2- هو سبحانه الذي يملك - وحده - السماوات والأرض ، والمنزه عن اتخاذ الولد ، ولم يكن له أي شريك في ملكه ، وقد خلق كل شيء وقدَّره تقديراً دقيقاً بنواميس تكفل له أداء مهمته بنظام{[155]} .
ثم وصف - سبحانه - ذاته بجملة من الصفات التى توجب له العبادة والطاعة فقال : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } فهو الخالق لهما . وهو المالك لأمرهما ، لا يشاركه فى ذلك مشارك .
والجملة الكريمة خبر لمبتدأ محذوف . أو بدل من قوله : { الذي نَزَّلَ } .
{ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } فهو - سبحانه - منزه عن ذلك وعن كل ما من شأنه أن يشبه الحوادث .
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } بل هو المالك وحده لكل شىء فى هذا الوجود .
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أى : وهو - سبحانه - الذى خلق كل شىء فى هذا الوجود خلقا متقنا حكيما بديعا فى هيئته ، وفى زمانه ، وفى مكانه ، وفى وظيفته ، على حسب ما تقتضيه إرادته وحكمته . وصدق الله إذ يقول : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } فجملة " فقدره تقديرا " بيان لما اشتمل عليه هذا الخلق من إحسان واتقان فهو - سبحانه - لم يكتف بمجرد إيجاد الشىء من العدم ، وإنما أوجده فى تلك الصورة البديعة التى عبر عنها فى آية أخرى بقوله : { . . . صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ . . } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : فى الخلق معنى التقدير . فما معنى قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } .
قلت : معناه أنه أحدث كل شىء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية ، فقدره وهيأه لما يصلح له . مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذى تراه ، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به فى بابى الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد ، جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير . . .
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده . . ( الذي له ملك السماوات والأرض . ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
ومرة أخرى لا يذكر لفظ الجلالة ولكن يذكر الاسم الموصول لإبراز صلته الدالة على صفات يراد توكيدها في هذا المقام :
( الذي له ملك السماوات والأرض ) . . فله السيطرة المطلقة على السماوات والأرض . سيطرة الملكية والاستعلاء ، وسيطرة التصريف والتدبير ، وسيطرة التبديل والتغيير .
( ولم يتخذ ولدا ) . . فالتناسل ناموس من النواميس التي خلقها الله لامتداد الحياة ؛ وهو سبحانه باق لا يفنى ، قادر لا يحتاج .
( ولم يكن له شريك في الملك ) . . وكل ما في السماوات والأرض شاهد على وحدة التصميم ، ووحدة الناموس ، ووحدة التصريف .
( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . قدر حجمه وشكله . وقدر وظيفته وعمله . وقدر زمانه ومكانه . وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير .
وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه ، لمما يدعو إلى الدهشة حقا ، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا . ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره ، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير . وكلما تقدم العلم البشري فكشف عن بعض جوانب التناسق العجيب في قوانين الكون ونسبه ومفرداته اتسع تصور البشر لمعنى ذلك النص القرآني الهائل : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
يقول [ أ . كريسي موريسون ] رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك في كتابه بعنوان : " الإنسان لا يقوم وحده " .
" ومما يدعو إلى الدهشة أن يكون تنظيم الطبيعة على هذا الشكل ، بالغا هذه الدقة الفائقة . لأنه لو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام ، لامتص ثاني أكسيد الكربون الأوكسجين ، ولما أمكن وجود حياة النبات .
" ولو كان الهواء أرفع كثيرا مما هو فإن بعض الشهب التي تحترق الآن بالملايين في الهواء الخارجي كانت تضرب جميع أجزاء الكرة الأرضية ، وهي تسير بسرعة تترواح بين ستة أميال وأربعين ميلا في الثانية . وكان في إمكانها أن تشعل كل شيء قابل للاحتراق . ولو كانت تسير ببطء رصاصة البندقية لارتطمت كلها بالأرض ، ولكانت العاقبة مروعة . أما الإنسان فإن اصطدامه بشهاب ضئيل يسير بسرعة تفوق سرعة الرصاصة تسعين مرة كان يمزقه إربا من مجرد حرارة مروره !
