المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

20- واذكر - أيها الرسول - حينما قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا بالشكر والطاعة نعم الله عليكم ، حيث اختار منكم أنبياء كثيرين ، وجعلكم أعزة كالملوك ، بعد أن كنتم أذلاّء في مملكة فرعون ، ومنحكم من النعم الأخرى ما لم يؤت أحداً غيركم من العالمين .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

{ وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ . . . }

هذه الآيات الكريمة تصور لنا ما جبل عليه بنو إسرائيل من جبن شديد ، وعزيمة خوارة ، وعصيان لرسلهم . وإيثار للذلة مع الراحة على العزة مع الجهاد وهي تحكي بأسلوبها البليغ قصة تاريخية معروفة ، وملخص هذه القصة :

أن بني إسرائيل بعد أن ساروا مع نبيهم موسى - عليه السلام - إلى بلاد الشام ، عقب غرق فرعون أمام أعينهم . أوحى الله - تعالى - إلى موسى أن يختار من قومه اثني عشر نقيبا ، وأمره أن يرسلهم إلى الأرض المقدسة التي كان يسكنها الكنعانيون حينئذ . ليتحسسوا أحوال سكانها ، وليعرفوا شيئا من أخبارهم .

وقد أشار القرآن قبل ذلك إلى هذه القصة بقوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } ولقد نفذ موسى - عليه السلام - ما أمره به ربه - سبحانه - ، وكان مما قاله موسى للنقباء عند إرسالهم لمعرفة أحوال سكان الأرض المقدسة : " لا تخبروا أحد سواي عما ترونه " .

فلما دخل النقباء الأرض المقدسة ، واطلعوا على أحوال سكانها . وجدوا منهم قوة عظيمة ، وأجساما ضخمة . . فعاد النقباء إلى موسى وقالوا له - وهو في جماعة من بني إسرائيل - : قد جئنا إلى الأرض التي بعثتنا إليها ، فإذا هي في الحقيقة تدر لبنا وعسلا ، وهذا شيء من ثمارها ، غير أن الساكنين فيها أقوياء ، ومدينتهم حصينة . وأخذ كل نقيب منهم ينهى سبطه عن القتال . إلا اثنين منهم ، فإنما نصحا القوم بطاعة نبيهم موسى - عليه السلام - وبقتال الكنعانيين معه . ولكن بني إسرائيل عصوا أمر هذين النقيبين ، وأطاعوا أمر بقية النقباء العشرة " وأصروا على عدم الجهاد ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا : يا ليتنا متنا في مصر أو في هذه البرية .

وحاول موسى - عليه السلام - أن يصدهم عما تردوا فيه من جبن وعصيان وأن يحملهم على قتال الجبارين ؛ ولكنهم عموا وصموا .

وأوحى الله - تعالى - إلى موسى أن الأرض المقدسة محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض جزاء عصيانهم وجبنهم .

هذا هو ملخص هذه القصة كما وردت في كتب التفسير والتاريخ . وقد حشا بعض المفسرين كتبهم بأوصاف للجبارين - الذين ورد ذكرهم في الآيات الكريمة - لا تقبلها العقول السليمة ، وليس لها أصل يعتمد عليه بل هي مما يستحي من ذكره كما قال ابن كثير .

هذا ، وقوله - تعالى - : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } كلام مستأنف ساقه الله - تعالى - لبيان بعض ما فعله بنو إسرائيل من رذائل بعد أخذ الميثاق عليهم ، وتفصيل لكيفية نقضهم لهذا الميثاق .

و ( إذا ) ظرف للزمن الماضي بمعنى وقت .

وهو مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام ، تقديره اذكر . وقد خوطب بهذا الفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق قرينة الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ، ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من جنايات .

أي : واذكر يا محمد لهؤلاء اليهود المعاصرين لك ، قول موسى لآبائهم على سبيل النصح والإِرشاد : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . أي : تذكروا إنعامه عليكم بالشكر والطاعة .

