وقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } جملة مستأنفة إما مؤكدة لقوله { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ذكرت للتخويف بأنه رقيب من حيث لا يرى فيجب أن يخاف ويحذر ، وأما مؤكدة أعظم تأكيد لما تقرر قبل من تنزهه وتعاليمه عما وصفه به المشركون ، ببيان أنه لا تراه الأبصار المعبودة وهى أبصار أهل الدنيا لجلاله وكبريائه وعظمته . فكيف يكون له ولد ؟
والإدراك : اللحاق والوصل إلى الشىء والإحاطة به . والأبصار جمع بصر يطلق - كما قال الراغب - على الجارحة الناظرة وعلى القوة التى فيها .
والمعنى : لا تحيط بعظمته وجلاله على ما هو عليه - سبحانه - أبصار الخلائق ، أو لا تدركه الأبصار إدراك إحاطة بكنهه وحقيقته فإن ذلك محال والإدراك بهذا المعنى أخص من الرؤية التى هى مجرد المعاينة ، فنفيه لا يقتضى نفى الرؤية ، لأن نفى الأخص لا يقتضى نفى الأعم فأنت ترى الشمس والقمر ولكنك لا تدرك كنههما وحقيقتهما .
هذا : وهناك خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة فى مسألة رؤية الله - تعالى - فى الآخرة .
أما أهل السنة فيجيزن ذلك ويستشهدون بالكتاب والسنة ، فمن الكتاب قوله - تعالى - { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } ومن السنة ما رواه الشيخان عن جرير بن عبد الله البجلى قال : كنا جلوساً عند النبى صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر وقال : " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر ، لا تضامون فى رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ ( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) " .
قال الإمام ابن كثير : تواترت الأخبار عن النبى صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله فى الدار الآخرة فى العرصات وفى روضات الجنات " .
أما المعتزلة فيمنعون رؤية المؤمنين لله - تعالى - فى الآخرة ، واستدلوا فيما استدلوا بهذه الآية ، وقالوا : إن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين ما أدركته ببصرى ورأيته إلا فى اللفظ .
والذى نراه أن رأى أهل السنة أقوة لأن ظواهر النصوص تؤيدهم ولا مجال هنا لبسط حجج كل فريق ، فقد تكفلت بذلك كتب علم الكلام .
وقوله { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } أى : وهو يدرك القوة التى تدرك بها المبصرات . ويحيط بها علما ، إذ هو خالق القوى والحواس .
وقوله { وَهُوَ اللطيف الخبير } أى : هو الذى يعامل عباده باللطف والرأفة وهو العليم بدقائق الأمور وجلياتها .
ثم تعبير عن صفة الله سبحانه ، يغشى الجوانح والحنايا بظلال ما أحسب أن لغة البشر تملك لها وصفا ، فلندعها تلقي ظلالها في شفافية ولين ؛ وترسم المشهد الذي يغلف فيه ما يهول ويروع من صفة الله ، بما يطمئن ويروح ، ويشف شفافية النور :
( لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ) . .
إن الذين كانوا يطلبون في سذاجة أن يروا الله ، كالذين يطلبون في سماجة دليلا ماديا على الله ! هؤلاء وهؤلاء لا يدركون ماذا يقولون !
إن أبصار البشر وحواسهم وإدراكهم الذهني كذلك . . كلها إنما خلقت لهم ليزاولوا بها التعامل مع هذا الكون ، والقيام بالخلافة في الأرض . . وإدراك آثار الوجود الإلهي في صفحات هذا الوجود المخلوق . . فأما ذات الله - سبحانه - فهم لم يوهبوا القدرة على إدراكها . لأنه لا طاقة للحادث الفاني أن يرى الأزلي الأبدي . فضلا على أن هذه الرؤية لا تلزم لهم في خلافة الأرض . وهي الوظيفة التي هم معانون عليها وموهوبون ما يلزم لها . .
وقد يفهم الإنسان سذاجة الأولين . ولكنه لا يملك أن يفهم سماجة الآخرين ! إن هؤلاء يتحدثون عن " الذرة " وعن " الكهرب " وعن " البروتون " وعن " النيوترون " . . وواحد منهم لم ير ذرة ولا كهربا ولا بروتونا ولا نيوترونا في حياته قط . فلم يوجد بعد الجهاز المكبر الذي يضبط هذه الكائنات . . ولكنها مسلمة من هؤلاء كفرض ، ومصداق هذا الفرض أن يقدروا آثارا معينة تقع لوجود هذه الكائنات . فإذا وقعت هذه الآثار [ جزموا ] بوجود الكائنات التي أحدثتها ! بينما قصارى ما تصل إليه هذه التجربة هو " احتمال " وجود هذه الكائنات على الصفة التي افترضوها ! . . ولكنهم حين يقال لهم عن وجود الله - سبحانه - عن طريق آثار هذا الوجود التي تفرض نفسها فرضا على العقول ! يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، ويطلبون دليلا ماديا تراه الأعين . .
كأن هذا الوجود بجملته ، وكأن هذه الحياة بأعاجيبها لا تكفي لتكون هذا الدليل !
وكذلك يعقب السياق القرآني على ما عرضه من آيات في صفحة الوجود وفي مكنونات النفوس . وعلى تقريره عن ذات الله سبحانه بأنه : ( لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.