المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

5- وإن النصر بيد الله ، ومقاليد الأمور إليه ، وإنَّ حال المؤمنين في خلافهم حول الغنائم كحالهم عندما أمرك الله بالخروج لقتال المشركين ببدر ، وهو حق ثابت ، فإن فريقاً من أولئك المؤمنين كانوا كارهين للقتال مؤكدين كراهيتهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

ثم أخذت السورة - بعد هذا الافتتاح المشتمل على أروع استهلال وأبلغه وأحكمه . . في الحديث عن الغزوة التي كان من ثمارها تلك الأنفال . فاستعرضت مجمل أحداثها ، وصورت نفوس فريق من المؤمنين الذين اشتركوا فيها أكمل تصوير ، استمع معى - أخى القارئ - بتدبر وتعقل إلى قوله - تعالى - : { كَمَآ أَخْرَجَكَ . . . كَرِهَ المجرمون } .

الكاف في قوله - تعالى - : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } بمعنى مثل ، أى : للتشبيه وهى خبر لمبتدأ محذوف هو المشبه ، وما بعدها هو المشبه به ، ووجه الشبه مطلق الكراهة ، وما ترتب على ذلك من خير للمؤمنين .

والمعنى : حال بعض أهل بدل في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية ، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال ، مع ما في هذه القسمة والقتال من خير وبركة .

ونحن عندما نستعرض أحداث غزوة بدر ، نرى أنه قد حدث فيها أمران يدلان على عدم الرضا من فريق من الصحابة ، ثم أعقبها الرضا والإِذعان والتسليم لحكم الله ورسوله .

أما الأمر الأول فهو أن فريقا من الصحابة - وأكثرهم من الشبان - كانوا يرون أن قسمة الغنائم بالسوية فيها إجحاف بحقهم ، لأنهم هم الذين قاموا بالنصيب الأوفر في القتال ، وأن غيرهم لم يكن له بلاؤهم - كما سبق أن بينا في أسلوب نزول قوله - تعالى - { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قسم غنائم بدر بين الجميع بالسوية ، كما أمره الله - تعالى - .

وكان هذا التقسيم خيراً للمؤمنين ، إذ أصلح الله به بينهم ، وردهم إلى حالة الرضا والصفاء . .

وأما الأمر الثانى : فهو أن جماعة منهم كرهوا قتال قريش بعد نجاة العير التي خرجوا من أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيته لذلك أنهم خرجوا أجل الحصول عليها ، وسبب كراهيتهم لذلك أنهم خرجوا بدون استعداد للقتال ، لا من حيث العدد ولا من حيث العدد .

ولكنهم استجابوا بعد قليل لما نصحهم به رسولهم - صلى الله عليه وسلم - من وجوب قتال قريش . . وكان في هذه الاستجابة نص الإِسلام نصر الإِسلام ، ودحر الطغيان .

قال ابن كثير : روى الحافظ بن مردويه - بسنده - عن أبى أيوب الأنصارى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن بالمدينة : " " إنى أخبرت عن عير أبى سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمنا إياها ؟ فقلنا نعم . فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا :

" ما ترون في قتال القوم ؟ إنهم قد أخبروا بخروجكم " ؟ فقلنا : ما لنا طاقة بقتال العدو ولكننا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في تقال القوم " ؟ فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ . . } ولكن إذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " .

وفى رواية أن أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ تكلموا بكلام سر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

هذا ، وما قررناه قبل ذلك من أن الكاف في قوله - تعالى - { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ . . } بمعنى مثل ، هو ما نرجحه من بين أقوال المفسرين التي أوصلها بعضهم إلى عشرين قولا .

قال الجمل ، قوله { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ . . } فيه عشرون وجهاً ، أحدهما : أن الكاف نعت لمصدر محذوف تقديره ؛ الأنفعال ثابتة لله ثوبتاً لكما أخرجك ربك ، أى : ثبوتاً بالحق كإخراجك من بيتك ، يعنى أنه لا مرية في ذلك .

الثانى : أن تقديره وأصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك ، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد .

الثالث : تقديره : وأطيعوا الله ورسوله طاعة ثابتة محققة كما أخرجك أى : كما أن إخراج الله إياك لا مرية فيه ولا شبهة . الخ . .

والحق أن معظم الوجوه النحوية التي ذكرها الجمل وغيره من المفسرين - كأبى حيان والآلوسى - أقول : إن معظم هذه الوجوه يبدو عليها التكلف ومجانبة الصواب .

ورحم الله صاحب الكشاف فقد أهمل أكثر ما ذكره المفسرون في ذلك ، واكتفى بوجهين فقال :

قوله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } . فيه وجهان أحدهما : أن يرتفع محل الكاف على أنه مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال كحال إخراجك . يعنى أن حالهم في كراهية ما رأيت من تنفيل الغزوة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب .

والثانى : أن ينتصب على أنه صفة مقدر الفعل المقدر في قوله : { الأنفال للَّهِ والرسول } أى : الأنفال استقرت لله والرسول ، وثبتت مع كراهتهم ثباتاً مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك وهم كارهون .

والوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما صاحب الكشاف هو الذي نميل إليه ، وهو الذي ذكرناه قبل ذلك بصورة أكثر تفصيلا .

وأضاف - سبحانه - الإِخراج إلى ذاته فقال : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } للإِشعار بأن هذا الإِخراج كان بوحى منه - سبحانه - وبأنه هو الراعى له في هذا الخروج .

والمراد بالبيت في قوله : { مِن بَيْتِكَ } مسكنه - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أو المراد المدينة نفسها ، لأنها مثواه ومستقرة ، فهى في اختصاصها به كاختصاص البيت بساكنه .

وقوله : { بالحق } متعلق بقوله : { أَخْرَجَكَ } والباء للسببية ، أى : أخرجك بسبب نصرة الحق ، وإعلاء كلمة الدين ، وإزهاق باطل المبطلين .

ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من مفعول أخرجك ، وتكون الباء للملابسة ، أى : أخرجك إخراجاً متلبساً بالحق الذي لا يحوم حوله باطل .

قال الآلوسى : وقوله : { وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } ، أى : للخروج ، إما لعدم الاستعداد للقتال ، أو للميل للغنيمة ، أو للنفرة الطبيعية عنه ، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار ، فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة .

والجملة في موضع الحال ، وهى حال مقدرة ؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج .

والمعنى الإِجمال للآية الكريمة : حال بعض المسلمين في بدر في كراهة قسمة الغنيمة بالسوية بينهم ، مثل حال فريق منهم في كراهة الخروج للقتال ، مع أنه قد ثبت أن هذه القسمة ولك القتال ، كان فيهما الخير لهم ، إذ الخير فيما قدره الله وأراده ، لا فيما يظنون .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

5

( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون . يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون . وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ، وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ؛ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين . ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ) . .

إن رد الأنفال لله والرسول ، وقسمتها بينهم على السواء ، وكراهة بعض المؤمنين لهذه التسوية . . ومن قبل كراهة بعضهم لاختصاص بعض الشباب بالنصيب الأوفر منها . . إنها شأن يشبه شأن إخراج الله لك من بيتك - بالحق - لمقاتلة الفرقة ذات الشوكة ؛ وكراهة بعض المؤمنين للقتال . . وبين أيديهم العاقبة التي أنتجت هذه الأنفال . .

ولقد سبق لنا في استعراض وقائع الغزوة - من كتب السيرة - أن أبا بكر وعمر قاما فأحسنا حين استشار رسول الله [ ص ] الناس معه في أمر القتال ، بعدما أفلتت القافلة ، وتبين أن قريشاً قد جاءت بشوكتها وقوتها . وأن المقداد بن عمرو قام فقال : يا رسول الله ، امض لأمر الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيها : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون . . . الخ " . وأن هذا كان كلام المهاجرين . فلما كرر رسول الله [ ص ] القول على الناس فهم الأنصار أنه إنما يعنيهم ، فقام سعد بن معاذ فقال كلاماً طويلاً قاطعاً مطمئناً . .

ولكن هذا الذي قاله أبو بكر وعمر ، والذي قاله المقداد ، والذي قاله سعد بن معاذ - رضي الله عنهم - لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع رسول الله [ ص ] فلقد كره بعضهم القتال ، وعارض فيه ، لأنهم لم يستعدوا لقتال ، إنما خرجوا لملاقاة الفئة الضعيفة التي تحرس العير ؛ فلما أن علموا أن قريشاً قد نفرت بخيلها ورجلها ، وشجعانها وفرسانها ، كرهوا لقاءها كراهية شديدة ، هي هذه الكراهية التي يرسم التعبير القرآني صورتها بطريقة القرآن الفريدة :

( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ) !

روى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره - بإسناده - عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول الله [ ص ] ونحن بالمدينة : " إني أخبرت عن عير أبي سفيان بأنها مقبلة ، فهل لكم أن نخرج قِبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها ? " فقلنا : نعم . فخرج وخرجنا . فلما سرنا يوماً أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ? إنهم قد أخبروا بخروجكم ! " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ! ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ? " فقلنا مثل ذلك : فقال المقداد بن عمرو : إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : ذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . . . فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد بن عمرو أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ! قال : فأنزل الله على رسوله [ ص ] : ( كما أخرجك ربك من بيتك بالحق ، وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

قال الإمام أبو جعفر الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه " الكاف " في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم : شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله .

ثم روى عن عكرمة نحو هذا .

ومعنى هذا أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم ، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم{[12667]} فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة - وهم النفير{[12668]} النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم - فكان عاقبة ، كراهتكم للقتال - بأن قدَّره لكم ، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد - رَشَدَا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 216 ]

قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم ، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قال : كذلك يجادلونك في الحق .

وقال السُّدِّي : أنزل الله في خروجه{[12669]} إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } لطلب المشركين { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ }

وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجتنا للعِير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له .

قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان ، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام ، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم ، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع ، ما بين التسعمائة إلى الألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا ، وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين

ونصرهم على عدوهم ، والتفرقة{[12670]} بين الحق والباطل ، كما سيأتي بيانه .

والغرض : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير ، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين : إما العير وإما النَّفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ؛ لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }

قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا ؟ " فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]قال : فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال : فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث{[12671]}

ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن لهيعة ، بنحوه .

ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، حتى إذا كان بالرَّوْحاء ، خطب الناس فقال : " كيف تَرَون ؟ " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا . قال : ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر . ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذي أكرمك [ بالحق ]{[12672]} وأنزل عليك الكتاب ، ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت [ بنا ]{[12673]} حتى تأتي " بَرْك الغماد " من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك ، فامض له ، فَصِلْ حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الآيات .

وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر ، أمر الناس فعبئوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }

وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال . وقال محمد بن إسحاق : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ] }{[12674]} أي : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .

وقال السُّدِّي : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به .

قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى بذلك المشركين .

حدثني يونس ، أنبأنا ابن وَهْب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } حين يدعون إلى الإسلام { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر .

ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ؛ لأن الذي قبل قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين .

وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق ، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم . .

وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل ، عن سِمَال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب - قال عبد الرزاق : وهو أسير في وثاقه - ثم اتفقا : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم ؟ قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك{[12675]}

إسناد جيد ، ولم يخرجه{[12676]}

ومعنى قوله تعالى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي : يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال ، تكون لهم وهي العير { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي دبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ] [ البقرة : 216 ] }{[12677]}

وقال محمد بن إسحاق ، رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر - قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم ، وقال : " هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها " فانتدب الناسُ ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان : أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فَحَذِرَ عند ذلك ، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى أهل مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له " ذَفرَان " ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام عمر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ]ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما{[12678]} مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى " بَرْك الغِماد " - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أشيروا علي أيها الناس " - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عَدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : " أجل " قال : فقال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت . فوالذي بعثك بالحق ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر عند الحرب ، صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله [ أن ]{[12679]} يريك منا ما تَقَرّ به عينك ، فسِرْ بنا على بركة الله . فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه ذلك ، ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم " {[12680]}

وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق .


[12667]:في ك، م، أ: "صلوات الله وسلامه عليه".
[12668]:في د: "وهو".
[12669]:في د: "خروجهم".
[12670]:في د: "التفريق".
[12671]:رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/174).
[12672]:زيادة من م.
[12673]:زيادة من أ.
[12674]:زيادة من أ.
[12675]:المسند (1/229) من رواية يحيى بن أبي بكير و (1/314) من رواية عبد الرزاق.
[12676]:في ك، م، أ: "يخرجوه".
[12677]:زيادة من م، أ.
[12678]:في د، ك، م: "معكم".
[12679]:زيادة من م.
[12680]:رواه الطبري في تفسيره (13/399).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

{ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق } خبر مبتدأ محذوف تقديره : هذه الحال في كراهتهم إياها كحال إخراجك للحرب في كراهتهم له ، وهي كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة . أو صفة مصدر الفعل المقدر في قوله : { لله والرسول } أي الأنفال ثبتت لله والرسول صلى الله عليه وسلم مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراجك ربك من بيتك ، يعني المدينة لأنها مهاجرة ومسكنه أو بيته فيها مع كراهتهم . { وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } في موقع الحال أي أخرجك في حال كراهتهم ، وذلك أن عير قريش أقبلت من الشأم وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل وعمرو بن هشام ، فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال ، فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة ، فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول ، عيركم أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا ، وقد رأت قبل ذلك بثلاث عاتكة بنت عبد المطلب أن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت في مكة إلا أصابه شيء منها ، فحدثت بها العباس وبلغ ذلك أبا جهل فقال : ما نرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم ، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة ومضى بهم إلى بدر وهو ماء كانت العرب تجتمع عليه لسوقهم يوما في السنة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي ذفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما العير وإما قريش ، فاستشار فيه أصحابه فقال بعضهم : هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنما خرجنا للعير ، فردد عليهم وقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل ، فقالوا : يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقالا فأحسنا ، ثم قام سعد بن عبادة فقال : انظر أمرك فامض فيه فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار ، ثم قال مقداد بن عمرو : امض لما أمرك الله فأنا معك حيثما أحببت ، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا أنا معكما مقاتلون ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " أشيروا عليّ أيها الناس " وهو يريد الأنصار لأنهم كانوا ( عددهم ) وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم برآء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم ، فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة ، فقام سعد بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال : أجل ، قال : آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا ، وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى ، فنشطه قوله ثم قال : " سيروا على بركة الله تعالى وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " . وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما فرغ من بدر قيل له : عليك بالعير فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له " لم " فقال : لأن وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك ، فكره بعضهم قوله .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{كَمَآ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَيۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقٗا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ لَكَٰرِهُونَ} (5)

