72- إن الذين صدَقوا بالحق وأذعنوا لحكمه ، وهاجروا من مكة ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ، والذين آووهم في غربتهم ، ونصروا رسول اللَّه يقاتلون من قاتله ، ويعادون من عاداه ، بعضهم نصراء بعض في تأييد الحق وإعلاء كلمة اللَّه على الحق . والذين لم يهاجروا ، لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين ونصرتهم ، إذ لا سبيل إلى ولايتهم حتى يهاجروا ، وإن طلبوا منكم النصر على من اضطهدوهم في الدين ، فانصروهم . فإن طلبوا النصر على قوم معاهدين لكم لم ينقضوا الميثاق معكم ، فلا تجيبوهم ، واللَّه بما تعملون بصير لا يخفي عليه شيء ، فقفوا عند حدوده لئلا تقعوا في عذابه .
ثم ختم الله - تعالى - سورة الأنفال بالحديث عن علاقة المسلمين بعضهم بببعض ، وعن علاقتهم بغيرهم من الكفار عن الأحكام المنظمة لهذه العلاقات فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ . . . بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
هذه الآيات الكريمة التي ختم الله - تعالى - بها سورة الأنفال ، وضحت أن المؤمنين في العهد النبوى أقسام ، وذكرت حكم كل قسم منهم .
أما القسم الأول : فهم المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى .
وأما القسم الثانى : فهم الأنصار من أهل المدينة .
والقسم الثالث : المؤمنون الذين لم يهاجروا .
والقسم الرابع : المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية .
وقد عبر - سبحانه - عن القسمين : الأول والثانى بقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله والذين آوَواْ ونصروا } .
أى : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } بالله - تعالى - حق الإِيمان { وَهَاجَرُواْ } أي تركوا ديارهم وأوطانهم وكل نفيس من زينة الحياة الدنيا . من أجل الفرار بدينهم من فتنة المشركين ، ومن أجل نشر دبن الله في الأرض { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أى : أنهم مع إيمانهم الصادق ، وسبقهم بالهجرة إرضاء الله - تعالى - ، قد بالغوا في إتعاب أنفسهم من أجل نصرة الحق ، فقدموا ما يملكون من أموال ، وقدموا نفوسهم رخيصة لا في سبيل عرض من أعراض الدنيا ، وإنما في سبيل مرضاة الله ونصرة دينه .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا القسم الأول من ال مؤمنين وهم الذين سبقوا إلى الهجرة . بأعظم الصفات وأكرمها .
فقد وصفهم بالإِيمان الصادق ، وبالمهاجرة فرار بدينهم من الفتن ، وبالمجاهد بالمال والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله .
وقد جاءت هذه الأوصاف الجليلة مرتبة حسب الوقوع ، فإن أول ما حصل منهم هو الإِيمان ، ثم جاءت من بعده الهجرة ، ثم الجهاد .
ولعل تقديم المجاهدة بالأموال هنا على المجاهدة بالأنفس ، لأن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا ، وأتم دفعا للحاجة ، حيث لا تتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالأموال .
وقوله { فِي سَبِيلِ الله } متعلق بقوله { وَجَاهَدُواْ } لإِبراز أن جهادهم لم يكن لأى غرض دنيوى ، وإنما كان من أجل نصرة الحق وإعلاء كلمته - سبحانه - .
وقوله : { والذين آوَواْ ونصروا } بيان للقسم الثانى من أقسام المؤمنين في العهد النبوى ، وهم الأنصار من أهل المدينة الذين فتحوا للمهاجرين قلوبهم ، واستقبلوهم أحسن استقبال ، حيث أسكنوهم منازلهم ، وبذلوا لهم أموالهم ، وآثروهم على أانفسهم ، ونصروهم على أعدائهم .
فالآية الكريمة قد وصفت الأنصار بوصفين كريمين .
أولهما : الإِيواء الذي يتضمن التأمين من الخوف ، إذا المأوى هو المجلأ والمأمن مما يخشى منه ، ومن ذلك قوله - تعالى - { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف . . . } وقوله - تعالى - { وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ . . . } ولقد كانت المدينة مأوى وملجأ للمهاجرين ، وكان اهلها مثالا للكرم والإِيثار . .
ثانيهما : النصرة ، لأن أهل المدينة قد نصروا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين بكل ما يملكون من وسائل التأييد والمؤازرة ، فقد قاتلوا من قاتلهم ، وعادوا من عاداهم ، ولذا جعل الله - تعالى - حكمهم المهاجرين واحدا فقال : { أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } .
فاسم الإِشارة يعود إلى المهاجرين السابقين ، وإلى الانصار .
وقوله : { أَوْلِيَآءُ } جمع ولى ويطلق على الناصر والمعين والصديق والقريب . .
والمراد بالولاية هنا : الولاية العامة التي تتناول التناصر والتعاون والتوارث . .
أى : أولئك المذكورون الموصوفون بهذه الصفات الفاضلة يتولى بعضهم بعضا في النصرة والمعاونة والتوارث . . . وغير ذلك ، لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة .
قال الالوسى ما ملخصه : " روى عن ابن عباس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار ، فكان المهاجر يرثه أخوه الأنصارى ، إذا لم يكن له بالمدينة ولى مهاجرى وبالعكس ، واستمر أمهرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة . . وعليه فالآية منسوخة بقوله - تعالى - بعد ذلك { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله . . . } " .
وقال الأصم : الآية محكمة ، والمرد الولاية بالنصرة والمظاهرة .
والذى نراه أن الولاية هنا عامة فهى تشمل كل ما يحتاج إليه المسلمون فيما بينهم من تعاون وتناصر وتكافل وتوارث وغير ذلك . .
وقوله - تعالى - : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ . . . } بيان لحكم القسم الثالث من أقسام المؤمنين في العهد النبوى . .
أى : هذا الذي ذكرته لكم قبل ذلك في الآية هو حكم المهاجرين السابقين والأنصار الذي آووهم ونصروهم أما حكم الذين آمنوا ولم يهاجروا ، وهم المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم . فإنهم ليس بينهم وبين المهاجرين والأنصار ولاية إرث { حتى يُهَاجِرُواْ } إلى المدينة ، كما أنكم - أيها المؤمنون - لا تنتظروا منهم تعاونا أو مناصرة ، لأنهم بسبب إقامتهم في أرض الشرك وتحت سلطانه - أصبحوا لا يملكون وسائل المناصرة لكم .
ثم قال - تعالى - : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } .
أى : وان طلب منكم هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا النصرة على أعدائكم في الدين ، فيجب عليكم أن تنصروهم ، لأنهم إخوانكم في العقدية ، بشرط ألا يكون بينكم وبين هؤلاء الأعداء عهد ومهادنة ، فإنكم في هذه الحالة يحظر عليكم نصرة هؤلاء المؤمنين الذين لم يهاجروا ، لأن في نصرتهم - على من بينكم وبينهم عند - نقضا لهذا العهد .
أى : إن نصرتكم لهم إنما تكون على الكفار الحربين لا على الكفار المعاهدين وهذا يدل على رعاية الإِسلام للعهود ، واحترامه للشروط والعقود .
قال الجمل : أثبت الله - تعالى - للقسمين الأولين النصرة والإِرث ، ونفى عن هذا القسم الإِرث وأثبت لها النصرة .
وقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تذييل قصد به الترغيب في طاعة الله ، والتحذير عن مصعيته .
أى : والله - تعالى - مطلع على كل أعمالكم فأطيعوه ، ولا تخالفوا أمره .
وأخيراً يختم هذا الدرس ، وتختم السورة معه ، ببيان طبيعة العلاقات في المجتمع المسلم ، وطبيعة العلاقات بينه وبين المجتمعات الأخرى ؛ وبيان الأحكام المنظمة لهذه العلاقات وتلك ؛ ومنه تتبين طبيعة المجتمع المسلم ذاته ؛ والقاعدة التي ينطلق منها والتي يقوم عليها كذلك . . إنها ليست علاقات الدم ، ولا علاقات الأرض ، ولا علاقات الجنس ، ولا علاقات التاريخ ، ولا علاقات اللغة ، ولا علاقات الاقتصاد . . ليست هي القرابة ، وليست هي الوطنية ، وليست هي القومية ، وليست هي المصالح الاقتصادية . . إنما هي علاقة العقيدة ، وعلاقة القيادة ، وعلاقة التنظيم الحركي . . فالذين آمنوا وهاجروا إلى دار الهجرة والإسلام ، متجردين من كل ما يمسكهم بأرضهم وديارهم وقومهم ومصالحهم ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ؛ والذين آووهم ونصروهم ودانوا معهم لعقيدتهم وقيادتهم في تجمع حركي واحد ، أولئك بعضهم أولياء بعض . . والذين آمنوا ولم يهاجروا ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية ؛ لأنهم لم يتجردوا بعد للعقيدة ، ولم يدينوا بعد للقيادة ؛ ولم يلتزموا بعد بتعليمات التجمع الحركي الواحد . . وفي داخل هذا التجمع الحركي الواحد تعتبر قرابة الدم أولى في الميراث وغيره . . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض كذلك . . هذه هي الخطوط الرئيسية في العلاقات والارتباطات ، كما تصورها هذه النصوص الحاسمة :
( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم . . في الدين . . فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق - والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير . . والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً ، لهم مغفرة ورزق كريم . والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم . وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم ) . .
