ولما كان التقدير : آتيناه ذلك لينتهي{[26256]} أهل التوراة عما نسخه منها ، عطف عليه قوله : { وليحكم } في قراءة{[26257]} حمزة بكسر اللام والنصب ، والتقدير على قول الجماعة بالإسكان والجمع والجزم : فلينته أهل{[26258]} التوراة عما نسخ منها وليحكم { أهل الإنجيل } وهم أتباع عيسى عليه السلام { بما أنزل الله } أي الواحد الأحد الذي له جميع صفات الكمال { فيه } من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومن غير ذلك مما أودعناه إياه من الأحكام والمواعظ الجسام .
ولما كان التقدير : فمن انتهى فأولئك هم المسلمون ، ومن حكم بما أنزل الله فيه فأولئك هم المفلحون ، عطف عليه قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله } أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه ، فله كل شيء وليس لأحد معه شيء ، وكل شيء إليه مفتقر ، ولا افتقار له إلى شيء فيه أو في غيره ؛ وهو غير منسوخ ، تديناً بتركه أو{[26259]} لشهوة دعت{[26260]} { فأولئك } أي البعداء عن كل خير البغضاء { هم الفاسقون * } أي{[26261]} المختصون بكمال الفسق ، فإن كان تديناً كان كفراً ، وإن كان لاتباع الشهوات كان مجرد معصية ، لأن الحظوظ والشهوات تحمل على الخروج عن{[26262]} دائرة الشرع مرة بعد أخرى ، فمن ترك الحكم تكذيباً فقد جمع الدركات الثلاث : ستر{[26263]} الدلائل فتنقل{[26264]} من درجة النور إلى دركة الظلام ، فانكب في مهواة الخروج من المحاسن ، فانحط إلى أقبح المساوي ؛ والتعبير بالوصف المؤذن بالعراقة في مأخذ الاشتقاق معلم بأن المراد بكل واحد منها الكفر ، فحقق أن المراد منه الشرعي لا مطلق الستر غاية التحقيق ، فبين بوصفه بالظلم أنه ستر لما ينبغي إظهاره ، وبالفسق أنه بلغ في كونه في غير موضعه النهاية حتى خرق جميع دائرة المأذون فيه فخرج منها ، وهذا{[26265]} إشارة إلى ذنوب أهل الإنجيل لينتج نقض دعواهم البنوة والمحبة ، لأن المعنى : ومن الواضح بكتابك الذي جعل مهيمناً على جميع الكتب أنهم خالفوا أحكامه{[26266]} فهم فاسقون ، أي خارجون عما من شأنه الاستقرار فيه لنفعه ، فواقعون في الظلمة الموجبة لوضع الشيء في غير موضعه المقتضية للتغطية والستر ، وقدم الوصف بالكفر لأن السياق لمن جرف الكلم عن{[26267]} موضعه ، وغير ما كتب من محكم أحكام التوراة من الحدود ، وذلك هو التغطية التي هي معنى الكفر ، لأنه من الظلام ، كما أن الفسق سبب الظلم لأنه الخروج عما من شأنه النفع ، فكان الآخر أولاً في المعنى والأول نهاية في الحقيقة ، والآية دالة على أن فيه أحكاماً ، وكذا قوله تعالى في آل عمران :{ ولأُحل لكم بعض الذي حرم عليكم{[26268]} }[ آل عمران : 5 ] ، وهذا هو الحق ، {[26269]} وأعظم{[26270]} ما غيّر تحريم السبت الذي كان أعظم شعائرهم فأحله ، وغيَّر أيضاً غير ذلك من أحكامهم ؛ قال فيما رأيته من{[26271]} ترجمة إنجيل متى : سمعتم ما قيل للأولين : لا تقتل{[26272]} ، فإن من قتل{[26273]} وجبت عليه لائمة الجماعة ، ومن قال لأخيه : أحمق ، فقد وجبت عليه نار جهنم ، إن أنت قدمت قربانك على المذبح وذكرت{[26274]} هناك أن أخاك واجد عليك فدع قربانك هناك قدام المذبح ، وامض أولاً وصالح أخاك ، وحينئذ فائت وقدم قربانك{[26275]} ، كن متفهماً{[26276]} من خصمك سريعاً ما دمت معه في الطريق ، لئلا يسلمك الخصم إلى الحاكم ، والحاكم إلى المستخرج وتلقى في السجن ؛ وفي إنجيل لوقا : إذا رأيتم سحابة تطلع من المغرب قلتم : إن المطر يأتي ؛ فيكون كذلك ، وإذا هبت ريح الجنوب قلتم : سيكون حر ، يا مراؤن{[26277]} ! تحسنون تمييز وجه السماء والأرض وهذا الزمان كيف{[26278]} لا تميزونه{[26279]} ، ولا تحكمون بالصدق من قبل نفوسكم ! لأنك إذا ذهبت مع خصمك إلى الرئيس فأعطه ما يجب{[26280]} عليك في الطريق تتخلص منه ، لئلا يذهب بك إلى الحاكم فيدفعك الحاكم إلى المستخرج ويلقيك المستخرج في السجن ؛ وقال متى : الحق الحق أقول لك ! إنك لا تخرج من هناك حتى تؤدي آخر فلس عليك ، سمعتم ما قيل للأولين : لا تزن{[26281]} ، وأنا أقول لكم : إن كل من نظر إلى امرأة و{[26282]} اشتهاها فقد زنى بها في قلبه ، إن شككتك عينك اليمنى فاقلعها وألقها ، لأنه خير لك أن تهلك أحد{[26283]} أعضائك ولا تلقي جسدك كله في جهنم ، {[26284]} قيل : إن من طلق امرأته فيدفع لها{[26285]} كتاب الطلاق ، وأنا أقول لكم : إن من طلق امرأته{[26286]} من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في يمينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا اقول لكم : إن من طلق امرأته من غير كلمة زنا فقد جعلها زانية ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وأيضاً سمعتم ما قيل للأولين : لا تحنث في يمينك ، وأوف للرب قسمك ، وأنا أقول لكم : لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها{[26287]} كرسي الله ، ولا{[26288]} بالأرض لأنها موطىء{[26289]} قدميه ، ولا بيروشليم فإنها مدينة{[26290]} الملك{[26291]} العظيم ، ولا برأسك لأنك لا تقدر تصنع شعرة بيضاء أو سوداء ، ولتكن كلمتكم : نعم نعم ولا{[26292]} لا ، وما زاد على ذلك فهو من الشر ، سمعتم ما قيل : العين بالعين والسن بالسن ، وأنا أقول لكم : لا تقاوموا الشر ، ولكن من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ، ومن أراد خصومتك وأخذ ثوبك فدع له رداءك ، ومن سخّرك ميلاً فامض معه اثنين ، قال لوقا : وكل من سألك فأعطه ، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده ، ولا تطلب من الذي يأخذ مالك ، وكما تحبون أن يصنع الناس بكم كذلك فاصنعوا أنتم بهم ؛ وقال متى : سمعتم ما قيل{[26293]} : أحبب قريبك وابغض عدوك ، وأنا أقول لكم : حبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم ، وأحسنوا إلى من أبغضكم - وقال لوقا : يبغضكم - وصلوا على{[26294]} من يطردكم ويحزنكم ، لكيما تكونوا بني أبيكم الذي في السماوات ، لأنه المشرق شمسه على الأخيار والأشرار ، والممطر{[26295]} على الصديقين والظالمين ، وإذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم ! أليس العشارون{[26296]} يفعلون مثل ذلك ! وإن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل عملتم ! أليس كذلك{[26297]} يفعل العشارون ! وقال لوقا : إن كنتم إنما تحبون{[26298]} من يحبكم فأي أجر لكم ! إن الخطأة يحبون من يحبهم ، وإن صنعتم الخير مع من يحسن إليكم فأيّ فضل لكم ! إن الخطأة هكذا يصنعون ، وإن كنتم إنما تقرضون من تظنون أنكم تأخذون العوض منه فأي فضل لكم ! إن{[26299]} الخطأة أيضاً يقرضون الخطأة{[26300]} لكي يأخذوا{[26301]} منهم العوض ، لكن حبوا أعداءكم وأحسنوا إليهم ، وكونوا رحماء مثل أبيكم فهو رؤوف ، وقال متى : كونوا أنتم كاملين مثل أبيكم السمائي فهو كامل .
