ثم ختم - سبحانه - الحديث عن غزوة الأحزاب ، ببيان ما حل ببنى قريظة من عذاب مهين ، بسبب نقضهم لعهودهم فقال : { وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ } .
والصياصى : جمع صيصحة وهى كل ما يتحصن به من الحصون وغيرها . ومنه قيل لقرن الثور صيصة لأنه يدفع به عن نفسه .
أى : وبعد أن رحلت جيوش الأحزاب عنكم أيها المؤمنون - أنزل الله - تعالى - بقدرته الذين ظاهروهم وناصروهم عليكم ، وهم يهود بنى قريظة ، أنزلهم من حصونهم ، ومكنكم من رقابهم .
{ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } الشديد منكم ، بحيث صاروا مستسلمين لكم ، ونازلين على حكمكم .
{ فَرِيقاً } منهم { تَقْتُلُونَ } وهم الرجال . وتأسرون فريقا آخروهم الذرية والنساء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنزَلَ الّذِينَ ظَاهَرُوهُم مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيراً } .
يقول تعالى ذكره : وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وذلك هو مظاهرتهم إياه ، وعنى بذلك بني قريظة ، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله مِنْ أهْلِ الكِتابِ يعني : من أهل التوراة ، وكانوا يهود : وقوله : منْ صَياصِيهمْ يعني : من حصونهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وأنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ قال قريظة ، يقول : أنزلهم من صياصيهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ وهم بنو قُرَيظة ، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه ، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله . قال : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه ، وقد غسلت شقه ، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فقال : عفا الله عنك ، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة ، فانهض إلى بني قريظة ، فإني قد قطعت أوتارهم ، وفتحت أبوابهم ، وتركتهم في زلزال وبلبال قال : فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سلك سكة بني غنم ، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب قال : فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم : يا إخوان القردة ، فقالوا : يا أبا القاسم ما كنت فحاشا ، فنزلوا على حكم ابن معاذ ، وكان بينهم وبين قومه حلف ، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة ، وأومأ إليهم أبو لبابة أنه الذبح ، فأنزل الله : يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وأن تسبى ذراريهم ، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار ، فقال قومه وعشيرته : آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال : فإنكم كنتم ذوي عقار ، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم . وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال : «قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ، ووضعوا السلاح ، فلما كانت الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن ابن شهاب الزهري معتجرا بعمامة من استبرق ، على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج فقال : أقد وضعت السلاح يا رسول الله ؟ قال : «نعم » ، قال جبريل : ما وضعت الملائكة السلاح بعد ، ما رجعت الاَن إلاّ من طلب القوم ، إن الله يأمرك يا محمد بالسير إلى بني قريظة ، وأنا عامد إلى بني قريظة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا ، فأذّن في الناس : إن من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلاّ في بني قريظة . وقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إلى بني قريظة وابتدرها الناس ، فسار عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه حتى إذا دنا من الحصون ، سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله لا عليك ألاّ تدنو من هؤلاء الأخباث ، قال : «لِمَ ؟ أظُنّك سَمِعْتَ لي مِنْهُمْ أذًى » ، قال : نعم يا رسول الله . قال : «لَوْ قَدْ رأَونِي لَمْ يقُولُوا مِنْ ذلكَ شَيْئا » . فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال : «يا إخْوَانَ القِرَدَة هَلْ أخْزَاكُمُ اللّهُ وأنْزَلَ بِكُمْ نِقْمَتَهُ ؟ » قالُوا : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولاً ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة ، فقال : «هل مَرّ بِكُمْ أحَدٌ ؟ » فقالوا : يا رسول الله ، قد مرّ بنا دِحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ذَاكَ جَبْرَائِيلُ بعِثَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ يُزَلْزلُ بِهِمْ حُصُونَهُمْ ، وَيَقْذفُ الرّعْبَ فِي قُلُوبِهِمْ » فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها : بئر أنا ، فتلاحق به الناس ، فأتاه رجال من بعد العشاء الاَخرة ، ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يُصَلّيَنّ أحَدٌ العَصْرَ إلاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ » ، فصلوا العصر فما عابهم الله بذلك في كتابه ولا عنفهم به رسوله .
