والفاء فى قوله - تعالى - : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، ولتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمره بالصبر حتى يحكم الله بينه وبينهم .
والارتقاب : الانتظار ، وأكثر ما يستعمل الارتقاب فى الأمر المكروه والمراد باليوم مطلق الوقت ، وهو مفعول به لارتقب .
قال الآلوسى ما ملخصه : " والمراد السماء جهة العلو ، وإسناد الإِتيان بذلك إليها من قبيل الإِسناد إلى السبب ، لأنه يحصل بعدم إمطارها . . " .
أى : فارتقب يوم تأتى السماء بجدب ومجاعة ، فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، وهى ظلمة تعرض للبصر لضعفه . . وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز ، من باب ذكر المسبب وإرادة السبب . . وبعض العرب يسمى الشر الغالب دخانا ، ووجه ذلك أن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه ، وأريد به هنا الجدب ، ومعناه الحقيقى معروف .
وللمفسرين فى معنى هذه الآية إتجاهات أولها : ما ورد فى الحديث الصحيح من " أن مشركى مكة ، لما أصروا على كفرهم على إعراضهم عن الحق ، دعا عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف . . " فأصابهم القحط والبلاء والجوع . .
وكنى عن ذلك بالدخان ، لأن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان ، فيقولون : كان بيننا أمر ارتفع له دخان . .
والسبب فيه أن الإِنسان إذا اشتد ضعفه ، أظلمت عيناه ، فيرى الدنيا كالمملوءة بالدخان .
روى البخارى وغيره عن ابن مسعود قال : " إن قريشا لما أبطأت عن الإِسلام ، واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسنى يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى اكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان . .
فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى لهم فسقوا ، فأنزل الله : { إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } " .
قال ابن كثير : " وهذا الحديث مخرج فى الصحيحين ، ورواه الإِمام أحمد فى مسنده ، وهو عند الترمذى والنسائى فى تفسيرهما ، وعن ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق متعددة " .
وعلى هذا الرأى يكون الدخان قد وقع فعلا ، بمعنى أن المشركين قد أصابهم بلاء شديد فى عهد النبى - صلى الله عليه وسلم - . ثم كشف الله عنهم ما كشف ببركة دعاء النبى - صلى الله عليه وسلم - .
أما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه ، أن المراد بالدخان ، ما يكون قبل يوم القيامة من دخان يسبق ذلك ، كعلامة من علامات البعث والنشور .
واستدل أصحاب هذا الاتجاه ، بأحاديث ذكرها المفسرون .
قال ابن كثير : " وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسدي الغفارى . قال : أشرف علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غرفته ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجووج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال وثلاثة خسوف : خسوف بالمشرق وخسوب بالمغرب ، وخسوف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر الناس - تبينت معهم حيث باتوا ، وتقيل حيث قالوا .
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك أحاديث أخرى ، وقال فى نهايتها : والظاهر أن ذلك يوم القيامة .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى سياق الآيات التى ذكرها الله - تعالى - فى هذه السورة ، ولا يتعارض ذلك مع كون ظهور الدخان علامة من علامات قرب يوم القيامة ، كما جاء فى حديث حذيفة بن أسيد الغفارى ، الذى ذكره ابن كثير - رحمه - الله - وقال فى شأنه : تفرد بإخراجه مسلم فى صحيحه .
ومن المفسرين الذين رجحوا الاتجاه الأول الإِمام الطبرى ، فقد قال بعد أن ساق هذين القولين : وأولى القولين بالصواب فى ذلك قول ابن مسعود ، من أن الدخان الذى أمر الله - تعالى - نبيه ان يرتقبه ، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم .
وإنما قلت القول الذى قاله ابن مسعد - رضى الله عنه - هو أولى تأويل الآية ، لأن الله - تعالى - توعد بالدخان مشركى قريش . . ولأن الأخبار قد تظاهرة بأن ذلك كائن .
والمعنى : فانتظر يا محمد لمشركى قومك ، يوم تأتيهم السماء من البلاء الذى يحل بهم ، بمثل الدخان المبين .
ومنهم - أيضا - الإِمام الآلوسى ، فقد قال - رحمه الله - : هذا والأظهر حمل الدخان على ما روى عنا بن مسعود ، لأن أنسب بالسياق ، لما أنه فى كفار قريش ، وبيان سو حالهم .
( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين . يغشى الناس . هذا عذاب أليم ) . .
وقد اختلف السلف في تفسير آية الدخان . فقال بعضهم . إنه دخان يوم القيامة ، وإن التهديد بارتقابه كالتهديد المتكرر في القرآن . وإنه آت يترقبونه ويترقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : بل هو قد وقع فعلاً ، كما توعدهم به . ثم كشف عن المشركين بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فنذكر هنا ملخص القولين وأسانيدهما . ثم نعقب بما فتح الله به ، ونحسبه صواباً إن شاء الله .
