ثم أرشد - سبحانه - عباده إلى أفضل الطرق لإِنفاق أموالهم والتصرف فيها ، فقال - تعالى - : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } .
وقوله { مغلولة } من الغل - بضم الغين - وأصله الطوق الذى يجعل فى العنق وتربط به اليد ، كما يربط المذنب والأسير : وهو كناية عن البخل والتقتير .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط . ولا فرق عنده بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه ، لأنهما كلامان معتقبان على حقيقة واحدة . حتى أنه يستعمله فى ملك لا يعطى عطاء قط ، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يد وقبضها وبسطها . ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا : ما أبسط يده بالنوال ؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان معاقبتان للبخل والجود . . .
وقوله : { محسورا } من الحسور بمعنى الانقطاع عن الشئ ، والعجز عن الحصول عليه .
يقال : فلان حسره السير ، إذا أثر فيه أثرا بليغا جعله يعجز عن اللحاق برفقائه .
ويقال : بعير محسور . أى : ذهبت قوته وأصابه الكلل والإِعياء . فصار لا يستطيع النهوض بما يوضع عليه من أحمال .
والمقصود من الآية الكريمة : الأمر بالتوسط والاعتدال فى الإِنفاق والنهى عن البخل والإِسراف .
فقد شبه - سبحانه - مال البخيل ، بحال من يده مربوطة إلى عنقه ربطا محكما بالقيود والسلاسل ، فصار لا يستطيع تحريكها أو التصرف بها .
وشبه حال المسرف والمبذر ، بحال من مد يده وبسطها بسطا كبيرا ، بحيث أصبحت لا تمسك شيئا يوضع فيها سواء أكان قليلا أم كثيرا .
والمعنى : كن - أيها الإِنسان - متوسطا فى كل أمورك ، ومعتدلا فى إنفاق أموالك بحيث لا تكون بخيلا ولا مسرفا ، فان الإِسراف والبخل يؤديان بك إلى أن تصير ملوما . أى : مذموما من الخلق والخالق ، محسورا ، أى : مغموما منقطعا عن الوصول إلى مبتغاك بسبب ضياع مالك ، واحتياجك إلى غيرك .
قال الآلوسى ما ملخصه : فالآية الكريمة تحض على التوسط ، وذلك هو الجود الممدوح ، فخير الأمور أوساطها . وأخرجه أحمد وغيره عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وبمناسبة التبذير والنهي عنه يأمر بالتوسط في الإنفاق كافة :
( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) . .
والتوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي ، والغلو كالتفريط يخل بالتوازن . والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير ؛ فيرسم البخل يدا مغلولة إلى العنق ، ويرسم الإسراف يدا مبسوطة كل البسط لا تمسك شيئا ، ويرسم نهاية البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور . والحسير في اللغة الدابة تعجز عن السير فتقف ضعفا وعجزا . فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف . وكذلك المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير . ملوما في الحالتين على البخل وعلى السرف ، وخير الأمور الوسط .
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر ، نهى عنهما آمرا بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم . { فتقعُد ملوما } فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالإسراف وسوء التدبير . { محسورا } نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا بلغ منه . وعن جابر ( بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس أتاه صبي فقال : إن أمي تستكسيك درعاً ، فقال صلى الله عليه وسلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا ، فذهب إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروه للصلاة فلم يخرج فأنزل الله ذلك ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.