والمراد بذكر الوقت تذكر ما حدث فيه من وقائع وخطوب .

قال أبو السعود : وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت ، دون ما وقع فيه من حوادث ، - مع أنها هي المقصودة ، لأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه تفصيلا فإذا استحضر كان ما وقع فيه بتفاصيله كأنه مشاهد عيانا .

وفي قول موسى لهم - كما حكى القرآن عنه - : { يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } تلطف معهم في الخطاب ، وحمل لهم على شكر النعمة ، واستعمالها فيما خلقت له لكي يزيدهم الله منها . وفيه كذلك تذكير لهم بما يربطهم به من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم ، يهمه ما يهمهم ، ويسعده ما يسعدهم ، فهو يوجه إليهم ما هو كائن لهدايتهم وسعادتهم .

وقوله - تعالى - : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } بيان لنعم ثلاث أسبغها الله عليهم .

أما النعمة الأولى : فهي جعل كثير من الأنبياء فيهم كموسى وهارون ، واسحق ، ويعقوب ، ويوسف ، - عليهم السلام - . وقد أرسل الله - تعالى - هؤلاء الأنبياء وغيرهم في بني إسرائيل ، لكي يخرجوهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والطاعة والإِيمان .

والتنكير في قوله { أَنْبِيَآءَ } للتكثير والتعظيم . أي : تذكروا يا بني إسرائيل نعم الله عليكم ، وأحسنوا شكرها ، حيث جعل فيكم أنبياء كثيرين يهدونكم إلى الرشد .

قال صاحب الكشاف : " لم يبعث الله في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء " .

وأما النعمة الثانية : فهي جعلهم ملوكا . أي : جعلكم أحراراً تملكون أمر أنفسكم بعد أن كنتم مملوكين لفرعون وقومه ، الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب .

أي : جعلكم تملكون المساكن وتستعملون الخدم ، بعد أن كنتم لا تملكون شيئاً من ذلك وأنتم تحت سيطرة فرعون وقومه .

قال الآلوسي : " أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك زوجة تأوى إليها ؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . قال الرجل : فإن لي خادما . قال عبد الله : فأنت من الملوك " .

واخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا " .

وهذه النعمة - أي : نعمة الحرية بعد الذل ، والسعة بعد الضيق - من النعم العظمى التي لا يقدرها ويحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، التي تعاف الظلم ، وتأبى الضيم ، وتحسن الشكر لله - تعالى - .

قال صاحب الانصاف : فإن قلت : فلماذا لم يقل إذ جعلكم أنبياء ، كما قال : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } ؟ قلت : لأن النبوة مزية غير الملك . وآحاد الناس يشارك الملك في كثير مما به صار الملك ملكا ، ولا كذلك النبوة ، فإن درجتها أرفع من أن يشرك من لم تثبت له مع الثابتة نبوته في مزيتها وخصوصيتها ونعتها ، فهذا هو سر تمييز الأنبياء وتعميم الملوك .

وأما النعمة الثالثة : فهي أنه - سبحانه - : آتاهم من ألوان الإِكرام والمنن ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانهم . فقد فلق لهم البحر فساروا في طريق يابس حتى نجوا وغرق عدوهم . وأنزل عليهم المن والسلوى ليأكلوا من الطيبات ، وفجر لهم من الحجر اثنتي عشرة عينا حتى يعلم كل أناس مشربهم . . إلى غير ذلك من ألوان النعم التي حباهم الله - تعالى - بها ، والتي كانت تستلزم منهم المبادرة إلى امتثال أوامره ، واجتناب نواهيه .

قال الآلوسي : و " أل " في { العالمين } للعهد : والمراد عالمي زمانهم . أو للاستغراق والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه ، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل : وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية ، لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل ، فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم .

وبعد هذا التذكير بالنعم ، وجه إليهم نداء ثانيا طلب منهم فيه دخول الأرض المقدسة فقال - كما حكى القرآن عنه : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

وفي نهاية الدرس يصل السياق إلى الموقف الأخير لبني إسرائيل مع رسولهم ومنقذهم - موسى عليه السلام - على أبواب الأرض المقدسة التي وعدهم الله ؛ وموقفهم كذلك من ميثاق ربهم معهم ؛ وكيف نقضوه ؛ وكيف كان جزاؤهم على نقض الميثاق الوثيق .

( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ؛ وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا : يا موسى إن فيها قوما جبارين ؛ وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما : ادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ؛ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين . قالوا : يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها . فاذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا هاهنا قاعدون . قال : رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين . . قال : فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، فلا تأس على القوم الفاسقين ) .

إنها حلقة من قصة بني إسرائيل التي فصلها القرآن أوسع تفصيل . . ذلك لحكمة متشعبة الجوانب . .

من جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها . فقد كانوا حربا على الجماعة المسلمة منذ اليوم الأول . هم الذين احتضنوا النفاق والمنافقين في المدينة ؛ وأمدوهم بوسائل الكيد للعقيدة وللمسلمين معا . وهم الذين حرضوا المشركين وواعدوهم وتآمروا معهم على الجماعة المسلمة . وهم الذين تولوا حرب الإشاعات والدس والكيد في الصف المسلم ؛ كما تولوا بث الشبهات والشكوك والتحريفات حول العقيدة وحول القيادة . وذلك كله قبل أن يسفروا بوجوههم في الحرب المعلنة الصريحة . فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة ، لتعرف من هم أعداؤها . ما طبيعتهم ؟ وما تاريخهم ؟ وما وسائلهم ؟ وما حقيقة المعركة التي تخوضها معهم ؟

ولقد علم الله أنهم هم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله ؛ كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله . فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ؛ ووسائلهم كلها مكشوفة .

ومن جوانب هذه الحكمة أن بني إسرائيل هم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير . وقد امتد تاريخهم قبل الإسلام فترة من التاريخ طويلة ؛ ووقعت الانحرافات في عقيدتهم ؛ ووقع منهم النقض المتكرر لميثاق الله معهم ؛ ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف ، كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم . . فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة - وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها - بتاريخ القوم ، وتقلبات هذا التاريخ ؛ وتعرف مزالق الطريق ، وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم ، لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة - إلى حصيلة تجاربها ؛ وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون . ولتتقي - بصفة خاصة - مزالق الطريق ، ومداخل الشيطان ، وبوادر الانحراف ، على هدى التجارب الأولى .

ومن جوانب هذه الحكمة أن تجربة بني إسرائيل ذات صحائف شتى في المدى الطويل . وقد علم الله أن الأمد حين يطول على الأمم تقسو قلوبها ؛ وتنحرف أجيال منها ؛ وأن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ، ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل ؛ فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة ، نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم ؛ يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته . ذلك أن أشد القلوب استعصاء على الهدى والاستقامة هي القلوب التي عرفت ثم انحرفت ! فالقلوب الغفل الخامة أقرب إلى الاستجابة ، لأنها تفاجأ من الدعوة بجديد يهزها ، وينفض عنها الركام ، لجدته عليها ، وانبهارها بهذا الجديد الذي يطرق فطرتها لأول مرة . فأما القلوب التي نوديت من قبل ، فالنداء الثاني لا تكون له جدته ، ولا تكون له هزته ؛ ولا يقع فيها الإحساس بضخامته وجديته ، ومن ثم تحتاج إلى الجهد المضاعف ، وإلى الصبر الطويل !

وجوانب شتى لحكمة الله في تفصيل قصة بني إسرائيل ، وعرضها مفصلة على الأمة المسلمة وارثة العقيدة والدين ؛ القوامة على البشر أجمعين . . جوانب شتى لا نملك هنا المضي معها أكثر من هذه الإشارات السريعة . . لنعود إلى هذه الحلقة ، في هذا الدرس ، في هذه السورة :

( وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم . إذ جعل فيكم أنبياء ، وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) . .