والحديث عن محمد بن إسحاق ، عن أبيه ، عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري ، قال : وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب . وقد كان حُيَيّ بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود ، إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإني عارض عليكم خلالاً ثلاثا ، فخذوا أيها قالوا : وما هنّ ؟ قال : نبايع هذا الرجل ونصدّقه ، فوالله لقد تبين لكم إنه لنبيّ مرسل ، وإنه الذي كنتم تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره قال : فإذا أبيتم هذه عليّ ، فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالاً مصلتين بالسيوف ، ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنتخذنّ النساء والأبناء ، قالوا : نقتل هؤلاء المساكين ، فما خير العيش بعدهم قال : فإذا أبيتم هذه عليّ ، فإن الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا ، فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرّة . قالوا : نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ؟ أما من قد علمت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك ؟ قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ، قال : ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف ، وكانوا من حلفاء الأوس ، نستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فرقّ لهم وقالوا له : يا أبا لبابة ، أترى أن ننزل على حكم محمد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنه الذبح قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خُنت الله ورسوله ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ، ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عُمده وقال : لا أبرح مكاني حتى يتوب الله عليّ مما صنعت وعاهد الله لا يطأ بني قريظة أبدا ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا . فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال : «أما إنّهُ لَوْ كانَ جاءَنِي لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ . أمّا إذْ فَعَلَ ما فَعَلَ ، فَمَا أنا بالّذي أُطْلِقُهُ مِنْ مَكانِه حتى يَتُوبَ اللّهُ عَلَيْهِ » ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بني هذيل ليسوا من بني قريظة ، ولا النضير ، نسبهم فوق ذلك ، هم بنو عمّ القوم ، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظي ، فمرّ بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة فلما رآه قال : مَنْ هَذَا ؟ قال : عمرو بن سعدى وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لا أغدر بمحمد أبدا ، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهمّ لا تحرمني إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب ، فلا يُدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا فذُكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه ، فقال : «ذَاكَ رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفائهِ » . قال : وبعض الناس كان يزعم أنه كان أُوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأصبحت رمته مُلقاة ، ولا يُدرَى أين ذهب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المقالة ، فالله أعلم .
فلما أصبحوا ، نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أُبيّ بن سلول ، فوهبهم له فلما كلّمته الأوس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا تَرْضَوْنَ يا مَعْشَرَ الأَوْسِ أنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ ؟ » قالوا : بلى ، قال : «فَذَاكَ إلى سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ » وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده ، كانت تداوي الجَرْحَى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : «اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفِيْدَةَ حتى أعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ » فلما حكّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة ، أتاه قومه فاحتملوه على حمار ، وقد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلاً جسيما ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في مواليك ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك ذلك لتُحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل ، فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ من كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، قال : قوموا إلى سيدكم ، فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاك مواليَك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، إن الحكم فيهم كما حكمت ، قال : نعم ، قال : وعلى من ههنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالاً له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «نَعَمْ » ، قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال ، وتقسّم الأموال ، وتْسبى الذراري والنساء .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : فحدثني محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أرْقِعَةٍ » ، ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار ابنة الحارث امرأة من بني النّجار . ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة ، التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالاً ، وفيهم عدوّ الله حُيَيّ بن أخطب ، وكعب بن أسد رأس القوم ، وهم ستّ مئة أو سبع مئة ، والمكثر منهم يقول : كانوا من الثمان مئة إلى التسع مئة ، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً : يا كعب ، ما ترى ما يُصنع بنا ؟ فقال كعب : أفي كلّ موطن لا تعقلون ؟ ألا ترون الداعي لا ينزع ، وإنه من يُذهب به منكم فما يرجع ، هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأُتي بحُييّ بن أخطب عدوّ الله ، وعليه حلة له فُقّاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة ، لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يُخْذَل ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب الله وقدره ، وملحمة قد كُتِبت على بني إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه فقال جبل بن جوّال الثعلبي :
لعَمرُكَ مَا لامَ ابنُ أخْطَبَ نَفْسه *** ولكنّهُ مَنْ يَخْذُلِ اللّهَ يُخْذَلِ
لجَاهَدَ حتى أبْلَغَ النّفْسَ عُذْرَها *** وقَلْقَلَ يَبغي العِزّ كلّ مُقَلْقَلِ
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالت : لم يقتل من نسائهم إلاّ امرأة واحدة ، قالت : والله إنها لعندي تحدّث معي وتضحك ظهرا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل رجالهم بالسوق ، إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة ؟ قالت : أنا والله . قالت : قلت : ويلك ما لك ؟ قالت : أقتل ؟ قلت : ولِمَ ؟ قالت : لحدث أحدثته قال : فانطلق بها ، فضُربت عنقها ، فكانت عائشة تقول : ما أنسى عجبي منها طيب نفس ، وكثرة ضحك ، وقد عرفت أنها تُقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني زيد بن رومان وأنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ والصياصي : الحصون والاَطام التي كانوا فيها وَقذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ .
حدثنا عمرو بن مالك البكري ، قال : حدثنا وكيع بن الجرّاح وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة مِنْ صَياصِيهِمْ قال : من حصونهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مِنْ صَياصِيهِمْ يقول : أنزلهم من صياصيهم ، قال : قصورهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله مِنْ صَياصِيهِمْ : أي من حصونهم وآطامهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأَنْزَلَ الّذِينَ ظاهَرُوهمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ قال : الصياصي : حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم من الله تبارك وتعالى .
وأصل الصياصي : جمع صيصة يقال : وعنى بها ههنا : حصونهم والعرب تقول لطرف الجبل : صيصة ويقال لأصل الشيء : صيصة يقال : جزّ الله صيصة فلان : أي أصله ويقال لشوك الحاكة : صياصي ، كما قال الشاعر :
*** كَوَقْعِ الصّياصِي فِي النّسِيجِ المُمَدّدِ ***
وهي شوكتا الديك . وقوله : وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ يقول : وألقى في قلوبهم الخوف منكم فَريقا تَقْتُلُونَ يقول : تقتلون منهم جماعة ، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم وتَأْسِرُونَ فَرِيقا يقول : وتأسرون منهم جماعة ، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فَرِيقا تَقْتُلُونَ الذين ضربت أعناقهم وتَأْسِرُونَ فَرِيقا الذين سبوا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان فَرِيقا تَقْتُلُونَ وتَأْسِرُونَ فَرِيقا أي قتل الرجال وسبى الذراريّ والنساء . وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وأمْوَالَهُم يقول : وملككم بعد مهلكهم أرضهم ، يعني مزارعهم ومغارسهم وديارهم يقول : ومساكنهم وأموالهم يعني سائر الأموال غير الأرض والدور .
وقوله : وأرْضا لَمْ تَطَئُوها اختلف أهل التأويل فيها ، أيّ أرض هي ؟ فقال بعضهم : هي الروم وفارس ونحوها من البلاد التي فتحها الله بعد ذلك على المسلمين . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأرْضا لَمْ تَطَئُوها قال : قال الحسن : هي الروم وفارس ، وما فتح الله عليهم .
وقال آخرون : هي مكة . وقال آخرون : بل هي خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان وأرْضا لَمْ تَطَئُوها قال : خيبر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ قال : قُرَيظة والنضير أهل الكتاب وأرْضا لَمْ تَطَئُوها قال : خيبر .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم ، وأرضا لم يطئوها يومئذٍ ولم تكن مكة ولا خَيبر ، ولا أرض فارس والروم ولا اليمن ، مما كان وطئوه يومئذٍ ، ثم وطئوا ذلك بعد ، وأورثهموه الله ، وذلك كله داخل في قوله وأرْضا لَمْ تَطَئُوها لأنه تعالى ذكره لم يخصص من ذلك بعضا دون بعض . وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرا يقول تعالى ذكره : وكان الله على أن أورث المؤمنين ذلك ، وعلى نصره إياهم ، وغير ذلك من الأمور قدرة ، لا يتعذّر عليه شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء حاول فعله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر يهود أهل قريظة حيي بن أخطب ومن معه، الذين أعانوا المشركين يوم الخندق على قتال النبي صلى الله عليه وسلم فقال عز وجل {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم} أعانوهم، تعني اليهود أعانوا المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.
{من أهل الكتاب} قريظة {من صياصيهم} من حصونهم.
{وقذف في قلوبهم الرعب فريقا} طائفة {تقتلون} فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا.
{وتأسرون فريقا} وتسبون طائفة سبعمائة وخمسين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأنزل الله الذين أعانوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك هو مظاهرتهم إياه، وعنى بذلك بني قريظة، وهم الذين ظاهروا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله "مِنْ أهْلِ الكِتابِ "يعني: من أهل التوراة، وكانوا يهود: وقوله: "منْ صَياصِيهمْ" يعني: من حصونهم...
عن قتادة، قوله: "وأنْزَلَ الّذينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ" وهم بنو قُرَيظة، ظاهروا أبا سفيان وراسلوه، فنكثوا العهد الذي بينهم وبين نبيّ الله. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش يغسل رأسه، وقد غسلت شقه، إذ أتاه جبرائيل صلى الله عليه وسلم، فقال: عفا الله عنك، ما وضعت الملائكة سلاحها منذ أربعين ليلة، فانهض إلى بني قريظة، فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم، وتركتهم في زلزال وبلبال قال: فاستلأم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سلك سكة بني غنم، فاتبعه الناس وقد عصب حاجبه بالتراب قال: فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناداهم: يا إخوان القردة، فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت فحاشا، فنزلوا على حكم ابن معاذ، وكان بينهم وبين قومه حلف، فرجوا أن تأخذه فيهم هوادة، وأومأ إليهم أبو لبابة أنه الذبح، فأنزل الله: "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتكمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ" فحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى ذراريهم، وأن عقارهم للمهاجرين دون الأنصار، فقال قومه وعشيرته: آثرت المهاجرين بالعقار علينا قال: فإنكم كنتم ذوي عقار، وإن المهاجرين كانوا لا عقار لهم. وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر وقال: «قَضَى فِيكُمْ بِحُكْمِ اللّهِ»...
