التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (47)

وقوله - تعالى - : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } أمر من الله - تعالى - لأتباع سيدنا عيسى - عليه السلام - الذين وجدوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكموا فيام بينهم بمقتضى أحكام الإِنجيل بدون تحريف أو تبديل . أما الذين وجدوا بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فمن الواجب عليهم أن يصدقوه ويتبعوا شريعته ، لأن الشريعة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم نسخت ما قبلها من شرائع .

قال الآلوسي ما ملخصه ، قوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلى الله عليه وسلم وما قررته شريعته الشريفة من أحكام ، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله ، بل هو إبطال وتعطيل له إذا هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها ، لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها ، واختار كونه أمراً مبتدأ الجبائي .

وقيل هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على قوله ( وآتيناه ) .

أي : - وآتينا عيسى ابن مريم الإِنجيل فيه هدى ونور - وقلنا ليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه . وحذف القول - لدلالة ما قبله عليه - كثير في الكلام . ومنه قوله - تعالى - : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم } واختار ذلك على بن عيسى .

وقرأ حمزة { وَلْيَحْكُمْ } - بكسر اللام وفتح الميم - بأن مضمرة - بعد لام كي - والمصدر معطوف على { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً } على تقدير كونهما معللين . أي : وآتيناه ليحكم .

وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } تذييل مقرر ومؤكد لوجوب الامتثال لأحكام الله - تعالى - . أي : ومن لم يحكم بما أنزل الله ، فأولئك هم المتمردون الخارجون عن جادة الحق . وعن السنن القويم ، والصراط المستقيم .

قال أبو حيان : قوله { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } ناسب هنا ذكرالفسق .

لأنه خرج عن أمر الله - تعالى - إذ تقدم قوله : ( وليحكم ) وهو أمر كما قال - تعالى - للملائكة { اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي : خرج عن طاعته .

وقال صاحب المنار ما ملخصه : وأنت إذا تأملت الآيات السابقة ظهر لك نكتة التعبير بالكفر في الأولى وبوصف الظلم في الثانية ، وبوصف الفسق في الثالثة .

ففي الآية الأولى كان الكلام في التشريع ، وإنزال الكتاب مشتملا على الهدى والنور ، والتزام الأنبياء وحكماء العلماء بالعمل والحكم به . فكان من المناسب أن يختم الكلام ببيان أن كل معرض عن الحكم به لعدم الإذعان له ، مؤثرا لغيره عليه . يكون كافرا به .

وأما الآية الثانية فلم يكن الكلام فيها في أصل الكتاب الذي هو ركن الإِيمان ، بل في عقاب المعتدين على الأنفس أو الأعضاء . فمن لم يحكم بحكم الله في ذلك يكون ظالما في حكمه .

وأما الآية الثالثة فهي في بيان هداية الإِنجيل وأكثرها مواعظ وآداب وترغيب في إقامة الشريعة على الوجه الذي يطابق مراد الشارع وحكمته . فمن لم يحكم بهذه الهداية ممن خوطبوا فهم الفاسقون بالمعصية ، والخروج عن محيط تأديب الشريعة .