ثم عقب القرآن على هذا التوبيخ والتهديد للمشركين بقوله : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } .
أى : من يرد الله إضلاله بسبب اختياره للضلالة ، وصممه عن الاستماع للحق فلا قدرة لأحد على هدايته ، وهو - سبحانه - يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم متحيرين مترددين .
وهنا يقف السياق وقفة قصيرة للتعقيب . . يقرر فيها سنة الله الجارية بالهدى والضلال ؛ وفق ما أرادته مشيئته من هداية من يطلب الهدى ويجاهد فيه ؛ وإضلال من يصرف قلبه عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان . وذلك بمناسبة ما عرضه السياق قبل ذلك من حال أولئك القوم الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن ؛ على طريقة القرآن الكريم في عرض القاعدة العامة بمناسبة المثل الفريد ؛ ومن بيان السنة الثابتة بمناسبة الحادث العابر :
( من يضلل الله فلا هادي له ، ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) .
إن الذين يضلون ، إنما يضلون لأنهم غافلون عن النظر والتدبر . ومن يغفل عن النظر في آيات الله وتدبرها يضله الله ؛ ومن يضله الله لا يهديه أحد من بعده :
( من يضلل الله فلا هادي له ) . .
ومن يكتب الله عليه الضلال - وفق سنته تلك - يظل في طغيانه عن الحق وعماه عنه أبداً : ( ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) . .
وما في تركهم في عماهم من ظلم ، فهم الذين أغلقوا بصائرهم وأبصارهم ، وهم الذين عطلوا قلوبهم وجوارحهم ، وهم الذين غفلوا عن بدائع الخلق وأسرار الوجود ، وشهادة الأشياء - التي يوجههم إليها في الآية السابقة - وحيثما امتد البصر في هذا الكون وجد عجيبة ، وحيثما فتحت العين وقعت على آية ، وحيثما التفت الإنسان إلى نفسه أو إلى ما يحيط به ، لمس الإعجاز في تكوينه وفيما حوله من شيء . فإذا عمه - أي عمي - عن هذا كله ، ترك في عماه ، وإذا طغى بعد هذا كله وتجاوز الحق ترك في طغيانه حتى يسلمه إلى البوار :
ثم قال تعالى : { مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
يقول تعالى : من كُتِب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ، ولو نظر لنفسه فيما نظر ، فإنه لا يجزي{[12444]} عنه شيئا ، { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [ المائدة : 41 ] قال تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : إن إعراض هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا ، التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها ، لإضلال الله إياهم ، ولو هداهم الله لاعتبروا وتدبّروا فأبصروا رشدهم ولكن الله أضلهم فلا يبصرون رشَدا ولا يهتدون سبيلاً ، ومن أضله عن الرشاد فلا هادي له . ولكن الله يدعهم في تماديهم في كفرهم وتمرّدهم في شركهم يتردّدون ، ليستوجبوا الغاية التي كتبها الله لهم من عقوبته وأليم نكاله .
هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله : { فبأي حديث بعده يؤمنون } [ الأعراف : 185 ] ، لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامَه ، فلا طمع لأحد في هديهم ، ولما كان هذا الحكم حاقاً على من اتصف بالتكذيب ، وعدم التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله ، وفي توقع اقتراب استيصالهم ، كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقاً غير معروف للناس ، وإنما ينفرد الله بعلمه ويُطْلع عليه رسوله عليه الصلاة والسلام ، وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك ، وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام .
وعطف جملة : { ونذَرهم في طغيانهم يعمهون } على جملة : { من يضلل الله فلا هادي له } للإشارة إلى استمرار ضلالهم وانتفاء هديهم في المستقبل كما وقع في الماضي .
وتفسير : { نذرهم } تقدم في قوله تعالى : { وذَر الذين اتخذوا دينهم لعباً } في سورة الأنعام ( 70 ) وتفسير « طغيان » و { يعمهون } تقدم عند قوله : { في طغيانهم يعمهون } في سورة البقرة ( 15 ) .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : { نَذرهم } بالنون وبالرفع ، على أنه عطف جملة على جملة : { من يضلل الله } على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : بالياء التحتية والجزم ، على أنه عطف على موضع { فلا هادي له } وهو جواب الشرط .
