ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أقرب الناس إليه ، ليكونوا قدوة لغيرهم . وليعلموا أن قرابتهم للرسول صلى الله عليه وسلم لن تنجيهم من عذاب الله ، ما استمروا على شركهم ، فقال - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } .
والعشيرة : أهل الرجل الذين يتكثر بهم ، و { الأقربين } هم أصحاب القرابة القريبة كالآباء والأبناء والإخوة والأخوات ، والأعمام والعمات وما يشبه ذلك .
وقد ذكر المفسرون أحاديث متعددة ، فيما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية ، منها : ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس قال : لما أنزل الله - تعالى - هذه الآية : " أتى النبى صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ، وهى كلمة يقوله المستغيث أو المنذر لقومه - فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجئ إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بنى عبد المطلب ، يا بنى فهر ، يا بنى لؤى ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم ، أكنتم مصدقى ؟ قالوا : نعم . قال : " فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد " .
فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ، وأنزل الله : ( تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) " .
قال الآلوسى : ووجه تخصيص عشيرته الأقربين بالذكر مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم : دفع توهم المحاباة ، وأن الاهتمام بشأنهم أهم ، وأن البداءة تكون بمن يلى ثم من بعده . .
أى : أن هذه الآية الكريمة ، لا تتعارض مع عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا ، لأن المقصود بها : البدء بإنذار عشيرته الأقربين ، ليكونوا أسوة لغيرهم .
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحذره من الشرك - وهو أبعد من يكون عنه - ليكون غيره أولى بالحذر . ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين . ويأمره بالتوكل على الله ، الذي يلحظه دائما ويرعاه :
( فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . وأنذر عشيرتك الأقربين . واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . فإن عصوك فقل : إني بريء مما تعملون . وتوكل على العزيز الرحيم . الذي يراك حين تقوم . وتقلبك في الساجدين . إنه هو السميع العليم ) . .
وحين يكون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] متوعدا بالعذاب مع المعذبين ، لو دعا مع الله إلها آخر . وهذا محال ولكنه فرض للتقريب . فكيف يكون غيره ? وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين ? ! وليس هنالك محاباة ، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول ، لو ارتكب هذا الإثم العظيم !
وبعد إنذار شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] يكلف إنذار أهله . لتكون لمن سواهم عبرة ، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . .
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ! فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله . فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا بني عبد المطلب . يا بني فهر . يا بني لؤي . أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ? " قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ! أما دعوتنا إلا لهذا ? وأنزل الله : ( تبت يدا أبي لهب وتب . . . ) .
وأخرج مسلم - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لما نزلت : ( وأنذر عشيرتك الأقربين )قام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " يا فاطمة ابنة محمد . يا صفية ابنة عبد المطلب . يا بني عبد المطلب . لا أملك لكم من الله شيئا . سلوني من مالي ماشئتم " .
وأخرج مسلم والترمذي - بإسناده عن أبي هريرة - قال : لما نزلت هذه الآية . دعا رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قريشا فعم وخص فقال : " يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار . يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار . فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا . إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " . . .
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الأمر ، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين ، ونفض يده من أمرهم ، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة ، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم ، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا ، وهو رسول الله . . وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه ، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم .
ثم قال تعالى آمرًا لرسوله ، صلوات الله وسلامه عليه{[21876]} أن ينذر عشيرته الأقربين ، أي : الأدنين إليه ، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين . ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه ؛ ولهذا قال : { . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } . وهذه النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة ، بل هي فرد من أجزائها ، كما قال : { لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ يس : 6 ] ، وقال : { لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } [ الأنعام : 51 ] ، وقال : { لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [ مريم : 97 ] ، وقال : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، كما قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
وفي صحيح مسلم : " والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " .
وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ، فلنذكرها :
قال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ، ثم نادى : " يا صباحاه " . فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ " . قالوا : نعم . قال : " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب : تبًّا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلا لهذا ؟ وأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] .
ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[21877]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب ، لا أملك لكم من الله شيئا ، سلوني من مالي ما شئتم " . انفرد بإخراجه مسلم{[21878]} .