وقوله: "وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهُمُ الرّعْبَ" يقول: وألقى في قلوبهم الخوف منكم "فَريقا تَقْتُلُونَ" يقول: تقتلون منهم جماعة، وهم الذين قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حين ظهر عليهم، "وتَأْسِرُونَ فَرِيقا" يقول: وتأسرون منهم جماعة، وهم نساؤهم وذراريهم الذين سبوا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنّ الحقَّ -سبحانه- إذا أجمل أكمل، وإذا شفى كفى، وإذا وفى أوفى. فأظفر المسلمين عليهم، وأورثهم معاقلَهم، وأذلّ مُتعزِّزَهم، وكفاهم بكلِّ وجهٍ أمرهم، ومكَّنهم من قَتْلِهم وأسرِهم ونهْبِ أَموالهم، وسَبى ذراريهم.
{وقذف} فإن قذف الرعب قبل الإنزال لأن الرعب صار سبب الإنزال، ولكن لما كان الفرح في إنزالهم أكثر، قدم الإنزال على قذف الرعب، والله أعلم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ}: وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة؛ ولهذا قال تعالى: {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أتم أمر الأحزاب، أتبعه حال الذين ألّبوهم، وكانوا سبباً في إتيانهم كحيي بن أخطب والذين مالأوهم على ذلك، ونقضوا ما كان لهم من عهد، فقال: {وأنزل الذين ظاهروهم}.
ثم بينهم بقوله مبعضاً: {من أهل الكتاب} وهم بنو قريظة ومن دخل معهم في حصنهم من بني النضير كحيي، وكان ذلك بعد إخراج بني قينقاع وبني النضير {من صياصيهم}
ولما كان الإنزال من محل التمنع عجباً، وكان على وجوه شتى، فلم يكن صريحاً في الإذلال، فتشوفت النفس إلى بيان حاله، بين أنه الذل فقال عاطفاً بالواو ليصلح لما قبل ولما بعد: {وقذف في قلوبهم الرعب} أي بعد الإنزال كما كان قذفه قبل الإنزال، فلو قدم القذف على الإنزال لما أفاد هذه الفوائد، ولا اشتدت ملاءمة ما بعده للإنزال.
ولما ذكر ما أذلهم به، ذكر ما تأثر عنه مقسماً له فقال: {فريقاً} فذكره بلفظ الفرقة ونصبه ليدل بادئ بدء على أنه طوع لأيدي الفاعلين: {تقتلون} وهم الرجال، وكان نحو سبعمائة.
ولما بدأ بما دل على التقسيم مما منه الفرقة، وقد أعظم الأثرين الناشئين عن الرعب، أولاه الأثر الآخر ليصير الأثران المحبوبان محتوشين بما يدل على الفرقة فقال: {وتأسرون فريقاً} ولعله أخر الفريق هنا ليفيد التخيير في أمرهم، وقدم في الرجال لتحتم القتل فيهم...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} أي الخوف الشديد بحيث أسلموا أنفسهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: {فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلاً عن المخالفة والاستعصاء.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا يتم استعراض ذلك الحادث الضخم، وقد اشتمل على السنن والقيم والتوجيهات والقواعد التي جاء القرآن ليقيمها في قلوب الجماعة المسلمة وفي حياتها على السواء، وهكذا تصبح الأحداث مادة للتربية؛ ويصبح القرآن دليلا وترجمانا للحياة وأحداثها، ولاتجاهها وتصوراتها، وتستقر القيم وتطمئن القلوب، بالابتلاء وبالقرآن سواء!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإنزال: الإهباط، أي: من الحصون أو من المعتصمات كالجبال.
والقذف: الإلقاء السريع، أي: جعل الله في قلوبهم الرعب بأمره التكويني فاستسلموا ونزلوا على حكم المسلمين.
{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.. وهو جندي من جنود الله، وهذا الرعب الذي ألقاه الله في قلوب الكافرين هو الذي فرقهم، ولم يجعل لكثرة العدد لديهم قيمة، وما فائدة أعداد كثيرة خائفة مذعورة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ.. (4)} [المنافقون].
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان عاقبة الغدر فإِن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلاّ الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.