وقوله - تعالى - : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } أمر من الله - تعالى - لأتباع سيدنا عيسى - عليه السلام - الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكموا فيام بينهم بمقتضى أحكام الإِنجيل بدون تحريف أو تبديل . أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته ، لأن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم نسخت ما قبلها من شرائع .
قال الآلوسي ما ملخصه ، قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله ، بل هو إبطال وتعطيل له إذا هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها ، واختار كونه أمراً مبتدأ الجبائي .
وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله ( وآتيناه ) .
أي : - وآتينا عيسى ابن مريم الإِنجيل فيه هدى ونور - وقلنا ليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه . وحذف القول - لدلالة ما قبله عليه - كثير في الكلام . ومنه قوله - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم } واختار ذلك على بن عيسى .
وقرأ حمزة { وَلْيَحْكُمْ } - بكسر اللام وفتح الميم - بأن مضمرة - بعد لام كي - والمصدر معطوف على { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً } على تقدير كونهما معللين . أي : وآتيناه ليحكم .
وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله - تعالى - . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق . وعن السنن القويم ، والصراط المستقيم .
قال أبو حيان : قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } ناسب هنا ذكرالفسق .
لأنه خرج عن أمر الله - تعالى - إذ تقدم قوله : ( وليحكم ) وهو أمر كما قال - تعالى - للملائكة { اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي : خرج عن طاعته .
وقال صاحب المنار ما ملخصه : وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسق في الثالثة .
ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع ، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور ، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به . فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، مؤثرا لغيره عليه . يكون كافرا به .
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإِيمان ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء . فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه .
وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإِنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته . فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية ، والخروج عن محيط تأديب الشريعة .
{ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلََئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلْيَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ فقرأ قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين : ولْيَحْكُمْ بتسكين اللام على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه . وكأنّ من قرأ ذلك كذلك أراد : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه . فيكون في الكلام محذوف ترك استغناء بما ذكر عما حذف .
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة : «وَلِيَحْكُمَ أهْلُ الإنْجيلِ » بكسر اللام من «ليحكم » ، بمعنى : كي يحكم أهل الإنجيل . وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك : وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وكي يحكم أهله بما فيه من حكم الله . والذي يتراءى في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى ، فبأيّ ذلك قرأ قارىء فمصيب فيه الصواب وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابا على نبيّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه ، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه ، فللعمل بما فيه أنزله ، وأمر بالعمل بما فيه أهله . فكذلك الإنجيل ، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى ، وأمر بالعمل به أهله . فسواء قرىء على وجه الأمر بتسكين اللام أو قرىء على وجه الخبر بكسرها لاتفاق معنييهما . وأما ما ذكر عن أبيّ بن كعب من قراءته ذلك : «وإنِ أحْكُمْ » على وجه الأمر ، فذلك مما لم يصحّ به النقل عنه ، ولو صحّ أيضا لم يكن في ذلك ما يوجب أن تكون القراءة بخلافه محظورة ، إذ كان معناها صحيحا ، وكان المتقدمون من أئمة القرّاء قد قراءوا بها . وإذا كان الأمر في ذلك ما بينا ، فتأويل الكلام إذا قرىء بكسر اللام من «لِيحكم » : وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل ، فيه هدى ونور ، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة ، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا فيه ، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه ، ولكنهم خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه هم الفاسقون . وكان ابن زيد يقول : الفاسقون في هذا الموضع وفي غيره : هم الكاذبون .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَليَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُون قال : ومن لم يحكم من أهل الإنجيل أيضا بذلك ، فأولئك هم الفاسقون قال : الكاذبون بهذا . قال : وقال ابن زيد : كلّ شيء في القرآن إلا قليلاً «فاسق » فهو كاذب وقرأ قول الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ قال : الفاسق ههنا : كاذب .
وقد بينا معنى الفسق بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } " عليه " في قراءة حمزة ، وعلى الأول اللام متعلقة بمحذوف أي وآتيناه ليحكم ، وقرئ : " وأن ليحكم " على أن أن موصولة بالأمر كقولك : أمرتك بأن قم أي وأمرنا بأن ليحكم . { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } عن حكمه ، أو عن الإيمان إن كان مستهينا به ، والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام وأن اليهودية منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة والسلام ، وأنه كان مستقلا بالشرع وحملها على وليحكموا بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة خلاف الظاهر .