اختلف الناس في الشيء الذي تتعلق به الكاف من قوله { كما } حسبما نبين من الأقوال التي أنا ذاكرها بعد بحول الله ، والذي يلتئم به المعنى ويحسن سرد الألفاظ قولان ، وأنا أبدأ بهما ، قال الفراء : التقدير : امض لأمرك في الغنائم ونفل من شئت وإن كرهوا كما أخرجك ربك ، هذا نص قوله في هداية مكي رحمه الله ، والعبارة بقوله : امض لأمرك ونفل من شئت غير محررة ، وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال : إن هذه الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال ، كأنهم سألوا عن النفل وتشاجروا فأخرج الله ذلك عنهم ، فكانت فيه الخيرة كما كرهوا في هذه القصة انبعاث النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجه الله من بيته فكانت في ذلك الخيرة ، فتشاجرهم في النفل بمثابة كراهيتهم ها هنا للخروج ، وحكم الله في النفل بأنه لله وللرسول دونهم هو بمثابة إخراجه نبيه صلى الله عليه وسلم من بيته ، ثم كانت الخيرة في القصتين فيما صنع الله ، وعلى هذا التأويل يمكن أن يكون قوله { يجادلونك } كلاماً مستأنفاً يراد به الكفار ، أي يجادلونك في شريعة الإسلام من بعد ما تبين الحق فيها كأنما يساقون إلى الموت في الدعاء إلى الإيمان .

قال القاضي أبو محمد : وهذا الذي ذكرت من أن { يجادلونك } في الكفار منصوص{[1]} والقول الثاني قال مجاهد والكسائي وغيرهما : المعنى في هذه الآية كما أخرجك ربك من بيتك على كراهية من فريق منهم كذلك يجادلونك في قتال كفار مكة ويودون غير ذات الشوكة من بعد ما تبين لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يريدون هم .

قال القاضي أبو محمد : والتقدير على هذا التأويل يجادلونك في الحق مجادلة ككراهتهم إخراج ربك إياك من بيتك ، فالمجادلة على هذا التأويل بمثابة الكراهية وكذلك وقع التشبيه في المعنى ، وقائل هذه المقالة يقول إن المجادلين هم المؤمنون ، وقائل المقالة الأولى يقول إن المجادلين هم المشركون ، فهذان قولان مطردان يتم بهما المعنى ويحسن رصف اللفظ وقال الأخفش : الكاف نعت ل { حقاً } [ الأنفال : 4 ] ، والتقدير هم المؤمنون حقاً كما أخرجك .

قال القاضي أبو محمد : والمعنى على هذا التأويل كما تراه لا يتناسق وقيل الكاف في موضع رفع والتقدير : كما أخرجك ربك فاتقوا الله كأنه ابتداء وخبر .

قال القاضي أبو محمد : وهذا المعنى وضعه هذا المفسر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر ، وقال أبو عبيدة : هو قسم أي لهم درجات ومغفرة ورزق كريم كما أخرجك بتقدير والذي أخرجك ، فالكاف في معنى الواو و «ما » بمعنى الذي ، وقال الزجّاج : الكاف في موضع نصب والتقدير الأنفال ثابتة لك ثباتاً كما أخرجك ربك ، وقيل : الكاف في موضع التقدير لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ، هذا وعد حق كما أخرجك ، وقيل المعنى : وأصلحوا ذات بينكم ذلك خير لكم كما أخرجك ، والكاف نعت لخبر ابتداء محذوف ، وقيل التقدير : قل الأنفال لله والرسول كما أخرجك ، وهذا نحو أول قول ذكرته ، وقال عكرمة : التقدير وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما أخرجك ربك أي الطاعة خير لكم كما كان إخراجك خيراً لكم{[2]} ، وقوله { من بيتك } يريد من المدينة يثرب ، قاله جمهور المفسرين وقال ابن بكير : المعنى كما أخرجك من مكة وقت الهجرة .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.