" إن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع ، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات ، دون أن تضر بالإنسان ، إلا إذا عرض نفسه لها مدة أطول من اللازم ، وعلى الرغم من الانبعاثات الغازية من الأرض طول الدهور - ومعظهما سام - فإن الهواء باق دون تلويث في الواقع ، ودون تغير في نسبته المتوازنة اللازمة لوجود الإنسان . وعجلة الموازنة العظيمة هي تلك الكتلة الفسيحة من الماء - أي المحيط - الذي استمدت منه الحياة والغذاء والمطر والمناخ المعتدل ، والنباتات . وأخيرا الإنسان نفسه . . . " .
" لو كان الأوكسجين بنسبة 50 في المائة مثلا أو أكثر في الهواء بدلا من 21 في المائة فإن جميع المواد القابلة للاحتراق في العالم تصبح عرضة للاشتعال ، لدرجة أن أول شرارة من البرق تصيب شجرة لا بد أن تلهب الغابة حتى لتكاد تنفجر . ولو أن نسبة الأوكسجين في الهواء قد هبطت إلى 10 في المائة أو أقل ، فإن الحياة ربما طابقت نفسها عليها في خلال الدهور . ولكن في هذه الحالة كان القليل من عناصر المدنية التي ألفها الإنسان - كالنار مثلا - تتوافر له " .
" ما أعجب نظام الضوابط والموازنات الذي منع أي حيوان - مهما يكن من وحشيته أو ضخامته أو مكره - من السيطرة على العالم ، منذ عصر الحيوانات القشرية المتجمدة ! غير أن الإنسان وحده قد قلب هذا التوازن الذي للطبيعة بنقله النباتات والحيوانات من مكان إلى آخر . وسرعان ما لقي جزاءه القاسي على ذلك ، ماثلا في تطور آفات الحيوان والحشرات والنبات .
" والواقعة الآتية فيها مثل بارز على أهمية تلك الضوابط فيما يتعلق بوجود الإنسان . فمنذ سنوات عديدة زرع نوع من الصبار في استراليا . كسياج وقائي . ولكن هذا الزرع مضى في سبيله حتى غطى مساحة تقرب من مساحة انجلترا ، وزاحم أهل المدن والقرى ، وأتلف مزارعهم ، وحال دون الزراعة . ولم يجد الأهالي وسيلة تصده عن الانتشار ؛ وصارت أستراليا في خطر من اكتساحها بجيش من الزرع صامت ، يتقدم في سبيله دون عائق !
" وطاف علماء الحشرات بنواحي العالم حتى وجدوا أخيرا حشرة لا تعيش إلا على ذلك الصبار ، ولا تتغذى بغيره ، وهي سريعة الانتشار ، وليس لها عدو يعوقها في استراليا . وما لبثت هذه الحشرة حتى تغلبت على الصبار . ثم تراجعت ، ولم يبق منها سوى بقية قليلة للوقاية ، تكفي لصد الصبار عن الانتشار إلى الأبد .
" وهكذا توافرت الضوابط والموازين ، وكانت دائما مجدية .
" ولماذا لم تسيطر بعوضة الملاريا على العالم إلى درجة كان أجدادنا يموتون معها ، أو يكسبون مناعة منها ? ومثل ذلك أيضا يمكن أن يقال عن بعوضة الحمى الصفراء التي تقدمت شمالا في أحد الفصول حتى وصلت إلى نيويورك . كذلك البعوض كثير في المنطقة المتجمدة . ولماذا لم تتطور ذبابة تسي تسي حتى تستطيع أن تعيش أيضا في غير مناطقها الحارة ، وتمحو الجنس البشري من الوجود ? يكفي أن يذكر الإنسان الطاعون والأوبئة والجراثيم الفاتكة التي لم يكن له وقاء منها حتى الأمس القريب ، وأن يذكر كذلك ما كان له من جهل تام بقواعد الوقاية الصحية ، ليعلم أن بقاء الجنس البشري رغم ذلك يدعو حقا إلى الدهشة ! . . .
