الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَلۡيَحۡكُمۡ أَهۡلُ ٱلۡإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ} (47)

قوله تعالى : { وَلْيَحْكُمْ } : قرأ الجمهورُ بسكونِ اللامِ وجزمِ الفعل بعدها على أنها لامُ الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب " كَتْف " وإن كان أصلها الكسرَ ، وقد قرأ بعضُهم بهذا الأصلِ . وقرأ حمزة - رحمه الله - بكسرِها ونصبِ الفعل بعدها ، جعلها لامَ كي ، فنصبَ الفعلَ بعدها بإضمار " أن " على ما تقرر غيرَ مرة ، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكونُ جملةً مستأنفة ، وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق اللام ب " آتينا " أو ب " قَفَّيْنا " إن جعلنا " هدى وموعظة " مفعولاً لهما أي : قَفَّيْنا للهدى والموعظة وللحكم ، أو آتيناه الهدى والموعظةَ والحكم ، وإنْ جعلناهما حالين معطوفين على " مصدقاً " تعلَّق " وليحكم " في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ كأنه قيل : وللحكمِ آيتناه ذلك . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : فإنْ نَظَّمْتَ " هدى وموعظة " في سِلْك " مصدقاً " فما تصنعُ بقوله : " وليحكم " ؟ قلت : أصنعُ به ما صنعت ب " هدى وموعظة " حيث جعلتُهما مفعولاً لهما فأقدِّر : " وليحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه " وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول - أعني كون " وليحكم " مفعولاً له عطفاً على " هدى " والعاملُ " آتيناه " الملفوظُ به - فإنه قال : " وآيتناه الإِنجيل ليتضمِّن الهدى والنورَ والتصديق وليحكم أهل الإِنجيل " قال الشيخ : " فعطفَ " وليحكم " على توهُّم علةٍ ، ولذلك قال : " ليتضمن " وذكر الشيخُ قولَ الزمخشري السابقَ ، وجعله أقربَ إلى الصواب من قول ابن عطية ، قال : " لأنَّ الهدى الأول والنور والتصديق لم يؤتَ بها على أنها علةٌ ، إنما جيء بقوله { فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحال ، والحالُ لا تكونُ علةً ، فقوله : " ليتضمَّن كيتَ وكيت وليحكم " بعيدٌ .

وقد خُتِمت الآيةُ الأولى ب " الكافرون " والثانية ب " الظالمون " والثالثة ب " الفاسقون " لمناسباتٍ ذكرَها الناس ، وأحسنُ ما قيل فيها ما ذكره الشعبي من أن الأولى في المسلمين ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النصارى ، وذلك أنَّ قبل الأولى " فإنْ جاؤوك فاحكُمْ " وكيف " يُحَكِّمونك " ويَحْكُم بها النبيون " وقبل الثانية : " وكَتَبْنا عليهم " وهم اليهود ، وقبل الثالثة : " وليحكم أهل الإِنجيل " وهم النصارى ، فكأنه خصَّ كلَّ واحدة بما يليه . وقرأ أُبيّ : " وأن ليحكم " بزيادة " أن " ، وليس موضعَ زيادتِها .