وقرأ أبيّ بن كعب «وأن ليحكم » بزيادة أن . وقرأ حمزة وحده «وِليحكمَ » بكسر اللام وفتح الميم على لام( كي ) ونصب الفعل بها ، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه ، وقرأ باقي السبعة «ولْيحكم » بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل . ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم . وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله . ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية ، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها .
جملة { وليحكم } معطوفة على { آتيناه } . وقرأ الجمهور { ولْيحكم } بسكون اللاّم وبجزم الفعل على أنّ اللام لام الأمر . ولا شكّ أنّ هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام ، فهو ممّا أمر الله به الّذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنّصارى ، فعلم أنّ في الجملة قولاً مقدّراً هو المعطوف على جملة { وآتيناه الإنجيل } ، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصّفات العظيمة ، وقلنا : ليحكم أهل الإنجيل ، فيتمّ التّمهيد لقوله بعده { ومن لم يحكم بما أنزل الله } ، فقرائن تقدير القول مُتظافِرة من أمور عدّة .
وقرأ حمزة بكسر لام { ليحكم } ونصب الميم على أنّ اللام لام كي للتّعليل ، فجملة { ليحكم } على هذه القراءة معطوفة على قوله { فيه هدى } الخ ، الّذي هو حال ، عُطفتتِ العلّة على الحال عطفاً ذِكرياً لا يشرِّك في الحكم لأنّ التّصريح بلام التّعليل قرينة على عدم استقامة تشريك الحكم بالعطف فيكون عطفه كعطف الجمل المختلفة المعنى . وصاحب « الكشاف » قدّر في هذه القراءة فعلاً مَحذوفاً بعد الواو ، أي وآتيناه الإنجيل ، دلّ عليه قوله قبله { وآتيناه الإنجيل } ، وهو تقدير معنى وليس تقدير نظم الكلام .
والمراد بالفاسقين الكافرون ، إذ الفسق يطلق على الكفر ، فتكون على نحو ما في الآية الأولى . ويحتمل أنّ المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنّهم يخالفونه فيكون ذمّاً للنصارى في التّهاون بأحكام كتابهم أضعفَ من ذمّ اليهود .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَلْيَحْكُمْ أهْلُ الإنْجِيلِ"؛ فقرأ قرّاء الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: "ولْيَحْكُمْ "بتسكين اللام على وجه الأمر من الله لأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من أحكامه. وكأنّ من قرأ ذلك كذلك أراد: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. فيكون في الكلام محذوف ترك استغناء بما ذكر عما حذف.
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة: «وَلِيَحْكُمَ أهْلُ الإنْجيلِ» بكسر اللام من «ليحكم»، بمعنى: كي يحكم أهل الإنجيل. وكأن معنى من قرأ ذلك كذلك: وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة، وكي يحكم أهله بما فيه من حكم الله. والذي يتراءى في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا المعنى، فبأيّ ذلك قرأ قارئ فمصيب فيه الصواب وذلك أن الله تعالى لم ينزل كتابا على نبيّ من أنبيائه إلا ليعمل بما فيه أهله الذين أمروا بالعمل بما فيه، ولم ينزله عليهم إلا وقد أمرهم بالعمل بما فيه، فللعمل بما فيه أنزله، وأمر بالعمل بما فيه أهله. فكذلك الإنجيل، إذ كان من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه، فللعمل بما فيه أنزله على عيسى، وأمر بالعمل به أهله. فسواء قرئ على وجه الأمر بتسكين اللام أو قرئ على وجه الخبر بكسرها لاتفاق معنييهما... وإذا كان الأمر في ذلك ما بينا، فتأويل الكلام إذا قرئ بكسر اللام من «لِيحكم»: وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل، فيه هدى ونور، ومصدّقا لما بين يديه من التوراة، وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزلنا فيه، فلم يطيعونا في أمرنا إياهم بما أمرناهم به فيه، ولكنهم خالفوا أمرنا الذي أمرناهم به فيه هم الفاسقون. وكان ابن زيد يقول: الفاسقون في هذا الموضع وفي غيره: هم الكاذبون.