قال أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن موسى بن طلحة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قريشا ]{[21879]} ، فعمَّ وخصَّ ، فقال : " يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا معشر بني عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار . [ يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار ]{[21880]} ، فإني - والله - ما أملك لكم من الله شيئا ، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها " .
ورواه مسلم والترمذي ، من حديث عبد الملك بن عمير ، به{[21881]} . وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه . ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة{[21882]} . والموصول هو الصحيح . وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة{[21883]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا محمد - يعني ابن إسحاق - عن أبي الزنَاد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله . يا صفية عمة رسول الله ، ويا فاطمة بنت رسول الله ، اشتريا أنفسكما من الله ، لا أُغني عنكما من الله شيئًا ، سلاني من مالي ما شئتما " .
تفرد به من هذا الوجه{[21884]} . وتفرد به أيضا ، عن معاوية ، عن زائدة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه{[21885]} . ورواه أيضًا عن حسن ، ثنا ابن لَهِيعة ، عن{[21886]} الأعرج : سمعت أبا هريرة مرفوعا{[21887]} .
وقال أبو يعلى : حدثنا سُوَيد بن سَعيد ، حدثنا{[21888]} ضِمَام بن إسماعيل ، عن موسى بن وَرْدَان ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " يا بني قُصَي ، يا بني هَاشم ، يا بني عبد مناف . أنا النذير والموت المغير . والساعة الموعد " {[21889]} .
قال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا التيمي ، عن أبي عثمان ، عن قَبِيصة بن مُخَارق وزُهَير بن عمرو قالا لما نزلت : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } صَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر ، فجعل ينادي : " يا بني عبد مناف ، إنما أنا نذير ، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو ، فذهب يربأ أهله ، يخشى أن يسبقوه ، فجعل ينادي ويهتف : يا صباحاه " .
ورواه مسلم والنسائي ، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي ، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مُل النَّهْديّ ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي ، به{[21890]} .
قال الإمام أحمد : حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا شَرِيك عن الأعمش ، عن المْنهَال ، عن عباد بن عبد الله الأسدي ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته ، فاجتمع ثلاثون ، فأكلوا وشربوا قال : وقال لهم : " من يَضْمَنُ عَني ديني ومواعيدي ، ويكون معي في الجنة ، ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . فقال رجل - لم يسمه شريك - يا رسول الله ، أنت كنت بحرًا{[21891]} من يقوم بهذا ؟ قال : ثم قال الآخر ، قال : فعرض ذلك على أهل بيته ، فقال عَليٌ : أنا{[21892]} .
طريق أخرى بأبسط من هذا السياق : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجذ ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب ، وهم رَهْطٌ ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفّرَق - قال : وصنع{[21893]} لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا - قال : وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس . ثم دعا بغُمَرٍ{[21894]} فشربوا حتى رووا ، وبقي الشراب كأنه لم يمس - أولم يشرب - وقال : " يا بني عبد المطلب ، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ؟ " . قال : فلم يقم إليه أحد . قال : فقمتُ إليه - وكنت أصغر القوم - قال : فقال : " اجلس " . ثم قال ثلاث مرات ، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي : " اجلس " . حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي{[21895]} .
طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة " : أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق قال : فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرفت أنّي إن بادأتُ بها قومِي ، رأيت منهم ما أكره ، فَصَمَتُّ . فجاءني جبريل ، عليه السلام ، فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك ربك " . قال علي ، رضي الله عنه : فدعاني فقال : " يا علي ، إن الله قد أمرني [ أن ]{[21896]} أنذر عشيرتي الأقربين ، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره ، فَصَمت عن ذلك ، ثم جاءني جبريل فقال : يا محمد ، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك . فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام ، وأعدّ لنا عُسَّ لبن ، ثم اجمع لي{[21897]} بني عبد المطلب " . ففعلتُ فاجتمعوا له ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا . فيهم أعمامه : أبو طالب ، وحمزة ، والعباس ، وأبو لهب الكافر الخبيث . فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها ، وقال : " كلوا بسم الله " . فأكل القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم ، والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم ، بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال : لَهَدّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجلّ قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له ، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس ، فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسقهم يا علي " . فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعًا . وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله . فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب بالكلام فقال : لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم . فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا علي ، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب ؛ فإن هذا الرجل قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم " . ففعلت ، ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ كما صنع ]{[21898]} بالأمس ، فأكلوا حتى نهلوا عنه ، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه ، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني عبد المطلب ، إني - والله - ما أعلم شابًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة " .
قال أحمد بن عبد الجبار : بلغني أن ابن إسحاق إنما{[21899]} سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث{[21900]} .
وقد رواه أبو جعفر بن جرير ، عن ابن حميد ، عن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الغفار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب ، فذكر مثله ، وزاد بعد قوله : " إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة " . " وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني{[21901]} على هذا الأمر على أن يكون أخي ، وكذا وكذا " ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعًا ، وقلت - وإني لأحدثهم سنًا ، وأرمصُهم عينا ، وأعظمهم بطنا ، وأحمشهم ساقا . أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ يَرْقُبُني ثم قال : " إن هذا أخي ، وكذا وكذا ، فاسمعوا له وأطيعوا " . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع{[21902]} .
تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم ، وهو متروك كذاب شيعي ، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعّفه الأئمة رحمهم الله .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرة الحارثي ، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي رضي الله عنه : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا " . قال : ففعلت ، ثم قال : " ادع بني هاشم " . قال : فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل - أو : أربعون ورجل - قال : وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها . قال : فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال : " كلوا " ، فأكلوا حتى شبعوا ، وهي على هيئتها{[21903]} لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا ، قال : ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا . قال : وفَضَل فَضْلٌ ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم ، فبدرُوه الكلام ، فقالوا : ما رأينا كاليوم في السحر . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " اصنع [ لي ]{[21904]} رجل شاة بصاع من طعام " . فصنعت ، قال : فدعاهم ، فلما أكلوا وشربوا ، قال : فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي : " اصنع [ لي ]{[21905]} رجل شاة بصاع من طعام . فصنعت ، قال : فجمعتهم ، فلما أكلوا وشربوا بَدَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : " أيكم يقضي عني دَيني{[21906]} ويكون خليفتي في أهلي ؟ " . قال : فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسِنّ العباس . ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك قلت : أنا يا رسول الله . [ فقال : " أنت " ] {[21907]} قال : وإني يومئذ لأسوأهم هيئة ، وإني لأعمش العينين ، ضخم البطن ، حَمْش الساقين .
فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي ، رضي الله عنه . ومعنى سؤاله ، عليه الصلاة والسلام{[21908]} لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ، ويخلفوه في أهله ، يعني إن قتل في سبيل الله ، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل ، ولما أنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، فعند ذلك أمِن .
وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } . ولم يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي ، رضي الله عنه ؛ ولهذا{[21909]} بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم كان بعد هذا - والله أعلم - دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا ، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا ، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته ، لينبه بالأدنى على الأعلى ، أي : إنما أنا نذير ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي - غير منسوب - من طريق عمرو بن سَمُرَةَ ، عن محمد بن سُوقَةَ ، عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء ، رضي الله عنه ، يحدث الناس ويفتيهم ، وولده إلى جنبه ، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون ، فقيل له : ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم ، وأهل بيتك جلوس لاهين ؟ فقال : لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أزهد الناس في الدنيا الأنبياء ، وأشدهم عليهم الأقربون " . وذلك فيما أنزل الله ، عز وجل : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } ، ثم قال : " إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم " . ولهذا قال [ الله تعالى ] :{[21910]} { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ . وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } {[21911]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ" يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة، وحذّرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم.
وذُكر أن هذه الآية لما نزلت، بدأ ببني جده عبد المطلب وولده، فحذّرهم وأنذرهم... حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما نزلت هذه الاَية: وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا صَفِيّةُ بِنْتَ عَبْدِ المُطّلِبِ، يا فاطِمَةُ بِنْتَ مْحَمّد يا بَنِي عَبْد المُطّلِبِ إنّي لا أمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا، سَلُونِي مِنْ مالي ما شِئْتُمْ»...