قال سليمان بن مهران الأعمش ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن مسروق . قال : دخلنا المسجد - يعني مسجد الكوفة - عند أبواب كندة . فإذا رجل يقص على أصحابه : ( يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . . تدرون ماذا الدخان ? ذلك دخان يأتي يوم القيامة ، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام . قال : فأتينا ابن مسعود - رضي الله عنه - فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعاً ففزع فقعد ، وقال : إن الله عز وجل قال لنبيكم [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) . إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم . أحدثكم عن ذلك . إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام ، واستعصت على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] دعا عليهم بسنين كسني يوسف . فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ؛ وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان - وفي رواية فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد - قال الله تعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب أليم ) . . فأتي رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقيل له : يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت . فاستسقى [ صلى الله عليه وسلم ] لهم فسقوا . فنزلت . ( إنا كاشفو العذاب قليلاً إنكم عائدون ) . . قال ابن مسعود رضي الله عنه : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة ? . . فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عز وجل : ( يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون ) . . قال : يعني يوم بدر . قال ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد مضى خمسة : الدخان ، والروم والقمر ، والبطشة ، واللزام " . . [ وهذا الحديث مخرج في الصحيحين . ورواه الإمام أحمد في مسنده . وهو عند الترمذي والنسائي في تفسيرهما . وعند ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق متعددة عن الأعمش به ] . وقد وافق ابن مسعود - رضي الله عنه - على تفسير الآية بهذا ، وأن الدخان مضى ، جماعة من السلف كمجاهد وأبي العالية وإبراهيم النخعي والضحاك وعطية العوفي . وهو اختيار ابن جرير .
وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما ورد في حديث أبي سريحة حذيفة ابن أسيد الغفاري - رضي الله عنه - قال : أشرف علينا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] من عرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - أو تحشر - الناس - تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " . . [ تفرد بإخراجه مسلم في صحيحه ] .
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عوف ، حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي ، حدثني ضمضم بن زرعة ، عن شريح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن ربكم أنذركم ثلاثاً الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال " . [ ورواه الطبراني عن هاشم بن زيد ، عن محمد بن إسماعيل بن عياش بهذا النص ؛ وقال ابن كثير في التفسير : وهذا إسناد جيد ] .
وقال ابن جرير كذلك : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، عن ابن جريج ، عن عبدالله بن أبي مليكة . قال : غدوت على ابن عباس - رضي الله عنهما - ذات يوم ، فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت . قلت : لم ? قال : قالوا طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق ، فما نمت حتى أصبحت . . وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن عبد الله ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما فذكره .
قال ابن كثير في التفسير : " وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - حبر الأمة وترجمان القرآن . وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم أجمعين - مع الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردوها ، مما فيه مقتنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة ، مع أنه ظاهر القرآن . قال الله تبارك وتعالى : ( فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . . أي بيّن واضح يراه كل أحد . وعلى ما فسر به ابن مسعود - رضي الله عنه - إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد .
{ فارتقب } فانتظر لهم . { يوم تأتي السماء بدخان مبين } يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره ، أو لأن الهواء يظلم عام القحط لقلة الأمطار وكثرة الغبار ، أو لأن العرب تسمي الشر الغالب دخانا وقد قحطوا حتى أكلوا جيف الكلاب وعظامها ، وإسناد الإتيان إلى السماء لأن ذلك يكفه عن الأمطار ، أو يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قال : أول الآيات الدخان ونزول عيسى عليه السلام ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر . قيل وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال : " يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " أو يوم القيامة والدخان يحتمل المعنيين .
تفريع على جملة { بل هم في شك يلعبون } [ الدخان : 9 ] قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه ، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب ، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول ، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم .
فالخطاب في { ارتقبْ } للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت . والارتقاب : افتعال من رقَبَه ، إذا انتظره ، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر . وفعل ( ارتقب ) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية ، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب .
و { يوم } اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل ( ارتقب ) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى : { يخافون يوماً } [ النور : 37 ] ، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب { يومَ } نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة .
والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه . ولأن الجملة في قوة المصدر . والتقدير : فارتقب يوم إتيان السماء بدخان . وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أياممٍ وشهور كثيرة .
والدخان : ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب ، وهو تشبيه بليغ ، أي بمثل دخان .