وقرأ أبو عَمرو ، وعاصم ، ويعقوب : بالياء التحتية وبالرفع والوجه ظاهر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من يضلل الله} عن الهدى، {فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون}، يعني في ضلالتهم يترددون...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن إعراض هؤلاء الذين كذّبوا بآياتنا، التاركي النظر في حجج الله والفكر فيها، لإضلال الله إياهم، ولو هداهم الله لاعتبروا وتدبّروا فأبصروا رشدهم ولكن الله أضلهم فلا يبصرون رشَدا ولا يهتدون سبيلاً، ومن أضله عن الرشاد فلا هادي له. ولكن الله يدعهم في تماديهم في كفرهم وتمرّدهم في شركهم يتردّدون، ليستوجبوا الغاية التي كتبها الله لهم من عقوبته وأليم نكاله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} أي من أهانه الله بالضلالة فلا أحد يملك إكرامه بالهدى. وقوله تعالى: {ويذرهم في طغيانهم يعمهون} ولا ضرر يلحقه في طغيانهم، لذلك تركهم فيه. ودل ذلك على أنه لم ينشئهم لحاجة نفسه ولا لدفع ضرر نفسه، ولكن لحاجة أنفسهم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى قوله "من يضلل الله فلا هادي له "أي يمتحنه الله فيضل عند امتحانه وأمره إياه بالطاعة والخير والرشاد "فلا هادي له" أي لا يقدر أحد أن يأتيه بالهدى والبرهان بمثل الذي آتاه الله تعالى، ولا بما يقارنه أو يزيد عليه. "ويذرهم في طغيانهم" بمعنى يخلي بينهم وبين ذلك، وترك إخراجه بالقسر والجبر، ومنعه إياه لطفه الذي يؤتيه من آمن واهتدى وقبل الوعظ. والطغيان: الغلو في الكفر، والعمه: التحير والتردد في الكفر. ويحتمل أن يكون المراد من يضلل الله عن الجنة عقوبة على كفره فلا هادي له إليها وإن الله لا يحول بين الكافر بل يتركه مع اختياره لأن ما فعله من الزجر والوعيد كاف في إزاحة علة المكلف...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا شرط وجواب مضمنه اليأس منهم والمقت لهم لأن المراد أن هذا قد نزل بهم وأنهم مثال لهذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك كله من أعجب العجب، كانت فذلكته قطعاً تعليلاً لما قبله من إعراضهم عما لا ينبغي الإعراض عنه دليلاً على أن الأمر ليس إلا بيد منزله سبحانه قوله: {من يضلل الله} أي الذي له جميع العظمة {فلا هادي} أصلاً {له} بوجه من الوجوه؛ ولما دل بالإفراد على أن كل فرد في قبضته، وكان التقدير: بل يستمر على ضلاله، عطف عليه بضمير الجمع دلالة على أن جمعهم لا يغني من الله شيئاً فقال: {ويذرهم} أي يتركهم على حالة قبيحة، وعبر بالظرف إشارة إلى إحاطة حكمه بهم فقال: {في طغيانهم} أي تجاوزهم للحدود حال كونهم {يعمهون} أي يتحيرون ويترددون في الضلال لا يعرفون طريقاً ولا يفهمون حجة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم قال تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} هذا استئناف بياني مقرر لجملة هذا السياق، ومعنى الجملة المراد أن الله تعالى قد جعل هذا القرآن أعظم أسباب الهداية وإنما جعله هدى للمتقين، لا للجاحدين المعاندين، وجعل الرسول المبلغ له أكمل الرسل وأقواهم برهانا في حاله وعقله وأخلاقه وكونه أميا- فمن فقد الاستعداد للإيمان والهدى بهذا الكتاب على ظهور آياته وقوة بيناته، وبهذا الرسول المتحدي به- فهو الذي أضله الله، أي قضت سنته في نظام خلق الإنسان، وارتباط المسببات في أعماله بالأسباب، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال، وإذا كان ضلاله بمقتضى سنن الله، فمن يهديه من بعد الله؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير سننه ولا تبديلها. {ويذرهم في طغيانهم يعمهون} أي وهو تعالى يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم كالشيء اللقى الذي لا يبالى به حالة كونهم يعمهون فيه أي يترددون تردد الحيرة والغمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وفي هذا بيان لسبب ضلالهم من كسبهم، وهو الطغيان أي تجاوز الحد في الباطل والشر من الكفر والظلم والفجور الذي ينتهي بالعمه وهو التردد في الحيرة، والارتكاس في الغمة...