" إن الحشرات ليست لها رئتان كما للإنسان ؛ ولكنها تتنفس عن طريق أنابيب . وحين تنمو الحشرات وتكبر ، لا تقدر تلك الأنابيب أن تجاريها في نسبة تزايد حجمها . ومن ثم لم توجد قط حشرة أطول من بضع بوصات ، ولم يطل جناح حشرة إلا قليلا . وبفضل جهاز تكوين الحشرات وطريقة تنفسها لم يكن في الإمكان وجود حشرة ضخمة . وهذا الحد من نمو الحشرات قد كبح جماحها كلها ، ومنعها من السيطرة على العالم . ولولا وجود هذا الضابط الطبيعي لما أمكن وجود الإنسان على ظهر الأرض . وتصور إنسانا فطريا يلاقي دبورا يضاهي الأسد في ضخامته ، أو عنكبوتا في مثل هذا الحجم !
" ولم يذكر إلا القليل عن التنظيمات الأخرى المدهشة في فيزيولوجيا الحيوانات ، والتي بدونها ما كان أي حيوان - بل كذلك أي نبات - يمكن أن يبقى في الوجود . . . الخ " .
وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم ، شيء من تقدير الله العجيب في الخلق ، وتدبيره الدقيق في الكون ، ويدرك البشر شيئا من مدلولات قوله في الفرقان الذي نزله على عبده : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
أي : الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، وهو الذي يحيي ويميت ، وهكذا قال هاهنا : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ } ، فَنزه نفسه عن الولد ، وعن الشريك .
ثم أخبر أنه : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } أي : كل شيء مما سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره [ وتسخيره ]{[21397]} ، وتدبيره وتقديره{[21398]} .
أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربعُ بطريق تعريف الموصوليَّة لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصافُ الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة ؛ وإذ قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على مَن عُرِف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هُوَ خالق كل شيء كما في قوله : { قل مَن رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله } الآياتتِ من سورة المؤمنين ( 86 ، 87 ) ، ولكنهم يثبتون لله ولَداً وشريكاً في الملك .
ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما مَعهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلَّمَين كالدليل أوّلاً والنتيجة آخراً ، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولَداً ولا أن يتخذ شريكاً لأن ملكه العظيم يقتضي غِنَاهُ المطلقَ فيقتضي أن يكون اتخاذه ولداً وشريكاً عبثاً إذ لا غاية له ، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس .
فقوله : { الذي له ملك السموات والأرض } بدل مِن { الذي نزّل الفرقان } [ الفرقان : 1 ] .
وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى ، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانيَّة .
وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها .
والخلق : الإيجاد ، أي أوجد كل موْجود من عظيم الأشياء وحقيرها . وفُرع على { خلق كل شيء فقدره تقديراً } لأنه دليل على إتقان الخلق إتقاناً يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال .
ومعنى { قدّره } جعله على مقدار وحدَ معيّن لا مجرد مصادفة ، أي خلقه مقدراً ، أي محكماً مضبوطاً صالحاً لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل . وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها كقوله : { إنا كلَّ شيء خلقناه بقَدَر } [ القمر : 49 ] . وقد تقدم في قوله تعالى : { أنزل من السماء ماء فسالت أوديةً بقَدَرِها } في سورة الرعد ( 17 ) . وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله : تقديراً } للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير .
وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم عظم الرب عز وجل نفسه عن شركهم، فقال سبحانه: {الذي له ملك السماوات والأرض} وحده {ولم يتخذ ولدا} لقول اليهود والنصارى: عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله، {ولم يكن له شريك في الملك} من الملائكة، وذلك أن العرب، قالوا: إن لله عز وجل شريكا من الملائكة، فعبدوهم، فأكذبهم الله عز وجل، نظيرها في آخر بني إسرائيل، {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}، كما ينبغي أن يخلقه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ"... "الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ "ف «الذي» من نعت «الذي» الأولى... ويعني بقوله: "الّذِي لَهُ مُلْكُ السّمَوَاتِ والأرْضِ": الذي له سلطان السموات والأرض يُنْفِذ في جميعها أمره وقضاءه، ويُمْضِي في كلها أحكامه. يقول: فحقّ على من كان كذلك أن يطيعه أهل مملكته ومَنْ في سلطانه ولا يعصُوه، يقول: فلا تعصُوا نذيري إليكم أيها الناس، واتبعوه، واعملوا بما جاءكم به من الحقّ.
"ولَمْ يَتّخِذْ وَلَدا "يقول تكذيبا لمن أضاف إليه الولد وقال الملائكة بنات الله: ما اتخذ الذي نزّل الفرقان على عبده ولدا، فمن أضاف إليه ولدا فقد كذب وافترى على ربه. "ولَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ" يقول تكذيبا لمن كان يضيف الأُلوهة إلى الأصنام ويعبدها من دون الله من مشركي العرب ويقول في تلبيته «لَبّيك لا شريك لك، إلاّ شريكا هو لك، تملكه وما ملك»: كذب قائلو هذا القول، ما كان لله شريك في مُلكه وسلطانه، فيصلح أن يُعْبد من دونه، يقول تعالى ذكره: فأفرِدوا أيها الناس لربكم الذي نزّل الفرقان على عبده محمد نبيه صلى الله عليه وسلم الألُوهة، وأخلِصوا له العبادة، دون كلّ ما تعبدونه من دونه من الآلهة والأصنام والملائكة والجنّ والإنس، فإن كلّ ذلك خلقه وفي ملكه، فلا تصلح العبادة إلا لله الذي هو مالك جميع ذلك. وقوله: "وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ" يقول تعالى ذكره: وخلق الذي نزل على محمد الفرقان كل شيء، فالأشياء كلها خلقه ومِلْكه، وعلى المماليك طاعة مالكهم وخدمة سيدهم دون غيره. يقول: وأنا خالقكم ومالككم، فأخلصوا لي العبادة دون غيري. وقوله: "فَقَدّرَهُ تَقْدِيرا" يقول: فسوّى كلّ ما خلق وهيأه لما يصلح له، فلا خَلَل فيه ولا تفاوت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
..."تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" ووجهها، والله أعلم: أي تعالى عن أن يكون النذير الذي بعثه إليهم، إنما بعثه لحاجة نفسه: لجر منفعة إليه أو لدفع مضرة عنه على ما يبعث ملوك الأرض من الرسل لحوائج أنفسهم: إما لجر منفعة إليهم أو لدفع مضرة عنهم.
ولكن إنما يبعث النذير والبشير إلى الخلق لمنافع أنفسهم، إذ لا يحتمل أن يكون من له ملك السموات والأرض أن يبعث النذير والبشير لمنافع نفسه ولحاجته لغناه...
وجائز أن يكون قوله: "تبارك" أي تعالى عن أن يتخذ ولدا أو شريكا في الملك على ما نسبوا إليه من الولد أو الشريك، فقال: تعالى عن أن يكون الولد أو الشريك؛ إذ له ملك السموات والأرض. فالولد في الشاهد إنما يتخذ لإحدى خلال ثلاث، وقد ذكرنا.