وإننا لنلمح في كلمات موسى - عليه السلام - إشفاقه من تردد القوم ونكوصهم على الأعقاب . فلقد جربهم من قبل في " مواطن كثيرة " في خط سير الرحلة الطويل . . جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر ؛ وحررهم من الذل والهوان ، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر ، وأغرق لهم فرعون وجنده . فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فيقولون ( يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ) . . وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي التي سرقوها معهم من نساء المصريين عجلا ذهبا له خوار ؛ ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون : إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته ! . . وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء ، وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا ، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر - أرض الذل بالنسبة لهم - فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ، ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص ، والهدف الأسمى ، الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون ! . . وجربهم في قصة البقرة التي أمروا بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ . . ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ! وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده . فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم - بعد كل هذه الآلاء وكل هذه المغفرة للخطايا - ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رؤوسهم ، ( وظنوا أنه واقع بهم ) ! . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام ، فيما ذكر به قومه نعَمَ الله عليهم وآلاءه لديهم ، في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ } أي : كلما هلك نبي قام فيكم نبي ، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده . وكذلك{[9485]} كانوا ، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته ، حتى ختموا بعيسى ، عليه السلام ، ثم أوحى الله [ تعالى ]{[9486]} إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله ، المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم ، عليه{[9487]} السلام ، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم .

وقوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال : الخادم والمرأة والبيت .

وروى الحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري أيضا ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : المرأة والخادم { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : الذين هم بين ظَهرانيهِم يومئذ ، ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين{[9488]} ولم يخرجاه . {[9489]}

وقال ميمون بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة{[9490]} والخادم والدار{[9491]} سمي مَلِكًا .

وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وَهْب ، أنبأنا أبو هانئ ؛ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا{[9492]} من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . فقال : إن لي خادما . قال{[9493]} فأنت من الملوك . {[9494]}

وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار ؟

رواه ابن جرير . ثم روي عن منصور والحكم ، ومجاهد ، وسفيان الثوري نحوًا من هذا . وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران .

وقال ابن شَوْذَب : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم ، واستؤذن عليه ، فهو ملك .

وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم .

وقال السُّدِّي في قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال : يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله . رواه ابن أبي حاتم .

وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لَهِيعَة ، عن دَرَاج ، عن أبي الهَيْثَم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة ، كُتِب ملكا " . {[9495]}

وهذا حديث غريب من هذا الوجه .

وقال ابن جرير : حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا أبو ضَمْرَة أنس بن عياض ، [ قال ]{[9496]} سمعت زيد بن أسلم يقول : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان له بيت وخادم فهو ملك " .

وهذا مرسل غريب . {[9497]} وقال مالك : بيت وخادم وزوجة .

وقد ورد{[9498]} في الحديث : " من أصبح منكم مُعَافى{[9499]} في جسده ، آمنا في سِربه ، عنده قُوت يومه ، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها " . {[9500]}

وقوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني عالمي زمانكم ، فكأنهم{[9501]} كانوا أشرف{[9502]} الناس في زمانهم ، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم ، كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الجاثية : 16 ] وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 - 140 ]

والمقصود : أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم ، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم ، وأفضل عند الله ، وأكمل شريعة ، وأقوم منهاجا ، وأكرم نبيا ، وأعظم ملكا ، وأغزر أرزاقا ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأوسع مملكة ، وأدوم عزا ، قال الله [ عز وجل ]{[9503]} { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها ، عند الله ، عند قوله عز وجل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } من{[9504]} سورة آل عمران .

وروى ابن جرير عن ابن عباس ، وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } مع هذه الأمة . والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا .

وقيل : المراد : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني بذلك : ما كان تعالى نزله{[9505]} عليهم من المن والسلوى ، وتَظلَّلهم{[9506]} من الغمام وغير ذلك ، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات ، فالله{[9507]} أعلم .


