9- اذكروا - أيها المؤمنون ، وأنتم تتقاسمون الغنائم وتختلفون - الوقت الذي كنتم تتجهون فيه إلى الله تعالى ، طالبين منه الغوث والمعونة ، إذ كتب عليكم أنه لا خلاص من القتال ، فأجاب الله دعاءكم ، وأمدَّكم بملائكة كثيرة تبلغ الألف متتابعة ، يجئ بعضها وراء بعض{[72]} .
ثم ساق - سبحانه - بعض مظاهر تدبيره المحكم في هذه الغزوة ، وبعض النعم التي أنعم بها على المؤمنين ، وبعض البشارات التي تقدمت تلك الغزوة أو صاحبتها ، والتى كانت تدل دلالة واضحة على أن النصر سيكون للمسلمين فقال - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ . . عَذَابَ النار } .
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } الاستغاثة : طلب الغوث والنصر ، يقال : غّوث الرجل ، أى : قال واغوثاه ، والاسم الغوث والغواث ، واستغاثنى فلان فأغثته ، والاسم الغياث .
وقوله { مُمِدُّكُمْ } من الإِمداد بمعنى الزيادة والإِغاثة ، وقد جرت عادة القرآن أن يستعمل الإِمداد في الخير ، وأن يستعمل المد في الشر والذم .
قال - تعالى - : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } وقال - تعالى - : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } قال - تعالى - : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } وقال - تعالى - : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } وقوله : { مُرْدِفِينَ } من الإِرداف بمعنى التتابع .
قال الفخر الرازى : قرأ نافع وأبو بكر عن عصام { مُرْدِفِينَ } - بفتح الدال - وقرأ الباقون بكسرها ، والمعنى على الكسر ، أى : ممتابعين يأتى بعضهم في إثر البعض كالقوم الذين أردفوا على الدواب .
والمعنى على قراءة الفتح ، أى : فعل بهم ذلك ، ومعناه أن الله - تعالى - أردف المسلمين وأمدهم بهم أي جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم .
والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - وقت أن كنتم - وأنتم على أبواب بدر - { تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } أى : تطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم { فاستجاب لَكُمْ } دعاءكم ، وكان من مظاهر ذلك أن أخبركم على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم - بأنى { مُمِدُّكُمْ } أى : معينكم وناصركم بألف من الملائكة مردفين ، أى : متتابعين ، بعضهم على إثر بعض ، أو أن الله - تعالى - جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم .
ويروى الإِمام مسلم عن ابن عباس قال : " حدثنى عمر بن الخطاب قال : كان يوم بدر ، فاستقبل نبى الله - القبلة ، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه ويقول : اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم أنجز لى ما وعدتنى ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإِسلام لا تعبد في الأرض ، فما زال يهتف بربه مادا يديه حتى سقط رداؤه منكبيه .
فأتاه أبو بكر ، فأخذ رداءه ، فألقاه على منكبيه ، ثم التزمه من وراءه ، وقال : يا نبى الله ! ! كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله - عز وجل - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ } " الآية فأمده الله بالملائكة .
وروى البخارى عن ابن عباس قال : قال النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر ، " اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال حسبك ، فخرج - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول : " سيهزم الجمع ويولون الدبر " " .
وروى سعيد بن منصور عن طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : " لما كان يوم بدر نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وتكاثرهم ، وإلى الله فاستقلهم ، فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته : " اللهم لا تودع منى اللهم لا تخذلنى ، اللهم لا تترنى - أي لا تقطعنى عن أهلى وأنصارى - أولا تنقضى شيئاً من عطائك - اللهم أنشدك ما وعدتنى - أى : أستنجزك وعدك " " .
وروى ابن إسحاق في سيرته أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتنى .
فإن قيل : إن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم فلماذا أسندها القرآن إلى المؤمنين ؟
فالجواب : أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه - صلى الله عليه وسلم - ويتأسون به في الدعاء ، إلا ان الروايات ذكرت دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو قائد المؤمنين ، وهو الذي يحرص الرواة على نقل دعائه ، أكثر من حرصهم على نقل دعاء غيره من أصحابه .
وقيل : إن الضمير في قوله { تَسْتَغِيثُونَ } للرسول - صلى الله عليه وسلم - وجئ به مجموعا على سبيل التعظيم ، ويعكر على هذا القبل أن السياق بعد ذلك لا يلتئم معه ، لأنه خطاب للمؤمنين بالنعم التي أنعم بها - سبحانه - عليهم .