والولاية بين المسلمين في إبان نشأة المجتمع المسلم إلى يوم بدر ، كانت ولاية توارث وتكافل في الدياتوولاية نصرة وأخوة قامت مقام علاقات الدم والنسب والقرابة . . حتى إذا وجدت الدولة ومكن الله لها بيوم الفرقان في بدر بقيت الولاية والنصرة ، ورد الله الميراث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم ، داخل المجتمع المسلم . . فأما الهجرة التي يشير إليها النص ويجعلها شرطاً لتلك الولاية - العامة والخاصة - فهي الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام - لمن استطاع - فأما الذين يملكون الهجرة ولم يهاجروا ، استمساكاً بمصالح أو قرابات مع المشركين ، فهؤلاء ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية ، كما كان الشأن في جماعات من الأعراب أسلموا ولم يهاجروا لمثل هذه الملابسات ، وكذلك بعض أفراد في مكة من القادرين على الهجرة . . وهؤلاء وأولئك أوجب الله على المسلمين نصرهم - إن استنصروهم في الدين خاصة - على شرط ألا يكون الاعتداء عليهم من قوم بينهم وبين المجتمع المسلم عهد ، لأن عهود المجتمع المسلم وخطته الحركية أولى بالرعاية !
ونحسب أن هذه النصوص والأحكام تدل دلالة كافية على طبيعة المجتمع المسلم والاعتبارات الأساسية في تركيبه العضوي ، وقيمه الأساسية . ولكن هذه الدلالة لا تتضح الوضوح الكافي إلا ببيان تاريخي عن نشأة هذا المجتمع التاريخية ؛ والقواعد الأساسية التي انبثق منها وقام عليها ؛ ومنهجه الحركي والتزاماته :
إن الدعوة الإسلامية - على يد محمد رسول الله [ ص ] - إنما تمثل الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعوة الطويلة إلى الإسلام بقيادة موكب الرسل الكرام . . وهذه الدعوة على مدار التاريخ البشري كانت تستهدف أمراً واحداً : هو تعريف الناس بإلههم الواحد وربهم الحق ؛ وتعبيدهم لربهم وحده ونبذ ربوبية الخلق . . ولم يكن الناس - فيما عدا أفراداً معدودة في فترات قصيرة - ينكرون مبدأ الألوهية ويجحدون وجود الله البتة ؛ إنما هم كانوا يخطئون معرفة حقيقة ربهم الحق ، أو يشركون مع الله آلهة أخرى : إما في صورة الاعتقاد والعبادة ؛ وإما في صورة الحاكمية والاتباع ؛ وكلاهما شرك كالآخر يخرج به الناس من دين الله ، الذي كانوا يعرفونه على يد كل رسول ، ثم ينكرونه إذا طال عليهم الأمد ، ويرتدون إلى الجاهلية ، التي أخرجهم منها ، ويعودون إلى الشرك بالله مرة أخرى . . إما في الاعتقاد والعبادة ، وإما في الاتباع والحاكمية ، وإما فيها جميعا . .
هذه طبيعة الدعوة إلى الله على مدار التاريخ البشري . . إنها تستهدف( الإسلام ) . . إسلام العباد لرب العباد ؛ وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم وقيمهم وتقاليدهم ، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده في كل شأن من شؤون الحياة . . وفي هذا جاء الإسلام على يد محمد [ ص ] ، كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله . . جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس ؛ فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجوده ؛ فلا يشذوا هم بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله . بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم . فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم ونموهم وصحتهم ومرضهم ، وحياتهم وموتهم ؛ كما هم محكومون بهذه القوانين في اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها ؛ وهم لا يملكون تغيير سنة الله بهم في هذا كله ؛ كما أنهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه . . ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجانب الإرادي من حياتهم ؛ فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن منشؤون هذه الحياة ، تنسيقاً بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري ، وتنسيقاً بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني . .
ولكن الجاهلية التي تقوم على حاكمية البشر للبشر ، والشذوذ بهذا عن الوجود الكوني ؛ والتصادم بين منهج الجانب الإرادي في حياة الإنسان والجانب الفطري . . هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده . والتي واجهها رسول الله [ ص ] بدعوته . . هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في " نظرية " مجردة . بل ربما أحياناً لم تكن لها " نظرية " على الإطلاق ! إنما كانت متمثلة دائماً في تجمع حركي . متمثلة في مجتمع ، خاضع لقيادة هذا المجتمع ، وخاضع لتصوراته وقيمه ومفاهيمه ومشاعره وتقاليده وعاداته ، وهو مجتمع عضوي بين أفراده ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي ، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك - بإرادة واعية أو غير واعية - للمحافظة على وجوده ؛ والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أية صورة من صور التهديد .
ومن أجل أن الجاهلية لا تتمثل في " نظرية " مجردة ، ولكن تتمثل في تجمع حركي على هذا النحو ؛ فإن محاولة إلغاء هذه الجاهلية ، ورد الناس إلى الله مرة أخرى ، لا يجوز - ولا يجدي شيئاً - أن تتمثل في " نظرية " مجردة . فإنها حينئذ لاتكون مكافئة للجاهلية القائمة فعلاً والمتمثلة في تجمع حركي عضوي ، فضلاً على أن تكون متفوقة عليها كما هو المطلوب في حالة محاولة إلغاء وجود قائم بالفعل ، لإقامة وجود آخر يخالفه مخالفة أساسية في طبيعته وفي منهجه وفي كلياته وجزئياته . بل لا بد لهذه المحاولة الجديدة أن تتمثل في تجمع عضوي حركي أقوى في قواعده النظرية والتنظيمية ، وفي روابطه وعلاقاته ووشائجه من ذلك التجمع الجاهلي القائم فعلاً .
والقاعدة النظرية التي يقوم عليها الإسلام - على مدار التاريخ البشري - هي قاعدة : " شهادة أن لا إله إلا الله " . أي إفراد الله - سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية . . إفراده بها اعتقاداً في الضمير ، وعبادة في الشعائر ، وشريعة في واقع الحياة . فشهادة أن لا إله إلا الله ، لا توجد فعلا ؛ ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم . .
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية . . أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله ، لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها ، ولا في أي جانب من جوانبها ، من عند أنفسهم ؛ بل لا بد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه . . وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه ؛ وهو رسول الله . . وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول : " شهادة أن محمداً رسول الله " .
هذه هي القاعدة النظرية التي يتمثل فيها الإسلام ويقوم عليها - وهي تنشئ منهجاً كاملاً للحياة حين تطبق في شؤون الحياة كلها ؛ يواجه به المسلم كل فرع من فروع الحياة الفردية والجماعية ، في داخل دار الإسلام وخارجها ؛ في علاقاته بالمجتمع المسلم وفي علاقات المجتمع المسلم بالمجتمعات الاخرى . .
ولكن الإسلام - كما قلنا - لم يكن يملك أن يتمثل في " نظرية " مجردة ؛ ليعتنقها من يعتنقها اعتقاداً ويزاولها عبادة ؛ ثم يبقى معتنقوها على هذا النحو أفراداً ضمن الكيان العضوي للتجمع الحركي الجاهلي القائم فعلاً . فإن وجودهم على هذا النحو - مهما كثر عددهم - لا يمكن أن يؤدي إلى " وجود فعلي " للإسلام . لأن الأفراد " المسلمين نظرياً " الداخلين في التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي سيظلون مضطرين حتماً للاستجابة لمطالب هذا المجتمع العضوية . سيتحركون طوعاً أو كرهاً ، بوعي أو بغير وعي لقضاء الحاجات الأساسية لحياة هذا المجتمع الضرورية لوجوده وسيدافعون عن كيانه ؛ وسيدفعون العوامل التي تهدد وجوده وكيانه ؛ لأن الكائن العضوي يقوم بهذه الوظائف بكل أعضائه سواء أرادوا أم لم يريدوا . . أي أن الأفراد " المسلمين نظرياً " سيظلون يقومون " فعلا " بتقوية المجتمع الجاهلي الذي يعملون " نظريا " لإزالته ؛ وسيظلون خلايا حية في كيانه تمده بعناصر البقاء والامتداد ! وسيعطونه كفاياتهم وخبراتهم ونشاطهم ليحيا ويقوى ، وذلك بدلا من أن تكون حركتهم في اتجاه تقويض هذا المجتمع الجاهلي ، لإقامة المجتمع الإسلامي !