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا سلامة، قال: قال عقيل: ثني الزهري، قال: قال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ: «يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ اللّهِ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا، يا بَنِي عَبْدِ مَنافٍ لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئا، يا عَبّاسُ بَنَ عَبْدِ المُطّلبِ لا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللّهِ شَيْئا، يا فاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ الله لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئا، سَلِيِني ما شِئْتِ، لا أُغْني عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئا»...
حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا ابن نُمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الاَية وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، ثم نادى: «يا صَباحاهُ»، فاجتمع الناس إليه، فبينَ رجل يجيء، وبين آخر يبعث رسوله، فقال: «يا بَنِي هاشِمٍ، يا بَنِي عَبْدِ المُطّلبِ، يا بَنِي فِهْرٍ، يا بَنِي...يا بَنِي... أرأيْتَكُمْ لَوْ أخْبَرْتُكُمْ أنّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الجَبَلِ تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدّقْتُمُونِي؟» قالوا: نعم، قالَ: «فإنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بينَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فقال أبو لهب: تَبّا لكم سائَر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟ فنزلت: تَبّتْ يَدَا أبِي لَهَبِ وَتَبّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فخص، وعم، وقال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرا و لا نفعا. وقال يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرا و لا نفعا. وقال: يا معشر بني عبد مناف: أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم من الله ضرا ولا نفعا. وكذلك قال لبني عبد المطلب، وقال لفاطمة: يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله ضرا ولا نفعا. ولكن لك رحم، سأبلها ببلاها) (مسلم 204] أي سأصلها...
ومعنى التخصيص في إنذاره عشيرته في هذه الآية يحتمل وجهين، وإن كانوا داخلين في جملة إنذار الناس جميعا في قوله: {للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1] إذ هم من العالمين: أحدهما: جائز أن يكونوا هم يطمعون بشفاعة رسول الله يوم القيامة، وإن لم يطيعوه، ولم يجيبوه إلى ما يدعوهم إليه على ما روي عنه أنه قال: (كل نسب وسبب منقطع يومئذ إلا نسبي وسببي) [الحاكم في المستدرك 3/142]. فيشبه أن يكونوا يطمعون بشفاعته يومئذ، وإن خالفوه بحق القرابة والوصلة ما لا يطمع بذلك غيرهم من الناس إلا بالطاعة والإجابة. فأمره أن ينذرهم لئلا يكلوا أمرهم إلى شفاعته. ولكن احتالوا حيلتهم بالطاعة والعمل لما يأمرهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وذلك تعريفٌ له أنهم لا تنفعهم قَرَابَتُهُم منه، ولا تُقْبَلُ شفاعتُه -إنْ لم يؤمِنوا- فيهم. فليس هذا الأمر من حيث النّسب، فهذا نوحٌ لمَّا كَفَرَ ابنُه لم تنفْعه بُنُوَّتُه، وهذا الخليلُ إبراهيم عليه السلام لما كَفَرَ أبوه لم تنفع أُبُوَّتُه، وهذا محمدٌ -عليه الصلاة والسلام- كثيرٌ من أقاربه كانوا أشدَّ الناسِ عليه في العداوةِ فلم تنفعهم قرابتُهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فيه وجهان: أحدهما أن يؤمر بإنذار الأقرب فالأقرب من قومه، ويبدأ في ذلك بمن هو أولى بالبداءة، ثم بمن يليه: وأن يقدّم إنذارهم على إنذار غيرهم، كما روي عنه عليه السلام: أنه لما دخل مكة قال:"كلُ ربَا في الجاهليةِ موضوعٌ تحتَ قدميّ هاتينِ، وأَوّلُ ما أضعُهُ رِبَا العباسِ" والثاني: أن يؤمر بأن لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة، ولا يحابيهم في الإنذار والتخويف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأمره بنذارة عشيرته تخصيصاً لهم إذ العشيرة مظنة المقاربة والطواعية. وإذ يمكنه معهم من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيره، فإن البر بهم في مثل هذا الحمل عليهم والإنسان غير متهم على عشيرته. وكان هذا التخصيص مع الأمر العام بنذارة العالم.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} فقال:"يا معشر قريش: اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت ما أغني عنك من الله شيئا". وفي بعض الألفاظ: "سلوني من مالي ما شئتم". وفي لفظ "غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها "ومعنى قوله: {عَشِيرَتَكَ الأقربين}: رهطك الأدنين.