وعبر - سبحانه - بالمضارع { تَسْتَغِيثُونَ } مع أن استغاثتهم كانت قبل نزول الآية - استحضارا للحال الماضية ، حتى يستمروا على شكرهم لله ، ولذلك عطف عليه . فاستجاب لكم ، بصيغة الماضى مسايرة للواقع .
وكان العطف بالفاء للإِشعار بأن إجابة دعائهم كانت في أعقاب تضرعهم واستغنائهم وهذا من فضل الله عليهم ، ورحمته بهم ، حيث أجارهم من عدوهم ، ونصرهم عليه - مع قلتهم عنه - نصرا مؤزرا .
والسين والتاء في قوله : { تَسْتَغِيثُونَ } للطلب ، أى : تطلبون منه الغوث بالنصر .
فإن قيل : إن الله - تعالى - ذكر هنا انه أمدهم بألف من الملائكة ، وذكر في سورة آل عمران أنه امدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما ؟
فالجواب أن الله - تعالى - أمد المؤمنين بألف من الملائكة في يوم بدر ، كما بين هنا في سورة الأنفال ، ثم زاد عددهم إلى ثلاثة آلاف كما قال - تعالى - في سورة آل عمران : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة مُنزَلِينَ . . . }
ثم زاد عددهم مرة أخرى إلى خمسة آلاف ، قال - تعالى - { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } وقد صبروا واتقوا وأتاهم المشركون من مكة فورا حين استنفرهم أبو سفيان لإِنقاذ العير . . فكان المدد خمسة آلاف .
واختار ابن جرير أنهم وعدوا بالمدد بعد الألف ، ولا دلالة في الآيات على أنهم أمدوا بما زاد على ذلك ، ولا على أنهم لم يمدوا ، ولا يثبت شئ من ذلك إلا بنص .
وهذا بناء على أن المدد الذي وعد الله به المؤمنين في آيات سورة آل عمران كان خاصاً بغزوة بدر .
أما على الرأى القائل بأن هذا المدد الذي بتلك الآيات كان خاصا بغزوة أحد فلا يكون هناك إشكال بين ما جاء في السورتين .
وقد بسط القول في هذه المسألة الإِمام ابن كثير فقال ما ملخصه :
" اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين :
أحدهما : أن قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } وهذا قول الحسن والشعبى والربيع بن أنس وغيرهم . . .
فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات - التي في سورة آل عمران وبين قوله في سورة الأنفال - : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } .
فالجواب : أن التنصيص على الألف هنا ، لا ينافى الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله - تعالى - { مُرْدِفِينَ } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف آخر مثلهم .
قال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف .
والقول الثانى يرى أصحابه أن هذا الوعد - وهو قوله - تعالى - : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملائكة } متعلق بقوله - قبل ذلك - { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } وذلك يوم احد .
وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحالك ، وغيرهم .
لكن قالوا : لم يحصل الإِمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين يومئذ فروا .
وزاد عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف لقوله - تعالى { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا ملك واحد .
ثم يمضي السياق في استحضار جو المعركة وملابساتها ومواقفها ، حيث يتجلى كيف كانت حالهم ، وكيف دبر الله لهم ، وكيف كان النصر كله وليد تدبير الله أصلاً . . . والتعبير القرآني الفريد يعيد تمثيل الموقف بمشاهده وحوادثه وانفعالاته وخفقاته ، ليعيشوه مرة أخرى ، ولكن في ضوء التوجيه القرآني ، فيروا أبعاده الحقيقية التي تتجاوز بدراً ، والجزيرة العربية ، والأرض كلها ؛ وتمتد عبر السماوات وتتناول الملأ الأعلى ؛ كما أنها تتجاوز يوم بدر ، وتاريخ الجزيرة العربية ، وتاريخ البشرية في الأرض ، وتمتد وراء الحياة الدنيا ، حيث الحساب الختامي في الآخرة والجزاء الأوفى ، وحيث تشعر العصبة المسلمة بقيمتها في ميزان الله ، وقيمة أقدارها وأعمالها وحركتها بهذا الدين ومقامها الأعلى : ( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين . وما جعله الله إلا بشرى ، ولتطمئن به قلوبكم ، وما النصر إلا من عند الله ، إن الله عزيز حكيم . إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ، وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ، ويذهب عنكم رجز الشيطان ، وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام . إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ، فاضربوافوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ، ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب . ذلكم فذوقوه ، وأن للكافرين عذاب النار ) . .