والمبين : البين الظاهر ، وهو اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بَان . والمعنى : أنه ظاهر لكل أحد لا يُشك في رؤيته . وقال أبو عبيدة وابن قتيبة : الدخان في الآية هو : الغبار الذي يتصاعد من الأرض من جراء الجفاف وأن الغبار يسمّيه العرب دُخَاناً وهو الغبار الذي تثيره الرياح من الأرض الشديدة الجفاف . وعن الأعرج : أنه الغبار الذي أثارته سنابك الخيل يوم فتح مكة فقد حجبت الغبرة السماء ، وإسناد الإتيان به إلى السماء مجاز عقلي لأن السماء مكانه حين يتصاعد في جو السماء أو حين يلوح للأنظار منها . والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول ، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا ، وأنه عقاب للمشركين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فارتقب} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله عز وجل على كفار قريش، فقال:" اللهم أعني عليهم بسبع سنين كسني يوسف"، فأصابتهم شدة... فكان الرجل يرى بينه وبين السماء الدخان من الجوع، فذلك قوله: {فارتقب}: فانتظر يا محمد {يوم تأتي السماء بدخان مبين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله:"فارْتَقِبْ" فانتظر يا محمد بهؤلاء المشركين من قومك الذين هم في شكّ يلعبون، وإنما هو افتعل، من رقبته: إذا انتظرته وحرسته... وقوله: "يَوْمَ تَأْتِي السمّاءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ "اختلف أهل التأويل في هذا الذي أمر الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه، وأخبره أن السماء تأتي فيه بدخان مبين: أي يوم هو، ومتى هو؟ وفي معنى الدخان الذي ذُكر في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: ذلك حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش ربه تبارك وتعالى أن يأخذهم بسنين كسني يوسف، فأخذوا بالمجاعة، قالوا: وعنى بالدخان ما كان يصيبهم حينئذٍ في أبصارهم من شدة الجوع من الظلمة كهيئة الدخان...
وقال آخرون: الدخان آية من آيات الله، مرسلة على عباده قبل مجيء الساعة، فيدخل في أسماع أهل الكفر به، ويعتري أهل الإيمان به كهيئة الزكام، قالوا: ولم يأت بعد، وهو آتٍ...
وأولى القولين بالصواب في ذلك ما رُوي عن ابن مسعود من أن الدخان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرتقبه، هو ما أصاب قومه من الجهد بدعائه عليهم، على ما وصفه ابن مسعود من ذلك إن لم يكن خبر حُذيفة الذي ذكرناه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا، وإن كان صحيحا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بما أنزل الله عليه، وليس لأحد مع قوله الذي يصح عنه قول، وإنما لم أشهد له بالصحة، لأن محمد بن خلف العسقلانيّ حدثني أنه سأل روّادا عن هذا الحديث، هل سمعه من سفيان؟ فقال له: لا، فقلت له: فقرأته عليه، فقال: لا، فقلت له: فقرئ عليه وأنت حاضر فأقرّ به، فقال: لا، فقلت: فمن أين جئت به؟ قال: جاءني به قوم فعرضوه عليّ وقالوا لي: اسمعه منا فقرأوه عليّ، ثم ذهبوا، فحدّثوا به عني، أو كما قال فلما ذكرت من ذلك لم أشهد له بالصحة، وإنما قلت: القول الذي قاله عبد الله بن مسعود هو أولى بتأويل الآية، لأن الله جلّ ثناؤه توعّد بالدخان مشركي قريش وأن قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: "فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ" في سياق خطاب الله كفار قريش وتقريعه إياهم بشركهم بقوله: "لا إلَهَ إلاّ هُوَ يُحْي ويُمِيتُ ربّكُمْ وَرَبّ آبائِكُمُ الأوّلِينَ، بَلْ هُمْ فِي شَكّ يَلْعَبُونَ"، ثم أتبع ذلك قوله لنبيه عليه الصلاة والسلام: "فارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّماءُ بِدُخانٍ مُبِين" أمرا منه له بالصبر إلى أن يأتيهم بأسه وتهديدا للمشركين فهو بأن يكون إذ كان وعيدا لهم قد أحله بهم أشبه من أن يكون آخره عنهم لغيرهم، وبعد، فإنه غير منكر أن يكون أحلّ بالكفار الذين توعدهم بهذا الوعيد ما توعدهم، ويكون مُحِلاً فيما يستأنف بعد بآخرين دخانا على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا كذلك، لأن الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تظاهرت بأن ذلك كائن، فإنه قد كان ما رَوَى عنه عبد الله بن مسعود، فكلا الخبرين اللذين رُويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
وإن كان تأويل الآية في هذا الموضع ما قلنا، فإذ كان الذي قلنا في ذلك أولى التأويلين، فبين أن معناه: فانتظر يا محمد لمشركي قومك يوم تأتيهم السماء من البلاء الذي يحل بهم على كفرهم بمثل الدخان المبين لمن تأمله أنه دخان.