اعلم أنه سبحانه لما بالغ في تسلية رسوله أولا، ثم أقام الحجة على نبوته، ثانيا ثم أورد سؤال المنكرين، وأجاب عنه ثالثا، أمره بعد ذلك بما يتعلق بباب التبليغ والرسالة وهو ههنا أمور ثلاثة. الأول: قوله: {وأنذر عشيرتك الأقربين} وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعده إن دعا مع الله إلها آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب، وذلك لأنه إذا تشدد على نفسه أولا، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيا، لم يكن لأحد فيه طعن البتة وكان قوله أنفع وكلامه أنجع،..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
فيه مسألتان: الأولى- قوله تعالى:"وأنذر عشيرتك الأقربين" خص عشيرته الأقربين بالإنذار؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك. وعشيرته الأقربون قريش. وقيل: بنو عبد مناف...الثانية- في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وأنذر} أي بهذا القرآن {عشيرتك} أي قبيلتك {الأقربين} أي الأدنين في النسب، ولا تحاب أحداً، فإن المقصود الأعظم به النذارة لكف الخلائق عما يثمر الهلاك من اتباع الشياطين الذين اجتالوهم عن دينهم بعد أن كانوا حنفاء كلهم، وإنذار الأقربين يفهم الإنذار لغيرهم من باب الأولى، ويكسر من أنفة الأبعد للمواجهة بما يكره، لأنه سلك به مسلك الأقرب..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 213]
وهنا يلتفت بالخطاب إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] يحذره من الشرك -وهو أبعد من يكون عنه- ليكون غيره أولى بالحذر. ويكلفه إنذار عشيرته الأقربين. ويأمره بالتوكل على الله، الذي يلحظه دائما ويرعاه:
(فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين. وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين. فإن عصوك فقل: إني بريء مما تعملون. وتوكل على العزيز الرحيم. الذي يراك حين تقوم. وتقلبك في الساجدين. إنه هو السميع العليم)..
وحين يكون الرسول [صلى الله عليه وسلم] متوعدا بالعذاب مع المعذبين، لو دعا مع الله إلها آخر. وهذا محال ولكنه فرض للتقريب. فكيف يكون غيره؟ وكيف ينجو من العذاب من يدعو هذه الدعوة من الآخرين؟! وليس هنالك محاباة، والعذاب لا يتخلف حتى عن الرسول، لو ارتكب هذا الإثم العظيم!
وبعد إنذار شخصه [صلى الله عليه وسلم] يكلف إنذار أهله. لتكون لمن سواهم عبرة، أن هؤلاء يتهددهم العذاب لو بقوا على الشرك لا يؤمنون: (وأنذر عشيرتك الأقربين)..
روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية أتى النبي [صلى الله عليه وسلم] الصفا فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه! فاجتمع الناس إليه، بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"يا بني عبد المطلب. يا بني فهر. يا بني لؤي. أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟" قالوا: نعم. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم! أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: (تبت يدا أبي لهب وتب...).
وأخرج مسلم -بإسناده- عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما نزلت: (وأنذر عشيرتك الأقربين) قام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقال:"يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ماشئتم".
وأخرج مسلم والترمذي -بإسناده عن أبي هريرة- قال: لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قريشا فعم وخص فقال: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا. إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها"...
فهذه الأحاديث وغيرها تبين كيف تلقى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] الأمر، وكيف أبلغه لعشيرته الأقربين، ونفض يده من أمرهم، ووكلهم إلى ربهم في أمر الآخرة، وبين لهم أن قرابتهم له لا تنفعهم شيئا إذا لم ينفعهم عملهم، وأنه لا يملك لهم من الله شيئا، وهو رسول الله.. وهذا هو الإسلام في نصاعته ووضوحه، ونفي الوساطة بين الله وعباده حتى عن رسوله الكريم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على قوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين} [الشعراء: 193 -194]، فهو تخصيص بعد تعميم للاهتمام بهذا الخاص. ووجه الاهتمام أنهم أولى الناس بقبول نصحه وتعزيز جانبه ولئلا يسبق إلى أذهانهم أن ما يلقيه الرسول من الغلظة في الإنذار وأهوال الوعيد لا يقع عليهم لأنهم قرابة هذا المنذر وخاصته.