إنها المعركة كلها تدار بأمر الله ومشيئته ، وتدبيره وقدره ؛ وتسير بجند الله وتوجيهه . . وهي شاخصة بحركاتها وخطراتها من خلال العبارة القرآنية المصورة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان ، كأنه يكون الآن !
فأما قصة الاستغاثة فقد روى الإمام أحمد - بإسناده - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر نظر النبي [ ص ] إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة . فاستقبل النبي [ ص ] القبلة ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني . اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً " قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه ، حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا نبي الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . .
وتروى روايات كثيرة مفصلة عن الملائكة في يوم بدر : عددهم . وطريقة مشاركتهم في المعركة . وما كانوا يقولونه للمؤمنين مثبتين وما كانوا يقولونه للمشركين مخذلين . . . ونحن - على طريقتنا في الظلال - نكتفي في مثل هذا الشأن من عوالم الغيب بما يرد في النصوص المستيقنة من قرآن أو سنة . والنصوص القرآنية هنا فيها الكفاية : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنِّي ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) . . فهذا عددهم . . ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ، سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ) . . فهذا عملهم . . ولا حاجة إلى التفصيل وراء هذا فإن فيه الكفاية . . وبحسبنا أن نعلم أن الله لم يترك العصبة المسلمة وحدها في ذلك اليوم ، وهي قلة والأعداء كثرة . وأن أمر هذه العصبة وأمر هذا الدين قد شارك فيه الملأ الأعلى مشاركة فعلية على النحو الذي يصفه الله - سبحانه - في كلماته . .
قال البخاري : باب شهود الملائكة بدراً : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي [ ص ] فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ? قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدراً من الملائكة " . . . [ انفرد بإخراجه البخاري ] . . .
( إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قُرَاد ، حدثنا عكرمة بن عَمَّار ، حدثنا سماك الحَنَفي أبو زُميل ، حدثني ابن عباس{[12681]} حدثني عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : لما كان يوم بدر نظر النبي{[12682]} صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونَيّف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أين ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا " ، قال : فما زال يستغيث ربه [ عز وجل ]{[12683]} ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا رسول الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله ، عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } فلما كان يومئذ والتقوا ، فهزم الله المشركين ، فقُتِل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليًّا وعمر{[12684]} فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قُوَّةً لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما ترى يا ابن الخطاب ؟ " قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تُمْكنَني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتُمكن عليًّا من عقيل فيضربَ عنقه ، وتُمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس{[12685]} في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فَهَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد - قال عمر - غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، [ أخبرني ]{[12686]} ما{[12687]} يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدتُ بكاء بَكَيتُ ، وإن لم أجد بكاء تَبَاكيتُ لبكائكما ! قال النبي صلى الله عليه وسلم : " للذي عَرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة " ، وأنزل الله [ عز وجل ]{[12688]} { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }
إلى قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [ الأنفال : 67 ، 68 ] من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم ، فلما كان يوم أحد من العام المقبل ، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفَرَّ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت ربَاعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله [ عز وجل ]{[12689]} { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 165 ] بأخذكم الفداء . .
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مَرْدُويه ، من طرق عن عكرمة بن عمار ، به . وصححه علي بن المديني والترمذي ، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني{[12690]}
وهكذا رَوَى علي بن أبي طلحة والعَوْفي ، عن ابن عباس : أن هذه الآية الكريمة قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ] }{[12691]} أنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد{[12692]} بن يُثيَع ، والسُّدِّي ، وابن جريج .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي حُصَين ، عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو ، فأتاه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، بعض{[12693]} نِشْدَتِك ، فوالله ليفيَن الله لك بما وعدك{[12694]}
وقال البخاري في " كتاب المغازي " ، باب قول الله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إسرائيل ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به : أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول{[12695]} كما قال قوم موسى لموسى : { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [ المائدة : 24 ]ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله{[12696]}
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم أنشدك عَهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعْبَد " ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك ! فخرج وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [ القمر : 45 ] .
ورواه النسائي عن بُندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي{[12697]}
وقوله تعالى : { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي : يُرْدفُ بعضُهم بعضًا ، كما قال هارون بن عنترة{[12698]} عن ابن عباس : { مُرْدِفِينَ } متتابعين .