وبعد فإن الولد في الشاهد إنما يكون من جنس الوالد ومن جوهره، ويكون من أشكاله. وكل ذي شكل تكون فيه منفعة وآفة. و كذلك الشريك إنما يكون من جنسه ومن شكله، وإنما تقع الحاجة إلى الولد أو الشريك إما لعجز أو آفة.
فإذا كان الله، سبحانه، "الذي له ملك السموات والأرض" هو خالقها، فأنى تقع له الحاجة إلى الولد أو الشريك؟...
وقوله تعالى: "فقدره تقديرا" جائز أن يكون قوله: "فقدره تقديرا" لحكمة، أو قدره تقديرا لوحدانيته وألوهيته، أو قدره تقديرا؛ أي جعل له حدا؛ لو اجتمع الخلائق على ذلك ما عرفوا قدره ولا حده من صلاح وغيره ما لو لم يقدر ذلك لفسد.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تَفَرَّدَ بالمُلْكِ فلا شريكَ يساهمه، وتَوَحدَ بالجلالِ فلا نظيرَ يُقاسِمُه؛ فهو الواحد بلا قسيم في ذاته، ولا شريك في مخلوقاتِه، ولا شبيهٍ في حَقِّه ولا في صفاته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: في الخلق معنى التقدير، فما معنى قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} كأنه قال: وقدّر كل شيء فقدّره؟ قلت: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية، فقدّره وهيأه لما يصلح له، مثاله: أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدّر المسوّى الذي تراه، فقدّره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الجبلة المستوية المقدّرة بأمثلة الحكمة والتدبير، فقدّره لأمر مّا، ومصلحة مطابقاً لما قدر له غير متجاف عنه، أو سمي إحداث الله خلقاً لأنه لا يحدث شيئاً لحكمته إلاّ على وجه التقدير من غير تفاوت، فإذا قيل: خلق الله كذا فهو بمنزلة قولك: أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق، فكأنه قيل: وأوجد كل شيء فقدّره في إيجاده لم يوجده متفاوتاً. وقيل: فجعل له غاية ومنتهى. ومعناه: فقدّره للبقاء إلى أمد معلوم.
... {له ما في السماوات والأرض} إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه بزمان حدوثها وزمان بقائها في ماهيتها وفي وجودها، وأنه سبحانه هو المتصرف فيها كيف يشاء.
قوله: {ولم يتخذ ولدا} فبين سبحانه أنه هو المعبود أبدا، ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه. فتكون هذه الصفة كالمؤكدة لقوله: {تبارك} ولقوله: {الذي له ملك السماوات والأرض} وهذا كالرد على النصارى...
{ولم يكن له شريك في الملك} والمراد أنه هو المنفرد بالإلهية وإذا عرف العبد ذلك انقطع خوفه ورجاؤه عن الكل...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{فقدره تقديرا} الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم، والتقدير عبارة عن إتقان الصنعة، وتخصيص كل مخلوق بمقداره، وصفته، وزمانه ومكانه، ومصلحته، وأجله، وغير ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تقدم ذكر منزل الفرقان سبحانه، وذكر الفرقان والمنزل عليه على طريق الإجمال، أتبع ذلك تفصيله على الترتيب، فبدأ بوصف المنزل سبحانه بما هو أدل دليل على إرادة التعميم في الرسالة لكل من يريد، فقال: {الذي له} أي وحده {ملك السماوات والأرض} فلا إنكار لأن يرسل رسولاً إلى كل من فيهما {ولم يتخذ ولداً} ليتكبر على رسوله {ولم يكن له شريك في الملك} ليناقضه في الرسالة أو يقاسمه إياها، فيكون بعض الخلق خارجاً عن رسالته، أو مراعياً لأمر غير أمره.