ومن ثم لم يكن بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام [ أي العقيدة ] في تجمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى . . لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي آخر غير التجمع الجاهلي ، منفصل ومستقل عن التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام إلغاءه . وأن يكون محور هذا التجمع الجديد هو القيادة الجديدة المتمثلة في رسول الله [ ص ] ومن بعده في كل قيادة إسلامية تستهدف رد الناس إلى ألوهية الله وحده وربوبيته وقوامته وحاكميته وسلطانه وشريعته - وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من التجمع العضوي الحركي الجاهلي - أي التجمع الذي جاء منه - ومن قيادة ذلك التجمع - في أية صورة كانت ، سواء كانت في صورة قيادة دينية ، من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين ومن إليهم ، أو في صورة قيادة سياسية واجتماعية واقتصادية كالتي كانت لقريش ، وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي الحركي الإسلامي الجديد وفي قيادته المسلمة .
لم يكن بد أن يتحقق هذا منذ اللحظة الأولى لدخول المسلم في الإسلام ، ولنطقه بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . لأن وجود المجتمع المسلم لا يتحقق إلا بهذا . لا يتحقق بمجرد قيام القاعدة النظرية في قلوب أفراد مهما تبلغ كثرتهم ؛ لا يتمثلون في تجمع عضوي متناسق متعاون ؛ له وجود ذاتي مستقل ، يعمل أعضاؤه عملاً عضوياً - كأعضاء الكائن الحي - على تأصيل وجوده وتعميقه وتوسيعه ؛ وعلى الدفاع عن كيانه ضد العوامل التي تهاجم وجوده وكيانه . ويعملون في هذا تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي تنظم تحركهم وتنسقه ، وتوجهه لتأصيل وتعميق وتوسيع وجودهم الإسلامي . ولمكافحة ومقاومة وإزالة الوجود الآخر الجاهلي .
وهكذا وجد الإسلام . . هكذا وجد متمثلا في قاعدة نظرية مجملة - ولكنها شاملة - يقوم عليها في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه لهذا المجتمع . . ولم يوجد قط في صورة " نظرية " مجردة عن هذا الوجود الفعلي . . وهكذا يمكن أن يوجد الإسلام مرة أخرى . . ولا سبيل لإعادة نشأته في ظل المجتمع الجاهلي في أي زمان وفي أي مكان ، بغير الفقه الضروري لطبيعة نشأته العضوية الحركية .
وحين ندرك طبيعة هذه النشأة وأسرارها الفطرية ؛ وندرك معها طبيعة هذا الدين وطبيعة منهجه الحركي- على ما بينا في مقدمة سورة الأنفال في الجزء التاسع - ندرك معه مدلولات هذه النصوص والأحكام التي نواجهها في ختام هذه السورة ، في تنظيم المجتمع المسلم وتنظيم علاقاته مع المؤمنين المهاجرين المجاهدين - بطبقاتهم - والذين آووا ونصروا ؛ وعلاقاته مع الذين آمنواولم يهاجروا ؛ وعلاقاته مع الذين كفروا . . إنها كلها تقوم على أساس ذلك الفقه بطبيعة النشأة العضوية الحركية للمجتمع الإسلامي .
ونستطيع الآن أن نواجه هذه النصوص والأحكام الواردة فيها :
{ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر - إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق - والله بما تعملون بصير . والذين كفروا بعضهم أولياء بعض . . إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } . .
لقد انخلع كل من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله في مكة من الولاء لأسرته ، والولاء لعشيرته ، والولاء لقبيلته ، والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش ؛ وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته . في حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - يحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته .
عندئذ آخى رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء هذا التجمع الوليد . . أي أنه حول هؤلاء " الأفراد " الآتين من المجتمع الجاهلي أفراداً ، إلى " مجتمع " متكافل ، تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ؛ ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية ، ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق .
ثم لما فتح الله للمسلمين دار الهجرة في المدينة ؛ بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق ، والسمع والطاعة في المنشط والمكره ، وحماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم ؛ وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رسول الله فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها . بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة . . وكان حكم الله تعالى :
{ إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } . .
أولياء في النصرة ، وأولياء في الإرث ، وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات .
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ؛ ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلاً . . لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة الله وتدبر أمرها القيادة المسلمة ؛ ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك داراً يقيم فيها شريعة الله ؛ ويحقق فيها وجوده الكامل ؛ بعدما تحقق له وجوده في مكة نسبيا ، بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي ، مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز .
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة ، أو في الأعراب حول المدينة . يعتنقون العقيدة ، ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ؛ ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه . .
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ؛ ولم يجعل الله لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع ، لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي . وفي هؤلاء نزل هذا الحكم :
( والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا . وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) .
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي . فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ؛ ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية . . ولكن هناك رابطة العقيدة ؛ وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد ؛ اللهم إلا أن يعتدي عليهم في دينهم ؛ فيفتنوا مثلاً عن عقيدتهم . فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا ، كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها . على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر . ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم ! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود . فهذه لها الرعاية أولاً ، حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا ، ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي . .
. . وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي . .
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه ، ومقدماته ونتائجه ، وبواعثه وآثاره .
مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا ، والكفار والمهاجرين بعد الحديبية ، وذكر نسب بعضهم من بعض ، فقدم أولاً ذكر المهاجرين وهم أصل الإسلام ، وانظر تقديم عمر لهم في الاستشارة و «هاجر » معناه أهله وقرابته وهجروه ، { وجاهدوا } معناه أجهدوا أنفسهم في حرب من أجهد نفسه في حربهم ، { والذين آووا ونصروا } هم الأنصار ، وآوى معناه هيأ مأوى وهوالملجأ والحرز ، فحكم الله على هاتين الطائفتين بأن { بعضهم أولياء بعض } ، فقال كثير من المفسرين : هذه الموالاة هي المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وعليه فسر الطبري الآية ، وهذا الذي قالوا لازم من دلالة اللفظ ، وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وكثير منهم إن هذه الموالاة هي في الميراث ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصار ، وكانت بين الأنصار أخوة النسب وكانت أيضاً بين بعض المهاجرين فكان المهاجريّ إذا مات ولم يكن له بالمدينة ولي مهاجريّ وورثه أخوه الأنصاري ، وإن كان له ولي مسلم لم يهاجر ، وكان المسلم الذي لم يهاجر لا ولاية بينه وبين قريبه المهاجري لا يرثه ، قال ابن زيد : واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ، ثم توارثوا بعد ذلك لما لم تكن هجرة .
قال القاضي أبو محمد : فذهبت هذه الفرقة إلى أن هذا هو مقصد الآية ، ومن ذهب إلى أنها في التآزر والتعاون فإنما يحمل نفي الله تعالى ولايتهم عن المسلمين على أنها صفة الحال لا أن الله حكم بأن لا ولاية بين المهاجرين وبينهم جملة ، وذلك أن حالهم إذا كانوا متباعدي الأقطار تقتضي أن بعضهم إن حزبه حازب لا يجد الآخر ولا ينتفع به فعلى هذه الجهة نفي الولاية ، وعلى التأويلن ففي الآية حض للأعراب على الهجرة ، قاله الحسن بن أبي الحسن ، ومن رأى الولاية في الموارثة فهو حكم من الله ينفي الولاية في الموارثة ، قالوا : ونسخ ذلك قوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض }{[5487]} ، وقرأ جمهور السبعة والناس «وَلايتهم » بفتح الواو والوَلاية أيضاً بفتح الواو{[5488]} ، وقرأ الكسائي «وَلايتهم » بفتح الواو والوِلاية بكسر الواو ، وقرأ الأعمش وابن وثاب «وِلايتهم » والوِلاية بكسر الواو وهي قراءة حمزة ، قال أبو علي والفتح أجود لأنها في الدين ، قال أبو الحسن الأخفش والكسر فيها لغة وليست بذلك ولحن الأصمعي والأعمش{[5489]} وأخطأ عليه لأنها إذا كانت لغة فلم يلحن .
قال القاضي أبو محمد : لا سيما ولا يظن به إلا أنه رواها ، قال أبو عبيدة : الوِلاية بالكسر هي من وليت الأمر إليه فهي من السلطان ، والولاية هي من المولى ، يقال مولى بين الوَلاية بفتح الواو ، وقوله { وإن استنصروكم } يعني إن استدعى هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا نصركم على قوم من الكفرة فواجب عليكم نصرهم إلا إن استنصروكم على قوم كفار قد عاهدتموهم أنتم وواثقتموهم على ترك الحرب فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك عذر ونقض للميثاق وترك لحفظ العهد والوفاء به ، والقراءة «فعليكم النصرُ » برفع الراء ، ويجوز «فعليكم النصر » على الإغراء ، ولا أحفظه قراءة ، وقرأ جمهور الناس «والله بما تعملون » على مخاطبة المؤمنين ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج «بما يعملون » بالياء على ذكر الغائب .