ويحتمل أن [ يكون ]{[12699]} المراد { مُرْدِفِينَ } لكم ، أي : نجدة لكم ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس : { مُرْدِفيِنَ } يقول : المدَدَ ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .
وهكذا قال مجاهد ، وابن كثير القارئ ، وابن زيد : { مُرْدِفِينَ } ممدين .
وقال أبو كُدَيْنة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال : وراء كل ملك ملك .
وفي رواية بهذا الإسناد : { مُرْدِفِينَ } قال : بعضهم على أثر بعض . وكذا قال أبو ظِبْيَان ، والضحاك ، وقتادة .
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، عن الزَّمْعِي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جُبَيْر ، عن علي رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في الميسرة .
وهذا يقتضي - لو صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها ؛ ولهذا قرأ بعضهم : " مُرْدَفِين " بفتح الدال ، فالله أعلم .
والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة .
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ، ومسلم ، من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن وليد الحَنَفي ، عن ابن عباس ، عن عمر ، الحديث المتقدم . ثم قال أبو زُمَيل{[12700]} حدثني{[12701]} ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوتَ الفارس يقول : " أقدم حَيْزُوم{[12702]} إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا قال : فنظر إليه ، فإذا هو قد خُطِم أنفه ، وشُقَّ وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " صدقتَ ، ذلك{[12703]} من مَدَد السماء الثالثة " ، فقَتَلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
وقال البخاري : " باب شهود الملائكة بدرا " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : " من أفضل المسلمين " - أو كلمة نحوها - قال : " وكذلك من شهد بدرا من الملائكة .
انفرد بإخراجه البخاري{[12704]} وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خَدِيج ، وهو خطأ{[12705]} والصواب رواية البخاري ، والله [ تعالى ]{[12706]} أعلم .
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بَلْتَعَة : " إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد{[12707]} غفرت لكم " {[12708]}
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ } . .
يقول تعالى ذكره : ويبطل الباطل حين تستغيثون ربكم ، ف «إذا » من صلة «يبطل » ومعنى قوله : تسْتَغيثونَ رَبّكُمْ : تستجيرون به من عدوّكم ، وتدعونه للنصر عليهم . فاسْتَجابَ لَكُمْ يقول : فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يُردف بعضهم بعضا ويتلو بعضهم بعضا .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الأخبار بذلك .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عكرمة بن عمار ، قال : ثني سماك الحنفي ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وعدتهم ، ونظر إلى أصحابه نيفا على ثلاث مئة ، فاستقبل القبلة ، فجعل يدعو ويقول : «اللهمّ أنْجِزْ لي ما وَعَدَتْني اللّهُمّ إنْ تَهْلِكَ هَذهِ العِصَابَةُ مِنْ أهْلِ الإسْلامِ ، لا تُعْبَدْ فِي الأرْضِ » فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فوضع رداءه عليه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : كفاك يا نبيّ الله بأبي وأمي مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله : إذْ تَسْتَغِثُونَ رَبّكُمْ فاسْتَجابَ لَكُمْ أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : لما اصطفّ القوم ، قال أبو جهل : اللهمّ أولانا بالحقّ فانصره ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، فقال : «يا رَبّ إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ العِصَابَةُ فَلَنْ تُعْبَدَ فِي الأرْضِ أبَدا » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «اللّهُمّ رَبّنا أنْزَلْتَ عَليّ الكِتابَ ، وأمَرْتَنِي بالقِتالِ ، وَوَعَدْتَنِي بالنّصْرِ ، وَلا تُخْلِفُ المِيعادَ » فأتاهُ جِبرِيل عليه السلام ، فأنزل الله : ألَنْ يَكْفِيَكُمْ أنْ يُمِدّكُمْ رَبّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا وَيأتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوّمِينَ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن ابن إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع قال : كان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، فجعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو ، يقول : «اللّهُمّ انْصُرْ هَذِهِ العِصَابَةَ ، فإنّكَ إنْ لَمْ تَفْعَلْ لَنْ تُعْبَدَ في الأرْض » قال : فقال أبو بكر : بَعْضَ مناشدتك منجزك ما وعدك .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الله ويستغيثه ويستنصره ، فأنزل الله عليه الملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ قال : دعا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ : أي بدعائكم حين نظروا إلى كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فاستجاب لكم بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعائكم معه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشدّ النشدة ، يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله بعض نشدتك ، فوالله ليفينّ الله لك بما وعدك .
