165- وهو الذي جعلكم خلفاء للأمم السابقة في عمارة الكون ، ورفع بعضكم فوق بعض درجات في الكمال المادي والمعنوي لأخذكم في أسبابه ، ليختبركم فيما أعطاكم من النعم كيف تشكرونها ؟ وفيما آتاكم من الشرائع كيف تعملون بها ؟ إن ربك سريع العقاب للمخالفين ، لأن عقابه آت لا ريب فيه وكل آت قريب ، وإنه لعظيم المغفرة لمخالفات التائبين المحسنين ، واسع الرحمة بهم .
ثم ختمت السورة بهذه الآية { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض } أى : خلائف القرون الماضية ، فأورثكم أرضهم لتخلفوهم فيها وتعمروها بعدهم .
وخلائف : جمع خليفة ، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة ، لأنه يخلفه .
وقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أى : فاوت بينكم فى الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوىء والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك .
ثم بين - سبحانه - العلة فى ذلك فقال : { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ } أى : ليختبركم فى الذى أنعم به عليكم ، يختبر الغنى فى غناه ويسأله عن شكره ، ويختبر الفقير فى فقره ويسأله عن صبره .
وفى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدنيا حلوة خضرة . وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت فى النساء " .
ثم رهب - سبحانه - من معصيته ، ورغب فى طاعته فقال . { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب } لمن عصاه وخالف رسله . { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أطاعه واتبع سبيل المؤمنين الصادقين .
أما بعد : فهذه هى سورة الأنعام التى عالجت من مبدئها إلى نهايتها قضية العقيدة بكل مقوماتها علاجاً قوياً حكيماً يهدى إلى الرشد لمن عنده الاستعداد لذلك ، والتى طوفت بالنفس البشرية فى الكون كله لترشدها إلى خلق هذا الكون ، وتجعلها تستجيب له وتنتفع بما منحها من نعم ، والتى كشفت عن مواطن الشرك ومظاهره فى كل مظانه ومكامنه . لتدمغه وتدحضه وتخلص النفس البشرية والحياة الإنسانية من أمراضه وأدرانه .
تلك هى سورة الأنعام التى نزلت مشعة بالملأ العظيم من الملائكة وذلك تفسير تحليلى لها ، لا نزعم أننا استقصينا فيه كل ما يتعلق بهذه السورة الكريمة ، من توجيهات وهدايات ، وإنما هو قبسات من نور القرآن الكريم ، نرجو الله أن ينفع به ، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم .
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنّ رَبّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنّهُ لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمته : والله الّذِي جَعَلَكُمْ أيها الناس خَلائِفَ الأرْضِ بأن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية ، واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض ، تخلفونهم فيها ، وتعمرونها بعدهم . والخلائف : جمع خليفة ، كما الوصائف جمع وصيفة ، وهي من قول القائل : خَلَف فلان فلانا في داره يَخْلُفُه فهو خليفة فيها ، كما قال الشماخ :
تُصِيبُهُمْ وتُخْطِئنِي المنَايا ***وأُخْلَفُ فِي رُبُوعٍ عَنْ رُبُوعِ
حدثني الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَهُوَ الّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ قال : أما خلائف الأرض : فأهلك القرون ، واستخلفنا فيها بعدهم .
وأما قوله : وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ فإنه يقول : وخالف بين أحوالكم ، فجعل بعضكم فوق بعض ، بأن ربع هذا على هذا بما بسط لهذا من الرزق ففضله بما أعطاه من المال والغنى على هذا الفقير فيما خوّله من أسباب الدنيا ، وهذا على هذا بما أعطاه من الأيد والقوّة على هذا الضعيف الواهن القُوَى ، فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا وخفض من درجة هذا عن درجة هذا . وذلك كالذي :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ يقول : في الرزق .
وأما قوله : لِيَبْلُوَكُمْ فِيما آتاكُمْ فإنه يعني : ليختبركم فيما خوّلكم من فضله ومنحكم من رزقه ، فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه والعاصي ، ومن المؤدّي مما آتاه الحقّ الذي أمره بأدائه منه والمفرط في أدائه .
القول في تأويل قوله تعالى : إنّ رَبّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإنّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .
يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن ربك يا محمد لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه ، ولمن ابتلي منه فيما منحه من فضله وطوْله ، توليا وإدبارا عنه ، مع إنعامه عليه وتمكينه إياه في الأرض ، كما فعل بالقرون السالفة . وَإنّهُ لَغَفُورٌ : وإنه لساتر ذنوب من ابتلي منه إقبالاً إليه بالطاعة عند ابتلائه إياه بنعمة ، واختباره إياه بأمره ونهيه ، فمغطّ عليه فيها وتارك فضيحته بها في موقف الحساب . رَحِيمٌ بتركه عقوبته على سالف ذنوبه التي سلفت بينه وبينه إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه .
{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } يخلف بعضكم بعضا ، أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام ، أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين . { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } في الشرف والغنى . { ليبلوكم فيما آتاكم } من الجاه والمال . { إن ربك سريع العقاب } لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده . { وإنه لغفور رحيم } وصف العقاب ولم يصفه إلى نفسه ، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيها على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.