اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (47)

قوله تعالى : { وَلْيَحْكُمْ } قرأ الجمهور بسكون " اللام " وجزم الفعل بعدها على أنها لام الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب " كَتْف " وإن كان أصلها الكسر ، وقد قرأ بعضهم{[11915]} بهذا الأصل .

وقرأ حمزة والأعمش{[11916]} ، بكسرها ونصب الفعل بعدها ، جعلها لام " كي " ، فنصب الفعل بعدها بإضمار " أن " على ما تقرر غير مَرّة ، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكون جملة مستأنفة .

وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق " اللام " ب " آتينا " ، أو ب " قفَّيْنَا " إن جعلنا " هدى وموعظة " مفعولاً لهما ، أي : قَفَّينا للهدى والموعظة وللحكم ، أو آتيناه الهدى والموعظة والحكم ، وإن جَعَلْنَاهما حالين معطوفين على " مصدقاً " تعلَّق " وليحكم " في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ ، كأنه قيل : " وللحكم آتيناه ذلك " .

قال الزمخشري{[11917]} : فإن قلت : فإن نظمت " هدى وموعظة " في سِلْكِ " مصدقاً " فما تصنع بقوله : " وليحكم " ؟

قال شهاب الدين{[11918]} : أصنعُ به ما صنعت ب " هدى وموعظة " حيث جعلتهما مفعولاً لهما فأقدِّر : " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه " .

وقال ابن عطية{[11919]} قريباً من الوجه الأول ، أعني كون{[11920]} " وليحكم " مفعولاً له عطفاً على " هدى " والعامل " آتيناه " الملفوظ به ، فإنه قال : وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل .

قال أبو حيان{[11921]} : فعطف " وليحكم " على توهّم علةٍ ، ولذلك قال : " ليتضمن " وذكر أبو حيان قول الزمخشري السَّابق ، وجعله أقرب إلى الصواب من قول ابن عطية .

قال : لأنَّ الهدى الأول ، والنور والتصديق لم يؤت بها على أنها علّة ، إنما جيء بقوله : { فيه هدى ونور } على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحَالِ ، والحالُ لا تكون علةً ، فقوله : " ليتضمَّن كَيْتَ وكَيْتَ وليحكم " بعيد .

واختلف المفسرون{[11922]} في هذه الخواتم الثلاثة أعني : الكافرون الظالمون الفاسقون .

فقال القفال{[11923]} : صفات لموصوف واحد ، وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة باللفظ ما يوجب القدح في المعنى ، بل كما يقال : مَنْ أطاعَ اللَّهَ فَهُوَ البَرُّ ، ومن أطاعَ الله فهو المؤمنُ ، ومن أطاعَ الله فهو المُتَّقِي ؛ لأنَّ كُلَّ ذلك صفاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حاصِلةٌ لموْصُوفٍ واحدٍ وقال آخرون{[11924]} : الأوَّلُ في الْجَاحِدِ ، والثاني والثالث : في المُقِرِّ التاركِ ، وقال الأصم{[11925]} : الأوَّلُ والثاني في اليهُودِ ، والثالثُ في النَّصارى .

وقال الشَّعْبِيُّ : الأولى في المسلمين والثانيةُ في اليهودِ ، والثالثةُ : في النصارى ، لأنَّ قبلَ الأولى " فإنْ جَاءُوك فاحْكُم " ، و " كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ " ، و " يَحْكُمُ بها النَّبِيُّونَ " وَقَبْلَ الثانيةِ " وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم " وهم اليهودُ ، وقَبل الثَّالِثَةِ " وَلْيَحكُمْ أهْلُ الإنجِيلِ " وهمُ النَّصارى ، فكأنَّه خَصَّ كُلَّ واحدةٍ بما يليه وهذا أحْسَنُهَا .

وقرأ أبَيٌّ{[11926]} : " وَأنْ ليحكُم " بزيادة " أنْ " وليْسَ موضِعَ زيادَتِهَا .

فصل

مَنْ قَرَأ بِكَسْرِ اللامِ وفتحِ الميمِ جعل اللاَّم مُتعلقةً بقوله : " وآتَيْنَاهُ الإنجيلَ " فيكونُ المعْنَى : آتيناهُ الإنجيلَ ليحكُم ، ومن قرأ بِجَزْمِ اللام والميمِ على سبيلِ الأمْرِ ففيه وجهان :

أحدهما : أن يكون التقديرُ : وقُلْنا : لِيَحْكُمْ أهْلُ الإنجيلِ ، فيكونُ هذا إخباراً عمَّا فرض الله عليهم في ذلك الوقْتِ ، وحذفُ القولِ كثيرٌ كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] أيْ : يَقُولُونَ سلامٌ عليْكُم .

والثاني : أن يكونَ قوله : " وَلْيَحْكُمْ " ابتدَأ الأمْرَ للنَّصارى بالحُكْمِ بما في الإنجيلِ .

فإنْ قِيل : كيف يجُوزُ أن يُؤمَرُوا بالحُكْمِ بِمَا فِي الإنجيلِ بعد نزولِ القرآنِ ؟

فالجوابُ من وُجُوه :

[ الأول : ليحكم أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم .

الثاني : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن .

الثالث : المرادُ وليحكمْ أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه ]{[11927]} زجرهم عَنْ تحريفِ ما فِي الإنجيل وتَغْييرهِ كما فعله اليهودُ مِنْ إخفاءِ أحكامِ التَّوراةِ ، والمعنى : وَلْيُقِرّ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجْهِ الذي أنزلَهُ من غَيْرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عز وجل .


[11915]:ينظر: الدر المصون 2/535.
[11916]:ينظر: السبعة 244، والحجة 3/227، وحجة القراءات 227، والعنوان 87، وشرح شعلة 251، وشرح الطيبة 4/230، وإتحاف 1/536.
[11917]:ينظر: الكشاف 1/639.
[11918]:ينظر: الدر المصون 2/535.
[11919]:ينظر: المحرر الوجيز 2/199.
[11920]:في ب: كرب.
[11921]:ينظر: البحر المحيط 3/512.
[11922]:ينظر: تفسير الرازي 12/10.
[11923]:ينظر: المصدر السابق.
[11924]:ينظر: المحرر الوجيز 2/199، والبحر المحيط 3/511، والدر المصون 2/536. وينظر: تفسير الرازي 12/10.
[11925]:ينظر: تفسير الرازي 12/10.
[11926]:ينظر: البحر المحيط 3/511.
[11927]:سقط في أ.