ثم حكى القرآن ما تم لهما بعد أن عادا إلى مكانهما الأول فقال : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } .
أى : وبعد أن عادا إلى مكان الصخرة عند مجمع البحرين مرة أخرى وجدا { عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } الصالحين . والتنكير فى { عبدا } للتفخيم ، والإِضافة فى { عبادنا } للتشريف والتكريم .
{ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أى : هذا العبد الصالح منحناه وأعطيناه رحمة عظيمة من عندنا وحدنا لا من عند غيرنا : واختصصناه بها دون غيره .
و «العبد » هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث ، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس ، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر ، والخضر نبي عند الجمهور ، وقيل هو عبد صالح غير نبي ، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله ، وروي في الحديث أن موسى عليه السلام وجد الخضر مسجى في ثوبه مستلقياً على الأرض فقال له السلام عليك ، فرفع الخضر رأسه وقال وأنى بأرضك السلام ؟ ثم قال له من أنت ؟ قال أنا موسى ، قال موسى بني إسرائيل ؟ قال نعم ، قال له ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا ؟ قال بلى ، ولكني أحببت لقاءك ، وأن أتعلم منك ، قال له إني على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه أنا .
قال القاضي أبو محمد : كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها . وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم . وروي أن موسى وجد الخضر قاعداً على تيح البحر ، وسمي الخضر خضراً لأنه جلس على فروة يابسة فاهتزت تحته خضراء ، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم{[1]} ، و «الرحمة » في هذه الآية النبوءة ، وقد ذكرنا الحديث المضمن أن سبب هذه القصة أن موسى عليه السلام ، قيل له تعلم أحداً أعلم منك ، قال : لا ، وحكى الطبري حديثاً آخر ، مضمنه : أن موسى عليه السلام قال : من قبل نفسه : أي رب ، أي عبادك أعلم ؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة خير تهديه ، قال رب فهل في الأرض أحد ؟ قال نعم فسأل السبيل إلى لقيه{[2]} ، والحديث الأول في صحيح البخاري ، وقرأ الجمهور «من لدنّا » بتشديد النون وقرأ أبو عمرو من «لدُنا » بضم الدال وتخفيف النون ، قال أبو حاتم هما لغتان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا" يقول: وهبنا له رحمة من عندنا "وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا "يقول: وعلمناه من عندنا أيضا علما...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا} يحتمل قوله: {رحمة من عندنا} النبوة حين قال لموسى: {إنك لن تستطيع معي صبرا} (الكهف: 67) لا يحتمل أن يقول له هذا إلا على علم وحي، وحين قال: {وما فعلته عن أمري} (الكهف: 82) أخبر أنه لم يفعل ما فعل عن أمر نفسه، ولكن عن أَمْرِ الله، والله أعلم. ويحتمل قوله: {رحمة من عندنا} كل خير وكل بركة أعطاه الله إياه، أو أن يكون رحمة القلب وشفقته التي كانت منه على أهل السفينة بخرقها وقتل ذلك الغلام الذي قتله إشفاقا على والديه أو على الناس وإقامة الجدار الذي كاد أن ينقض، فأقامه، وأمثاله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا}: أي صار مرحوماً من قِبَلِنا بتلك الرحمة التي خصصناه بها من عندنا، فيكون الخضر بتلك الرحمة مرحوماً، ويكون بها راحماً على عبادنا...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
العلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى عنه فقال: {وعلمناه من لدنا علما} [الرسالة اللدنية ضمن المجموعة: رقم 3 ص: 106]. 665- هذا هو العلم الرباني، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وعلمناه من لدنا علما} مع أن كل علم من لدنه، ولكن بعضه بوسائط تعليم الخلق، فلا يسمى ذلك علما لدنيا، بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج. [الإحياء: 3/140]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا} هي الوحي والنبوة {مّن لَّدُنَّا} مما يختص بنا من العلم، وهو الإخبار عن الغيوب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «العبد» هو الخضر في قول الجمهور بمقتضى الأحاديث، وخالف من لا يعتد بقوله فقال ليس، صاحب موسى بالخضر بل هو عالم آخر، والخضر نبي عند الجمهور، وقيل هو عبد صالح غير نبي، والآية تشهد بنبوته لأن بواطن أفعاله هل كانت إلا بوحي الله...
كان علم الخضر معرفة بواطن قد أوحيت إليه لا تعطي ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها. وكان علم موسى عليه السلام علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم... و«الرحمة» في هذه الآية النبوءة،...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
هذه الآية استدل بها بعض الفضلاء على الفرق بين "لَدُن "و "عند" ولذلك فرق بين الرحمة والعلم، فذكر العِلم مع "لدن" لأنه أفضل، فذكر بما يدل على القُرب، والرحمة، والإحسان من حيث الجملة، فذكر مع "عند"...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فوجدا عبداً من عبادنا} مضافاً إلى حضرة عظمتنا وهو الخضر عليه السلام {ءاتيناه} بعظمتنا {رحمة} أي وحياً ونبوة، وكونه نبياً قول الجمهور {من عندنا} أي مما لم يجر على قوانين العادات غير أنه ليس بمستغرب عند أهل الاصطفاء {وعلمناه من لدنا} أي من الأمور المستبطنة المستغربة التي عندنا مما لم يحدث عن الأسباب المعتادات، فهو مستغرب عند أهل الاصطفاء {علماً} قذفناه في قلبه بغير واسطة؛ و قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي:"عند" في لسان العرب لما ظهر، و "لدن "لما بطن، فيكون المراد بالرحمة ما ظهر من كراماته، وبالعلم الباطن الخفي المعلوم قطعاً أنه خاص بحضرته سبحانه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد بالعبد: الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفاً له، كما تقدم عند قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده} [الإسراء: 1].
وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى. وما منهم إلا له مقام معلوم.
وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه: أنه جُعل مرحوماً، وذلك بأن رفق الله به في أحواله. ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفاً يجلب الرحمة العامة. والعلم من لدن الله: هو الإعلام بطريق الوحي.
و (عند) و (لدن) كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب. ويستعملان مجازاً في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما.
و (من) ابتدائية، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلماً صدر منه أيضاً. وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النَّبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها، أو رحمة الولاية وعلمها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولا نجد هناك كبير فائدة في تحقيق الأمر في شخصيته وفي خصوصيته، لأن ذلك لا يتصل بأيِّ جانبٍ في العقيدة والحياة. {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} ربما كانت هي النبوّة، وربما كانت شيئاً آخر مما يرحم به عباده، ويختص بعضهم بميزةٍ خاصة في موقعه وفي ملكاته. {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} مما لم يؤته الله لغيره من عمق الإحاطة بخفايا الأمور وتأويل الأشياء، وهذا ما كان الآخرون ومنهم موسى النبي (عليه السلام) بحاجة إلى الاطّلاع عليه، مما أراده الله أن يسعى إليه في اللقاء بهذا العالم الصالح...