اعلم أن المراد بقوله {فارتقب} انتظر ويقال ذلك في المكروه، والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله {هذا عذاب أليم}، ويجوز أيضا أن يكون {يوم تأتي السماء} مفعول الارتقاب فنقول قوله تعالى: {يوم تأتي السماء بدخان مبين} أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشى الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله {بدخان}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا موضع أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم المفهوم من السياق: فماذا صنع فيهم بعد هذا البيان، الذي لم يدع لبساً لإنسان؟ سبب عن ذلك قوله تسلية له وتهديداً لهم: {فارتقب} أي انتظر بكل جهد عالياً عليهم ناظراً لأحوالهم نظر من هو حارس لها، متحفظاً من مثلها بهمة كهمة الأسد الأرقب، والفعل متعد ولكنه قصر تهويلاً لذهاب الوهم في مفعوله كل مذهب، ولعل المراد في الأصل ما يحصل من أسباب نصرك وموجبات خذلانهم {يوم تأتي السماء}
{بدخان مبين} أي واضح لا لبس فيه عند رائيه ومبين لما سواه من الآيات للفطن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونحن نختار قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير الدخان بأنه عند يوم القيامة ، وقول ابن كثير في تفسيره . فهو تهديد له نظائره الكثيرة في القرآن الكريم ، في مثل هذه المناسبة . ومعناه : إنهم يشكون ويلعبون . فدعهم وارتقب ذلك اليوم المرهوب . يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس . ووصف هذا بأنه عذاب أليم . وصور استغاثتهم : ( ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون ) . . ورده عليهم باستحالة الاستجابة ، فقد مضى وقتها : ( أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين . ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون ) . . يعلمه ذلك الغلام الأعجمي ! وهو - كما زعموا - مجنون..
في ظل هذا المشهد الذي يرجون فيه كشف العذاب فلا يجابون يقول لهم: إن أمامكم فرصة بعد لم تضع، فهذا العذاب مؤخر عنكم قليلاً وأنتم الآن في الدنيا. وهو مكشوف عنكم الآن فآمنوا كما تعدون أن تؤمنوا في الآخرة فلا تجابون. وأنتم الآن في عافية لن تدوم. فإنكم عائدون إلينا (يوم نبطش البطشة الكبرى).. يوم يكون ذلك الدخان الذي شهدتم مشهده في تصوير القرآن له.
(إنا منتقمون) من هذا اللعب الذي تلعبون، وذلك البهت الذي تبهتون به الرسول [صلى الله عليه وسلم] إذ تقولون عنه: (معلم مجنون).. وهو الصادق الأمين..
بهذا يستقيم تفسير هذه الآيات ، كما يبدو لنا ، والله أعلم بما يريد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع على جملة {بل هم في شك يلعبون} قُصد منه وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بانتقام الله من مكذبيه، ووعيد المشركين على جحودهم بدلائل الوحدانية وصدق الرسول وعكوفهم على اللعب، أي الاستهزاء بالقرآن والرسول، وذكر له مخوفات للمشركين لإعدادهم للإيمان وبطشةُ انتقام من أيمتهم تستأصلهم.
فالخطاب في {ارتقبْ} للنبيء صلى الله عليه وسلم والأمر مستعمل في التثبيت.
والارتقاب: افتعال من رقَبَه، إذا انتظره، وإنما يكون الانتظار عند قرب حصول الشيء المنتظر. وفعل (ارتقب) يقتضي بصريحه أن إتيان السماء بدخان لم يكن حاصلاً في نزول هذه الآية، ويقتضي كنايةً عن اقتراب وقوعه كما يُرتقب الجائي من مكان قريب.
و {يوم} اسم زمان منصوب على أنه مفعول به ل (ارتقب) وليس ظرفاً وذلك كقوله تعالى:
{يخافون يوماً} [النور: 37]، وهو مضاف إلى الجملة بعده لتمييز اليوم المراد عن بقية الأيام بأنه الذي تأتي فيه السماء بدخان مبين فنصب {يومَ} نصب إعراب ولم ينون لأجل الإضافة.
والجملة التي يضاف إليها اسم الزمان تستغني عن الرابط لأن الإضافة مغنية عنه. ولأن الجملة في قوة المصدر، والتقدير: فارتقب يوم إتيان السماء بدخان، وأطلق اليوم على الزمان فإن ظهور الدخان كان في أيامٍ وشهور كثيرة.
والدخان: ما يتصاعد عند إيقاد الحَطب، وهو تشبيه بليغ، أي بمثل دخان.
والكلام يؤذن بأن هذا الدخان المرتقب حادث قريب الحصول، فالظاهر أنه حَدث يكون في الحياة الدنيا، وأنه عقاب للمشركين.