وقد علم مما قررناه أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجبارا، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان اضطرارا لا اختيارا، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... (ويذرهم في طغيانهم يعمهون).. وما في تركهم في عماهم من ظلم، فهم الذين أغلقوا بصائرهم وأبصارهم، وهم الذين عطلوا قلوبهم وجوارحهم، وهم الذين غفلوا عن بدائع الخلق وأسرار الوجود، وشهادة الأشياء -التي يوجههم إليها في الآية السابقة- وحيثما امتد البصر في هذا الكون وجد عجيبة، وحيثما فتحت العين وقعت على آية، وحيثما التفت الإنسان إلى نفسه أو إلى ما يحيط به، لمس الإعجاز في تكوينه وفيما حوله من شيء. فإذا عمه -أي عمي- عن هذا كله، ترك في عماه، وإذا طغى بعد هذا كله وتجاوز الحق ترك في طغيانه حتى يسلمه إلى البوار: (ويذرهم في طغيانهم يعمهون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله: {فبأي حديث بعده يؤمنون} [الأعراف: 185]، لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامَه، فلا طمع لأحد في هديهم، ولما كان هذا الحكم حاقاً على من اتصف بالتكذيب، وعدم التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله، وفي توقع اقتراب استيصالهم، كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقاً غير معروف للناس، وإنما ينفرد الله بعلمه ويُطْلع عليه رسوله عليه الصلاة والسلام، وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك، وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون} إن من لا يؤمن بشيء كتب الله تعالى عليه الضلالة؛ لأنه سلك طريق الغي، واتخذه سبيلا، فسار فيه من غير تبصر، وبذلك كتب الله تعالى عليه الضلال، وعبر عنه بأن اله أضله، فإن الله لا يكتب الضلالة إلا لمن سار في طريقها، واختار سبيل الغي، ولم يختر سبيل الهدى، وإن من يكتب الله تعالى عليه الضلالة – لا هادي له لأنه ارتكس في الشر، ولم ينقذه الله تعالى منه، لأنه اختاره، ولذا قال تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له}، أي من سار في طريق الغي، حتى بلغ نهايته فقد أضله، ومن كتب الله تعالى عليه الضلال فلا هادي له؛ لأن الضلالة استمكنت في نفسه وتغلغلت في أطوائها، فلا مدخل للنور في قلبه الذي ختم الله تعالى عليه...
. {يعمهون}، أي يتحيرون ويترددون، والتحير أو التردد، هنا في موضعه؛ لأنهم خالفوا الفطرة وقاوموها، فهم في حرب معها، وإذا كانت الحرب داخلية نفسية فإن الإنسان يكون في حيرة مستمرة بين فطرة تدعوه إلى ألا يطغى ولا يظلم، وبين حال قائمة قصدها، وهي ما عليه من طغيان وعتو، والله – سبحانه – لطيف بعباده، ولي لمن اهتدى ولم يخالف فطرته التي فطر الناس عليها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} لأن للهدى أسبابه الطبيعيّة التي تحتمه كنتيجة، فإذا لم يأخذ الإنسان بهذه الأسباب التي هيّأها الله له، كان الضلال هو نتيجة حتمية للعوامل التي أودعها الله في خصائص الأشياء، ذلك أن الله لا يتدخل بطريقة قسرية في هدايتهم، بل يتركهم لمصيرهم الذي اختاروه لأنفسهم...