وأما قوله : أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فقد بينا معناه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أنّي مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يقول : المزيد ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُرْدِفِينَ قال : متتابعين .
قال : ثني أبي ، عن سفيان ، عن هارون بن عنترة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثني سليمان بن عبد الجبار ، قال : حدثنا محمد بن الصلت ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُمِدّكُمْ بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ قال : وراء كلّ ملك ملك .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : مُرْدِفِينَ قال : متتابعين .
قال : حدثنا هانىء بن سعيد ، عن حجاج بن أرطأة ، عن قابوس ، قال : سمعت أبا ظبيان يقول : مُرْدِفِينَ قال : الملائكة بعضهم على إثر بعض .
قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : مُرْدِفِينَ قال : بعضهم على إثر بعض .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : مُرْدِفِينَ قال : ممدين . قال ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير قال : مُرْدِفِينَ الإرداف : الإمداد بهم .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي متتابعين .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يتبع بعضهم بعضا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : مُرْدِفِينَ قال : المردفين بعضهم على إثر بعض ، يتبع بعضهم بعضا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ يقول : متتابعين يوم بدر .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة : «مُرْدَفِينَ » بنصب الدال . وقرأه بعض المكيين وعامّة قرّاء الكوفيين والبصريين : مُرْدِفِينَ . وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك ، ويقول فيما ذُكر عنه : هو من أردف بعضهم بعضا . وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب ، وقال : إنما الإرداف : أن يحمل الرجل صاحبه خلفه ، قال : ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر .
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرىء بفتح الدال أو بكسرها ، فقال بعض البصريين والكوفيين : معنى ذلك إذا قرىء بالكسر أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضا على لغة من قال : أردفته وقالوا : العرب تقول : أردفته وردفته ، بمعنى : تبعته وأتبعته . واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر :
إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثّرَيّا ***ظَنَنْتُ بِآلِ فاطِمَة الظّنُونا
قالوا : فقال الشاعر : «أردفت » ، وإنما أراد «ردفتُ » جاءت بعدها ، لأن الجوزاء تجىء بعد الثريا . وقالوا معناه إذا قرىء مُرْدَفِينَ أنه مفعول بهم ، كأن معناه : بألف من الملائكة يُردف الله بعضهم بعضا .
وقال آخرون : معنى ذلك إذا كسرت الدال : أردفت الملائكة بعضها بعضا ، وإذا قرىء بفتحها : أردف الله المسلمين بهم .
والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ : بألْفٍ مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم أن معناه : يتبع بعضهم بعضا ومتتابعين . ففي إجماعهم على ذلك من التأويل الدليل الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال ، بمعنى : أردف بعض الملائكة بعضا ، ومسموع من العرب : جئت مِرْدِفا لفلان : أي جئت بعده .
وأما قول من قال : معنى ذلك إذا قرىء «مُرْدَفِينَ » بفتح الدال : أن الله أردف المسلمين بهم ، فقول لا معنى له إذ الذكر الذي في مردفين من الملائكة دون المؤمنين .
وإنما معنى الكلام : أن يمدّكم بألف من الملائكة يردَف بعضهم ببعض ، ثم حذف ذكر الفاعل ، وأخرج الخبر غير مسمى فاعله ، فقيل : مُرْدَفِينَ بمعنى : مردَف بعضُ الملائكة ببعض ، ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله وجب أن يكون في المردَفين ذكر المسلمين لا ذكر الملائكة ، وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن .
وقد ذكر في ذلك قراءة أخرى ، وهي ما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : قال عبد الله بن يزيد : «مُرْدِفِينَ » ، ومُرْدَفِينَ و «مُرْدّفِينَ » ، مثقل على معنى : مُرْتَدِفين .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، قال : ثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جبير ، عن عليّ رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وفيها أبو بكر رضي الله عنه ، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وأنا فيها .