ولما كان وقوف الشيء عند حد -بحيث لا يقدر أن يتعداه إلى حد شيء آخر سواه، فهذا حيوان لا يقدر على جعل نفسه جماداً ولا أعلى من الحيوان، وهذا جماد لا يمكنه جعل نفسه حيواناً ولا أسفل من رتبة الجماد إلى غير ذلك مما يعجز الخلق عن شرحه دالاً على أنه مخلوق مربوب، قال تعالى: {وخلق} أي أحدث إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية {كل شيء} أي مما ادعى فيه الولدية أو الشرك وغيره.
ولما كان قد سوى كل شيء لما يصلح له وهيأه لذلك، قال شارحاً ومحققاً لمعنى "خلق ": {فقدره} في إيجاده من غير تفاوت {تقديراً} أي لا يمكن ذلك الشيء مجاوزته فيما خلق لأجله وهيئ ويسر له إلى غيره بوجه من الوجوه.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ} أي: له التصرف فيهما وحده، وجميع من فيهما مماليك وعبيد له مذعنون لعظمته خاضعون لربوبيته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وخلق كل شيء فقدره تقديرا). قدر حجمه وشكله. وقدر وظيفته وعمله. وقدر زمانه ومكانه. وقدر تناسقه مع غيره من أفراد هذا الوجود الكبير. وإن تركيب هذا الكون وتركيب كل شيء فيه، لمما يدعو إلى الدهشة حقا، وينفي فكرة المصادفة نفيا باتا. ويظهر التقدير الدقيق الذي يعجز البشر عن تتبع مظاهره، في جانب واحد من جوانب هذا الكون الكبير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والخلق: الإيجاد، أي أوجد كل موْجود من عظيم الأشياء وحقيرها. وفُرع على {خلق كل شيء فقدره تقديراً} لأنه دليل على إتقان الخلق إتقاناً يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال. ومعنى {قدّره} جعله على مقدار وحدَ معيّن لا مجرد مصادفة، أي خلقه مقدراً، أي محكماً مضبوطاً صالحاً لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل. وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وخلق كل شيء فقدره تقديرا} إشارة إلى أنه ما من شيء خلقه في هذا الكون، كبر شأنه أو صغر، طال حجمه أو قصر، إلا وقد حددت الحكمة الإلهية شكله وحجمه، وطبيعته ووظيفته، والفائدة المترتبة على وجوده، والعلاقة التي تربطه بغيره من الكائنات، كل ذلك في نظام متناسق ثابت لا خلل فيه ولا اضطراب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لأن الولد مظهر حاجة للاستعانة به على مواقع الضعف، وللامتداد من خلاله في الحياة من بعده. والله هو الذي يملك القوّة كلها في الكون، فأيّ حاجة به إلى معين، وهو الحيّ الدائم الذي لا زوال له...
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ} يساويه ويعاونه، أو يضادّه، فلا شيء لأحدٍ معه، فهو الذي يملك السماوات والأرض وما فيهن وما فوقهن وما بينهن وما تحتهن...خلقه من سننٍ كونيةٍ للوجود، وجعلها خاضعةً لتدبيره، وجاريةً على نهج حكمته.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وبالالتفات إلى تقدم «له» على «ملك السموات» الذي هو دليل الحصر في اللغة العربية يستفاد أن الحكومة الواقعية والحاكمية المطلقة في السماوات والأرض منحصرة به تبارك وتعالى، ذلك لأن حكومته عامّة وخالدة وواقعية، بخلاف حاكمية غيره التي هي جزئية ومتزلزلة. وفي نفس الوقت فهي مرتبطة به سبحانه. ثمّ يتناول تفنيد عقائد المشركين واحدة بعد الأُخرى، فيقول تعالى: (ولم يتخذ ولداً)...فإن الحاجة إلى الولد من حيث الأصل إمّا لأجل الاستفادة من طاقته البشرية في الأعمال، أو لأجل الاستعانة به حال الضعف والعجز والشيخوخة، أو لأجل الاستئناس به في حال الوحدة، ومن المعلوم أن ذاته المقدسة عز وجل منزّهة عن أي واحد من تلك الاحتياجات.