ثم قال في الفصل الثالث والثلاثين{[26302]} : وفي ذلك الزمان مر يسوع في سبت بالزروع وجاع تلاميذه ، فبدأوا{[26303]} يفركون سنبلاً ويأكلون - وفي لوقا : كان تلاميذه يقطعون السنبل ويفركون بأيديهم ويأكلون - فلما أبصرهم الفريسيون قالوا له : ها هو ذا تلاميذك يعملون ما لا يحل في السبت - وفي لوقا : لماذا تفعلون ما لا يحل أن يفعل في السبوت - فقال لهم{[26304]} : أما قرأتم ما صنع داود{[26305]} لما جاع هو والذين معه ! كيف دخل إلى بيت الله وأكل خبز التقدمة{[26306]} الذي لا يحل أكله إلا للكهنة ! قال مرقس : وأعطى الذين كانوا معه ، ثم قال لهم : السبت من أجل الإنسان كان{[26307]} ولم يخلق الإنسان من أجل السبت ؛ قال متى : أو{[26308]} ما{[26309]} قرأتم في الناموس أن الكهنة في السبت في الهيكل ينجسون السبت وليس عليهم جناح ! و{[26310]} أقول لكم : إن ههنا{[26311]} أعظم من الهيكل لو كنتم تعلمون ما هو مكتوب ، إني أريد الرحمة لا{[26312]} الذبيحة ، لِمَ تحكمون على من لا ذنب له ! وقال لوقا : ودخل بيت{[26313]} أحد الرؤساء الفريسيين في يوم{[26314]} سبت ليأكل خبزاً وهم كانوا يرصدونه{[26315]} فإذا إنسان به استسقاء ، فقال يسوع للكهنة والفريسيين : هل يحل أن يبرأ{[26316]} في السبت ؟ فسكتوا فأخذه وأبرأه ثم قال لهم : من منكم يقع ابنه في بئر يوم السبت ولا يصعده في الوقت ؟ فلم يقدروا أن يجيبوه عن هذا ؛ ثم قال متى : فجاء{[26317]} الفريسيون ليجربوه{[26318]} قائلين : هل يحل{[26319]} للإنسان أن يطلق امرأته لأجل كل{[26320]} كلمة ؟ أجاب :{[26321]} أما قرأتم{[26322]} أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكراً وأنثى ، من أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلصق بامرأته ، ويكونان كلاهما جسداً واحداً ، وليس هما اثنين لكن جسد واحد ، وما زوجه الله لا يفرقه الإنسان - وقال مرقس : لا يقدر إنسان يفرقه - قالوا له : لماذا أمر موسى أن يعطى{[26323]} كتاب الطلاق وتخلى{[26324]} ؟ قال لهم : موسى من أجل قسوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم - وفي مرقس{[26325]} : إنهم{[26326]} سألوه فقال{[26327]} لهم : بماذا{[26328]} أوصاكم موسى{[26329]} ؟ قالوا{[26330]} : أمر أن يكتب كتاب الطلاق وتخلى{[26331]} ، قال لهم يسوع : من أجل قسوة قلوبكم كتب لكم{[26332]} موسى هذه الوصية ، من البدء لم يكن هكذا ، وأقول لكم : من طلق امرأته من غير{[26333]} زنا فقد ألجأها إلى الزنا ، ومن تزوج مطلقة فقد زنى ، وفي إنجيل مرقس : وفي البيت أيضاً سأله التلاميذ عن هذا فقال لهم : من طلق امرأته وتزوج أخرى فقد زنى عليها ، وإن هي خلت زوجها وتزوجت آخر فهي زانية ؛ وفي لوقا : كل من يطلق امرأته ويتزوج أخرى فهو يزني ، وكل من تزوج مطلقة من زوجها فهو يزني ؛ قال متى : فقال له التلاميذ : إن كان هكذا علة الرجل مع المرأة فخير{[26334]} له أن لا يتزوج ، فقال لهم : ما كل أحد يستطيع هذا الكلام إلا الذين قد أعطوا ، الآن خِصيانُ ولدوا من بطون أمهاتهم ، وخصيان أخصاهم{[26335]} الناس ، وخصيان أخصوا نفوسهم من أجل ملكوت السماوات ، ومن استطاع أن يحتمل فليحتمل .