قال: وقال ابن زيد: كلّ شيء في القرآن -إلا قليلاً- «فاسق» فهو كاذب، وقرأ قول الله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ" قال: الفاسق ههنا: كاذب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قال الله تعالى في هذه السورة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} وقال في موضع آخر {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال في هذه الآية {... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} أمّا في الأول فقال: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتي ثَمَنًا قَلِيلاً} {فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرِونَ} لأن من لم يحكم بما أنزل الله فهو جاحد والجاحد كافر. وفي الثاني قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأن مَنْ جاوز حدّ القصاص واعتبار المماثلة، وتعدى على خصمه فهو ظالم لأنه ظَلَمَ بعضهم على بعض. وأمّا ها هنا فقال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ... فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} أراد به معصيةً دون الكفر والجحد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله... وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
فإن قيل: كيف جاز أن يؤمروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟ قلنا: الجواب عنه من وجوه: الأول: أن المراد ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم. والثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، مما لم يصر منسوخا بالقرآن. والثالث: المراد من قوله {وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه} زجرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره مثل ما فعله اليهود من إخفاء أحكام التوراة، فالمعنى بقوله {وليحكم} أي وليقر أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية، وقلنا لهم: احكموا، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع... أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره. فالمعنى: وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه، وهذا بعيد...
وظاهر الأمر يرد قول من قال: إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة. وقال تعالى: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} ولهذا القائل أن يقول: بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة. والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة، وإنما أكثره زواجر...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان التقدير: آتيناه ذلك لينتهي أهل التوراة عما نسخه منها، عطف عليه قوله: {وليحكم} في قراءة حمزة بكسر اللام والنصب، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم: فلينته أهل التوراة عما نسخ منها وليحكم {أهل الإنجيل} وهم أتباع عيسى عليه السلام {بما أنزل الله} أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال {فيه} من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام.
ولما كان التقدير: فمن انتهى فأولئك هم المسلمون، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون، عطف عليه قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء، وكل شيء إليه مفتقر، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره؛ وهو غير منسوخ، تديناً بتركه أو لشهوة دعت {فأولئك} أي البعداء عن كل خير البغضاء {هم الفاسقون} أي المختصون بكمال الفسق، فإن كان تديناً كان كفراً، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن دائرة الشرع مرة بعد أخرى، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث: ستر الدلائل فتنقل من درجة النور إلى دركة الظلام، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن، فانحط إلى أقبح المساوي؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر، فحقق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها، وهذا إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة، لأن المعنى: ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه فهم فاسقون، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن جرف الكلم عن موضعه، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر، لأنه من الظلام، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة، والآية دالة على أن فيه أحكاماً، وكذا قوله تعالى في آل عمران: {ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم} [آل عمران: 5]، وهذا هو الحق، وأعظم ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وكيفما قرأت وفسرت لا تجد الآية تدل على أن الله تعالى يأمر النصارى في القرآن بالحكم بالإنجيل كما يزعم دعاة النصرانية بما يغالطون به عوام المسلمون. ولو فرضنا أنه أمرهم بذلك بعبارة أخرى لتعين أن يكون الأمر للتعجيز وإقامة الحجة عليهم، فإنهم لا يستطيعون العمل بالإنجيل ولن يستطيعوا. وسيأتي لهذا البحث تتمة.
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي فأولئك هم الخارجون من حظيرة الدين الذين لا يعدون منه في شيء، أو الخارجون من الطاعة له، المتجاوزون لأحكامه وآدابه.
بحث في عدم الحكم بما أنزل الله وكونه كفرا وظلما وفسقا:
الكفر والظلم والفسق كلمات تتوارد في القرآن على حقيقة واحدة، وترد بمعاني مختلفة، كما بيناه في تفسير {والكافرون هم الظالمون} [البقرة:254] من سورة البقرة. وقد اصطلح علماء الأصول والفروع على التعبير بلفظ الكفر عن الخروج من الملة وما ينافي دين الله الحق، دون لفظي الظلم والفسق. ولا يسع أحدا منهم إنكار إطلاق القرآن لفظ الكفر على ما ليس كفرا في عرفهم، ولكنهم يقولون (كفر دون كفر) ولا إطلاقه لفظي الظلم والفسق على ما هو كفر في عرفهم، وما كل ظلم أو فسق يعد كفرا عندهم. بل لا يطلقون لفظ الكفر على شيء مما يسمونه ظلما أو فسقا. لأجل هذا كان الحكم القاطع بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله محلا للبحث والتأويل عند من يوفق بين عرفه ونصوص القرآن.