{ إذ تستغيثون ربكم } بدل من { إذ يعدكم } أو متعلق بقوله { ليحق } بقوله { ليحق الحق } ، أو على إضمار اذكر ، واستغاثتهم أنهم لما علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون : أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين ، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه عليه السلام نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : " اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فقال أبو بكر يا نبي الله : كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك . { فاستجاب لكم أني مُمدّكم } بأني ممدكم ، فحذف الجار وسلط عليه الفعل وقرأ أبو عمرو بالكسر على إرادة القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من القول . { بألف من الملائكة مردفين } متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته أنا إذا جئت بعده ، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين ، أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه . وقرأ نافع ويعقوب " مُرِدفين " بفتح الدال أي متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم . وقرئ { مُرِدفين } بكسر الراء وضمها وأصله مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى ساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أو بالضم على الاتباع . وقرئ " بآلاف " ليوافق ما في سورة " آل عمران " ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة ، أو وجوههم وأعيانهم ، أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روي أخبار تدل عليها .
وقوله : { إذ تستغيثون ربكم } الآية ، { إذ } متعلقة بفعل ، تقديره واذكر إذ وهو الفعل الأول الذي عمل في قوله { وإذ يعدكم } [ الأنفال الآية : 7 ] وقال الطبري : هي متعلقة ب { يحق . . ويبطل } .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يعمل فيها { يعدكم } [ الأنفال : 7 ] فإن الوعد كان في وقت الاستغاثة ، وقرأ أبو عمرو بإدغام الذال في التاء واستحسنها أبو حاتم ، و { تستغيثون } معناه تطلبون ، وليس يبين من ألفاظ هذه الآية أن المؤمنين علموا قبل القتال بكون الملائكة معهم ، فإن استجاب يمكن أن يقع في غيبه تعالى ، وقد روي أنهم علموا ذلك قبل القتال ، ومعنى التأنيس وتقوية القلوب يقتضي ذلك ، وقرأ جمهور الناس «أني » بفتح الألف ، وقرأ أبو عمرو في بعض ما روي عنه وعيسى بن عمر بخلاف عنه «إني » بكسر الألف أي قال إني ، و { ممدكم } أي مكثركم ومقويكم من أمددت . وقرأ جمهور الناس «بألف » وقرأ عاصم الجحدري «بآلف »{[5227]} على مثل فلس وأفلس فهي جمع ألف ، والإشارة بها إلى الآلاف المذكورة في آل عمران{[5228]} ، وقرأ عاصم الجحدري أيضاً «بآلاف » و { مردفين } معناه متبعين ، ويحتمل أن يراد المردفين المؤمنين أي أردفوا بالملائكة ف { مردفين } على هذا حال من الضمير في قوله { ممدكم } ويحتمل أن يراد به الملائكة أي أردف بعضهم بعض غير نافع «مردِفين » بكسر الدال وهي قراءة الحسن ومجاهد والمعنى فيها تابع بعضهم بعضاً{[5229]} وروي عن ابن عباس خلف كل ملك ملك ، وهذا معنى التتابع يقال ردف وأردف إذا أتبع وجاء بعد الشيء ، ويحتمل أن يراد مردفين المؤمنين .
ويحتمل أن يراد مردفين بعضهم بعضاً ، ومن قال «مردفين » بمعنى أن كل ملك أردف ملكاً وراءه فقول ضعيف لم يأت بمقتضاه رواية ، وقرأ رجل من أهل مكة رواه عنه الخليل «مرَدِّفين » بفتح الراء وكسر الدال وشدها .
وروي عن الخليل أنها بضم الراء كالتي قبلها وفي غير ذلك ، وقرأ بعض الناس بكسر الراء مثلهما في غير ذلك ، حكى ذلك أبو عمرو عن سيبويه ، وحكاه أبو حاتم قال : كأنه أراد مرتدفين فأدغم وأتبع الحركة ، ويحسن مع هذه القراءة كسر الميم ولا أحفظه قراءة ، وأنشد الطبري شاهداً على أن أردف بمعنى جاء تابعاً قول الشاعر [ خزيمة بن مالك ] : [ الوافر ]
إذا الجوزاءُ أردَفَتِ الثّريَا*** ظَنَنْتُ بآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونا{[5230]}
والثريا تطلع قبل الجوزاء وروي في الأشهر أن الملائكة قاتلت يوم بدر ، واختلف في غيره من مشاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قيل : لم تقاتل يوم بدر وإنما وقفت وحضرت وهذا ضعيف ، وحكى الطبري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : نزل جبريل في ألف ملك على ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف ملك في المسيرة وأنا فيها ، وقال ابن عباس : كانا في خمسمائة خمسمائة ، وقال الزجّاج : قال بعضهم : إن الملائكة خمسة آلاف ، وقال بعضهم : تسعة آلاف ، وفي هذا المعنى أحاديث هي مستوعبة في كتاب السير .