ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يرد أيضا على أولئك الذين أحلوا وحرموا على حسب أهوائهم دون أن يأذن الله لهم بذلك فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } أي : قل لهم يا محمد - أيضا - أخبروني أيها المبدلون لشرع اله على حسب أهوائكم : إن الله - تعالى - قد أفاض عليكم ألوانا من الرزق الحلال فجئتم أنتم ، وقسمتم هذا الرزق الحلال ، فجعلتم منه حلالا وجعلتم منه حراما .
وقد حكى الله - تعالى - فعلهم هذا في آيات متعددة ، منها قوله - تعالى - : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا }
قال الإِمام ابن كثير : " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، نزلت إنكارا على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصائل كقوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً . . . } الآيات .
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شبعة عن أبي إسحاق ، سمعت أبا الأحوص وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا رث الهيئة فقال : هل لك مال ؟ قلت : نعم . قال : من أي المال ؟ قال : قلت : من كل المال . . من الإِبل والرقيق والخيل والغنم . فقال : إذا آتاك الله مالا فلير عليك ثم قال : هل تنتج إبلك صحاحا آذانها ، فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول : هذه بحر . وتشق جلودها وتقول ؛ هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك . قال : نعم . قال : فإن ما آتاك الله لك حل . ساعد الله أشد من ساعدك . وموسى الله أحد من موساك " .
وقوله : { قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } استفهام قصد به التوبيخ والزجر أي : قل لهم يا محمد على سبيل التوبيخ والزجر : إن الله وحده هو الذي يملك التحليل والتحريم ، فهل هو - سبحانه - أذن لكم في ذلك ، أو إنما أنتم الذين حللتم وحرمتم على حسب أهوائكم . لأنه لو أذن لكم في ذلك لبينه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال صاحب الكشاف : " وقوله : { ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ } متعلق بأرأيتم ، وقل . تكرير للتوكيد . والمعنى أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم ، فأنتم تفعلون ذلك بإذنه ، أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه . ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار وأم منقطعة ، بمعنى : بل أتفترون على الله ، تقريرا للافتراء .
ثم قال : وكفى بهذه الآية زاجرا بليغا عن التجوز فيما يسأل عنه من الأحكام ، وباعثة على وجوب الاحتياط فيه ، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلا بعد إيقان وإتقان ، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت وإلا فهو مفتر على الله " .
وفي ظل هذا الحديث عن فضل اللّه ورحمته ، المتمثلين فيما جاء للناس من موعظة وهدى وشفاء لما في الصدور ، يتعرض السياق للجاهلية ، وهي تزاول حياتها العملية ، لا وفق ما جاء من عند اللّه ؛ ولكن وفق أهواء البشر ، واعتدائهم على خصائص اللّه سبحانه ، ومزاولتهم أمر التحليل والتحريم فيما رزقهم اللّه :
( قل : أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً ! قل : آللّه أذن لكم ? أم على اللّه تفترون ? وما ظن الذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة ? إن الله لذو فضل على الناس ، ولكن أكثرهم لا يشكرون ) . .
قل : ماذا ترون في رزق اللّه الذي أنزله إليكم ? - وكل ما جاء من عند اللّه في عليائه إلى البشر فهو منزل من ذلك المقام الأعلى - ماذا ترون في هذا الرزق الذي أعطاه لكم ، لتتصرفوا فيه وفق إذنه وشرعه ، فإذا أنتم - من عند أنفسكم ودون إذن من اللّه لكم - تحرمون منه أنواعاً وتحلون منه أنواعاً . والتحريم والتحليل تشريع . والتشريع حاكمية . والحاكمية ربوبية . وأنتم تزاولونها من عند أنفسكم :
( قل : آللّه أذن لكم ? أم على اللّه تفترون ? ) .
إنها القضية التي يتكرر ذكرها في القرآن الكريم ؛ وتواجه بها الجاهلية بين الحين والحين . . ذلك أنها القضية الكبرى التالية لشهادة أن لا إله إلا اللّه . بل إنها هي هي في حالة التطبيق الواقعي في الحياة .
إن الاعتراف بأن اللّه هو الخالق الرازق يستتبعه حتماً أن يكون اللّه هو الرب المعبود ؛ وأن يكون هو الذي يحكم في أمر الناس كله . . ومنه أمر هذه الأرزاق التي أعطاها اللّه للبشر ، وهي تشمل كل ما يرزقهم من السماء والأرض . . والجاهليون العرب كانوا يعترفون بوجود اللّه - سبحانه - وبأنه الخالق الرازق - كما يعترف اليوم ناس يسمون أنفسهم " المسلمين ! " . ثم كانوا مع هذا الاعتراف يزاولون التحريم والتحليل لأنفسهم فيما رزقهم اللّه - كما يزاول ذلك اليوم ناس يسمون أنفسهم " المسلمين ! " - وهذا القرآن يواجههم بهذا التناقض بين ما يعترفون به من وجود اللّه ومن أنه الخالق الرازق ؛ وما يزاولونه في حياتهم من ربوبية لغير اللّه تتمثل في التشريع الذي يزاوله نفر منهم ! وهو تناقض صارخ يدمغهم بالشرك ؛ كما يدمغ كل من يزاول هذا التناقض اليوم وغداً وإلى آخر الزمان . مهما اختلفت الأسماء واللافتات . فالإسلام حقيقة واقعة لا مجرد عنوان !
ولقد كان الجاهليون العرب يزعمون - كما يزعم اليوم ناس ممن يسمون أنفسهم " المسلمين " - أن هذا الذي يزاولونه من التحريم والتحليل إنما أذن لهم به اللّه . أو كانوا يقولون عنه : شريعة اللّه !
وقد ورد في سورة الأنعام ادعاؤهم أن هذا الذي يحرمونه وهذا الذي يحلونه شرعه اللّه . . وذلك في قوله تعالى : ( وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها ، وأنعام لا يذكرون اسم اللّه عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون ) . . فهم كانوا يقولون : إن اللّه يشاء هذا ، ولا يشاء هذا . . افتراء على اللّه . . كما أن ناساً اليوم يدعون أنفسهم " مسلمين " يشرعون من عند أنفسهم ثم يقولون : شريعة اللّه !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.