه تفسير عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما الآية بالحديث المذكور ، وروايتهما ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وطوّل الجرجاني في هذه المسألة ومدار كلامه على أن المسح وإخراج الذرية من أظهر آدم حسب الحديث ، وقيل في الآية أخذ من ظهورهم إذ الإخراج من ظهر آدم الذي هو الأصل إخراج من ظهور بنيه الذين هم الفرع إذ الفرع والأصل شيء واحد ، إلى كلام كثير لا يثبت للنقد ، وقال غيره : إن جميع ما في الحديث من مسح بيمينه وضرب منكبه ونحو هذا إنما هي عبارة عن إيجاد ذلك النسم منه ، و «اليمين » عبارة عن القدرة أو يكون الماسح ملكاً بأمر الله عز وجل فتضمن الحديث صدر القصة وإيجاد النسم من آدم ، وهذه زيادة على ما في الآية ، ثم تضمنت الآية ما جرى بعد هذا من أخذ العهد والنسم حضور موجودون . وهي تحتمل معنيين : أحدهما أن يكون [ أخذ ] عاملاً في عهد أو ميثاق تقدره بعد قوله : { ذرياتهم } ويكون قوله { من ظهورهم } لبيان جنس البنوة ، إذ المراد من الجميع التناسل ، ويشركه في لفظة بني آدم بنوه لصلبه وبنوه بالشفقة والحنان ، ويكون قوله : { من ذرياتهم } بدلاً من { بني آدم } ، والمعنى الآخر أنه لما كانت كل نسمة هنالك لها نسبة إلى التي هي من ظهرها كأن تعيين تلك النسبة أخذ من الظهر إذ ستخرج منه فهي المستأنف ، فالمعنى : وإذ عينوا بهذه النسبة وعرفوا بها فذلك أخذ ما و { أخذ } على هذا عامل في { ذرياتهم } وليس بمعنى مسح وأوجد بل قد تقدم إيجادهم كما تقدم الحديث المذكور ، فالحديث يزيد معنى على الآية وهو ذكر آدم وأول إيجاد النسم كيف كان .
وقال الطرطوشي : إن هذا العهد يلزم البشر وإن كانوا لا يذكرونه في هذه الحياة كما يلزم الطلاق من شهد عليه به وهو قد نسيه إلى غير هذا مما ليس بتفسير ولا من طريقه .
وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : «ذرياتهم » جمع جمع وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي : «ذريتهم » والإفراد هنا جمع وقد تقدم القول على لفظ الذرية في سورة آل عمران .
وروي في قصص هذه الآية : أن الأنبياء عليهم السلام كانوا بين تلك النسم أمثال السرج ، وأن آدم عليه السلام رأى داود فأعجبه فقال : من هذا ؟ فقيل : نبي من ذريتك فقال : كم عمره ؟ فقيل ستون سنة ، فقال زيدوه من عمري أربعين سنة فزيدت قال : وكان عمر آدم ألفاً فلما أكمل تسعمائة وستين جاء ملك الموت فقال له آدم بقي لي أربعون سنة فرجع ملك الموت إلى ربه فأخبره فقال له قل له إنك أعطيتها لابنك داود فتوفي عليه السلام بعد أن خاصم في الأربعين ، قال الضحاك بن مزاحم : من مات صغيراً فهو على العهد الأول ومن بلغ فقد أخذه العهد الثاني يعني الذي في هذه الحياة المعقولة الآن ، وحكى الزجاج عن قوم أنهم قالوا إن هذه الآية عبارة عن أن كل نسمة إذا ولدت وبلغت فنظرها في الأدلة المنصوبة عهد عليها في أن تؤمن وتعرق وتعرف الله ، وقد تقدم ذكر هذا القول وهو قول ضعيف منكب عن الأحاديث المأثورة مطرح لها .
وقوله : { شهدنا } يحتمل أن يكون من قول بعض النسم لبعض أي شهدنا عليكم لئلا تقولوا يوم القيامة غفلنا عن معرفة الله والإيمان به فتكون مقالة من هؤلاء لهؤلاء ، ذكره الطبري ، وعلى هذا لا يحسن الوقف على قوله : { بلى } ويحتمل أن يكون قوله { شهدنا } من قول الملائكة فيحسن الوقف على قوله { بلى } ، قال السدي : المعنى قال الله وملائكته شهدنا ، ورواه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ السبعة غير أبي عمرو : «أن تقولوا » على مخاطبة حاضرين ، وقرأ أبو عمرو وحده ، «أن يقولوا » على الحكاية عن غائبين وهي قراءة ابن عباس وابن جبير وابن محيصن ، والقراءتان تتفسران بحسب المعنيين المذكورين ، و { أن } في موضع نصب على تقدير مخافة أن .