[9485]:في أ: "ولذلك".
[9486]:زيادة من ر.
[9487]:في أ: "عليهما".
[9488]:في د: "على شرطهما".
[9489]:الحاكم في المستدرك (2/311، 312).
[9490]:في د: "المرأة".
[9491]:في ر، أ: "المرأة".
[9492]:في ر: "ألست"، وفي د: "أنا من الفقراء".
[9493]:في أ: "فقال".
[9494]:تفسير الطبري (10/163).
[9495]:وفي إسناده ابن لهيعة ودراج ضعيفان ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.
[9496]:زيادة من أ.
[9497]:تفسير الطبري (10/161).
[9498]:في أ: "روي".
[9499]:في: "معافا".
[9500]:رواه الترمذي في السنن برقم (2346) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (4141) من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري.
[9501]:في أ: "فإنهم".
[9502]:في ر: "أشراف".
[9503]:زيادة من ر، وفي أ: "تعالى".
[9504]:في أ: "في".
[9505]:في أ: "ينزله".
[9506]:في أ: "ويظللهم".
[9507]:في أ: "والله".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَىَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مّلُوكاً وَآتَاكُمْ مّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مّن الْعَالَمِينَ } . .

وهذا أيضا من الله تعريف لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قديم بتمادي هؤلاء اليهود في الغيّ وبعدهم عن الحقّ وسوء اختبارهم لأنفسهم وشدّة خلافهم لأنبيائهم وبطء إنابتهم إلى الرشاد ، مع كثرة نعم الله عندهم وتتابع أياديه وآلائه عليه ، مسليا بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من علاجهم وينزل به من مقاساتهم في ذات الله . يقول الله له صلى الله عليه وسلم : لا تأس على على ما أصابك منهم ، فإن الذهاب عن الله والبعد من الحقّ وما فيه لهم الحظّ في الدنيا والاَخرة من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم ، وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم ، واذكر إذ قال موسى لهم : يا قَوْم اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ يقول : اذكروا أياديَ الله عندكم وآلاءه قِبَلكم . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ قال : أيادي الله عندكم وأيامه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ يقول : عافية الله .

وإنما أخترنا ما قلنا ، لأن الله لم يخصص من النعم شيئا ، بل عمّ ذلك بذكر النعم ، فذلك على العافية وغيرها ، إذ كانت العافية أحد معاني النعم .

القول في تأويل قوله تعالى : إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا .

يعني بذلك جلّ ثناؤه ، أن موسى ذكّر قومه من بني إسرائيل بأيام الله عندهم وبآلائه قِبَلهم ، فحرّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين ، فقال لهم : اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فَضّلَكم بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه ويخبرونكم بآياته الغيب ، ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا . فقيل إن الأنبياء الذين ذكرهم موسى أنهم جُعِلوا فيهم هم الذين اختارهم موسى ، إذ صار إلى الجبل وهم السبعون الذين ذكرهم الله ، فقال : واخْتارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا .

وجَعَلَكُمْ مُلُوكا سخر لكم من غيركم خدّ ما يخدمونكم . وقيل : إنما قال ذلك لهم موسى ، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحد سواهم يخدمه أحد من بني آدم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ قال مُوسَى لقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ فِيكُم أنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : كنا نحدّث أنهم أوّل من سخر لهم الخدم من بني آدم وملكوا .

وقال آخرون : كلّ من ملك بيتا وخادما وامرأة ، فهو مَلِك كائنا من كان من الناس . ذكر من قال ذلك :

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا أبو هانىء ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل ، فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين ؟ فقال له عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ نعم . قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم . قال : فأنت من الأغنياء . فقال : إن لي خادما . قال : فأنت من الملوك .