وإذا رجعنا إلى المأثور في تفسير الآيات نراهم نقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أقوالا منها قوله: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، ومنها أن الآيات الثلاث في اليهود خاصة ليس في أهل الإسلام منها شيء. وروي عن الشعبي أن الأولى والثانية في اليهود والثالثة في النصارى. وهذا هو الظاهر، ولكن هذا لا ينفي أن ينال هذا الوعيد كل من كان منا مثلهم، وأعرض عن كتابه إعراضهم عن كتبهم، والقرآن عبرة يعبر به العقل من فهم الشيء إلى مثله. وقد ذكرت هذه الآيات عند حذيفة بن اليمان فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل قال حذيفة: نِعْم الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك (أي سير النعل) عزاه في الدر المنثور إلى عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. قال: وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال: نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حلو فهو لكم وما كان من مر فهو لأهل الكتاب. كأنه يرى أن ذلك في المسلمين. وأخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير أنه سأل سعيد بن جبير عن قوله تعالى: {ومن لم يحكم...
. ومن لم يحكم...} قال فقلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا. قال: اقرأ ما قبلها وما بعدها، قال: لا، بل نزلت علينا. ثم لقيت مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة، قلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا، قال: إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم. ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته ـ وذكر أنه ذكر له ما قاله سعيد ومقسم ـ قال: قالُ صدق، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال: فقال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته؟ قال: لقد وجدت له فضلا عظيما عليك وعلى مقسم. والمراد أن عدم الحكم بما أنزل الله أو تركه إلى غيره – وهو المراد – لا يعد كفرا بمعنى الخروج من الدين، بل بمعنى أكبر المعاصي.
وأقول: إن قول من قال إن هذه الآيات أو خواتم الآيات نزلت على بني إسرائيل. يراد به أنها نزلت في شأنهم لا أنها من كتابهم، إذ لا شيء يدل على أنها محكية، وإلا فهو خطأ. والأوليان منها في سياق الكلام على اليهود والثالثة في سياق الكلام على النصارى لا يجوز فيها غير ذلك. وعبارتها عامة لا دليل فيها على الخصوصية. ولا مانع يمنع من إرادة الكفر الأكبر في الأولى – وكذا الأخريان – إذا كان الإعراض عن الحكم بما أنزل الله ناشئا عن استقباحه وعدم الإذعان له وتفضيل غيره عليه، وهذا هو المتبادر من السياق في الأولى بمعونة سبب النزول كما رأيت في تصويرنا المعنى.
وإذا تأملت الآيات أدنى تأمل تظهر لك نكتة التعبير بوصف الكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية وبوصف الفسوق الثالثة، فالألفاظ وردت بمعانيها في أصل اللغة موافقة لاصطلاح العلماء. ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور والتزام الأنبياء وحكماء العلماء العمل والحكم به والوصية بحفظه. وختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان به، رغبة عن هدايته ونوره، مؤثرا لغيره عليه، فهو الكافر به، وهذا واضح لا يدخل فيه من لم يتفق له الحكم به أو من ترك الحكم به عن جهالة ثم تاب إلى الله، وهذا هو العاصي بترك الحكم الذي يتحامى أهل السنة القول بتكفيره، والسياق يدل على ما ذكرنا من التعليل.
وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإيمان وترجمان الدين، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء بالعدل والمساواة، فمن لم يحكم بذلك فهو الظالم في حكمه كما هو ظاهر. وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته لا بحسب ظواهر الألفاظ فقط، فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا بها فهم الفاسقون بالمعصية والخروج من محيط تأديب الشريعة.؟
وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين من قبلهم. وتركوا بالحكم بها بعض ما أنزل الله عليهم. فالذين يتركون ما أنزل الله في كتابه من الأحكام من غير تأويل يعتقدون صحته فإنه يصدق عليهم ما قاله الله تعالى في الآيات الثلاث أو في بعضها، كل بحسب حاله.؟ فمن أعرض عن الحكم بحد السرقة أو القذف أو الزنا غير مذعن له لاستقباحه إياه وتفضيل غيره من أوضاع البشر عليه فهو كافر قطعا. ومن لم يحكم به لعلة أخرى فهو ظالم إن كان في ذلك إضاعة الحق أو ترك العدل والمساواة فيه، وإلا فهو فاسق فقط، إذ لفظ الفسق أعم هذه الألفاظ، فكل كافر وكل ظالم فاسق ولا عكس. وحكم الله العام المطلق الشامل لما ورد فيه النص ولغيره مما يعلم بالاجتهاد والاستدلال هو العدل، فحيثما وجد العدل فهناك حكم الله – كما قال أحد الأعلام-.
ولكن متى وجد النص القطعي الثبوت والدلالة لا يجوز العدول عنه إلى غيره إلا إذا عارضه نص آخر اقتضى ترجيحه عليه كنص رفع الحرج في باب الضروريات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد جعل الله في الإنجيل هدى ونورا وموعظة للمتقين، وجعله منهج حياة وشريعة حكم لأهل الإنجيل.. أي إنه خاص بهم، فليس رسالة عامة للبشر -شأنه في هذا شأن التوراة وشأن كل كتاب وكل رسالة وكل رسول، قبل هذا الدين الأخير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... والمراد بالفاسقين الكافرون، إذ الفسق يطلق على الكفر، فتكون على نحو ما في الآية الأولى. ويحتمل أنّ المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنّهم يخالفونه فيكون ذمّاً للنصارى في التّهاون بأحكام كتابهم أضعفَ من ذمّ اليهود.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بعد أن أشارت الآيات السابقة إلى نزول الإِنجيل، أكّدت الآية الأخيرة أنّ حكم الله يقضي أن يطبق أهل الإِنجيل ما أنزله الله في هذا الكتاب من أحكام، فتقول الآية: (وليحكم أهل الإِنجيل ما أنزل الله فيه...). وبديهي أنّ القرآن لا يأمر بهذه الآية المسيحيين أن يواصلوا العمل بأحكام الإِنجيل في عصر الإِسلام، ولو كان كذلك لناقض هذا الكلام الآيات القرآنية الأُخرى، بل لناقض أصل وجود القرآن الذي أعلن الدين الجديد ونسخ الدين القديم، لذلك فالمراد هو أنّ المسيحيين تلقوا الأوامر من الله بعد نزول الإِنجيل بأن يعملوا بأحكام هذا الكتاب وأن يحكموها في جميع قضاياهم. وتؤكّد هذه الآية في النهاية فسق الذين يمتنعون عن الحكم بما أنزل الله من أحكام وقوانين فتقول: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأُولئك هم الفاسقون). ويلفت النظر إطلاق كلمة «الكافر» مرّة و«الظّالم» أُخرى و«الفاسق» ثالثة، في الآيات الأخيرة على الذين يمتنعون عن تطبيق أحكام الله، ولعل هذا التنوع في إطلاق صفات مختلفة إِنّما هو لبيان أنّ لكل حكم جوانب ثلاثة: أحدها: ينتهي بالمشرع الذي هو الله. والثّاني: يمس المنفذين للحكم (الحاكم أو القاضي). الثّالث: يرتبط بالفرد أو الأفراد الذين يطبق عليهم الحكم. أي أنّ كل صفة من الصفات الثلاث المذكورة قد تكون إِشارة إلى واحد من الجوانب الثلاثة، لأنّ الذي لا يحكم بما أنزل الله يكون قد تجاوز القانون الإِلهي وتجاهله، فيكون قد كفر بغفلته هذه، ومن جانب آخر ارتكب الظلم والجور بابتعاده عن حكم الله على انسان بريء مظلوم، وثالثاً: يكون قد خرج عن حدود واجباته ومسؤوليته، فيصبح بذلك من الفاسقين (لأنّ «الفسق» كما أوضحنا، يعني الخروج عن حدود العبودية والواجب).