حدثنا الزبير بن بكار ، قال : حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض ، قال : سمعت زيد بن أسلم ، يقول : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاٍ فلا أعلم إلاّ أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «مَنْ كانَ لَهُ بَيْتٌ وَخادِمٌ فَهُوَ مَلِكٌ » .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن ، أنه تلا هذه الاَية : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا فقال : وهل الملكِ إلاّ مركب وخادم ودار ؟

فقال قائلو هذه المقالة : إنما قال لهم موسى ذلك ، لأنهم كانوا يملكون الدور والخدم ، ولهم نساء وأزواج . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد ، قالا : حدثنا جرير ، عن منصور ، قال : أراه عن الحكم : وَجَعَلَكمْ مُلُوكا قال : كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيت وامرأة وخادم ، عدّ ملكا .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان . ح ، وحدثنا سفيان ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن الحكم : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : الدار والمرأة والخادم . قال سفيان : أو اثنتين من الثلاثة .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن ابن عباس في قوله : وَجَعَلكُمْ مُلُوكا قال : البيت والخادم .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس ، في قوله : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : الزوجة والخادم والبيت .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عليّ بن محمد الطنافسي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج بن تميم ، عن ميمون بن مهران ، عن ابن عباس في قول الله : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمى ملكا .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبدالرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : ملّكهم الخدم . قال قتادة : كانوا أوّل من ملك الخدم .

حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا قال : جعل لكم أزواجا وخدما وبيوتا .

وقال آخرون : إنما عنى بقوله : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا أنهم بملكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَجَعَلَكُمْ مُلُوكا يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله .

القول في تأويل قوله تعالى : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ .

اختلف فيمن عنُوا بهذا الخطاب ، فقال بعضهم : عُني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن السديّ ، عن أبي مالك وسعيد بن جبير : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ قالا : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وقال آخرون : عُني به قوم موسى صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : هم قوم موسى .

حدثني الحارث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبان ، قال : حدثنا سفيان عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ قال : هم بين ظهرانيه يومئذٍ .

ثم اختلفوا في الذي آتاهم الله ما لم يؤت أحد من العالمين ، فقال بعضهم : هو المنّ والسلوى والحجر والغمام . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمينَ قال : المنّ والسلوى والحجر والغمام .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ يعني أهل ذلك الزمان ، المنّ والسلوى والحجر والغمام .

وقال آخرون : هو الدار والخادم والزوجة . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا بشر بن السريّ ، عن طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ قال : الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة .

حدثني الحرث . قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ المنّ والسلوى والحجر والغمام .

وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ، خطاب لبني إسرائيل ، حيث جاء في سياق قوله : اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ومعطوفا عليه . ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ مصروف عن خطاب الذين ابتدىء بخطابهم في أوّل الاَية . فإذا كان ذلك كذلك ، فأن يكون خطابا لهم أولى من أن يقال : هو مصروف عنهم إلى غيرهم . فإن ظنّ ظانّ أن قوله : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ لا يجوز أن يكون خطابا لبني إسرائيل ، إذ كانت أمة محمد قد أوتيت من كرامة الله نبيها عليه الصلاة والسلام محمدا ، ما لم يؤت أحدا غيرهم ، وهم من العالمين فقد ظنّ غير الصواب ، وذلك أن قوله : وآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أحَدا مِنَ العالَمِينَ خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ ، وعنى بذلك عالمي زمانه لا عالمي كلّ زمان ، ولم يكن أُوتي في ذلك الزمان من نعم الله وكرامته ما أُوتي قومه صلى الله عليه وسلم أحد من العالمين ، فخرج الكلام منه صلى الله عليه وسلم على ذلك لا على جميع كلّ زمان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ يَٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِيكُمۡ أَنۢبِيَآءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكٗا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ يُؤۡتِ أَحَدٗا مِّنَ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (20)

{ وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء } فأرشدكم وشرفكم بهم ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء ، { وجعلكم ملوكا } أي وجعل منكم أو فيكم ، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى وهموا بقتل عيسى ، وقيل : لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم وأمورهم سماهم ملوكا . { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } من فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ونحوها مما آتاهم الله ، وقيل : المراد بالعالمين عالمي زمانهم .