المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (83)

83- أيطلبون ديناً غير دين محمد وهو دين الأنبياء وهو - وحده - دين الله - الذي خضع له كل من في السماوات والأرض طوعاً بالإرادة والاختيار ، أو كرهاً بالخلق والتكوين ، وإليه - وحده - يرجع الخلق كله ؟ .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (83)

وبعد أن بين - سبحانه - أن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم حق لا ريب فيه ، وأنه واجب على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، عقب ذلك ببيان أن كل من كره الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يكون بعيدا عن الدين الحق ، مستحقا للعقاب الأليم فقال - تعالى - { أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } .

والاستفهام للإنكار والتوبيخ ، وهمزة الاستفهام داخلة على فعل محذوف ، والفاء الداخلة على " غير " عاطفة لجملة { يَبْغُونَ } على ذلك المحذوف الذى دل عليه الاستفهام وعينه المقام .

والمعنى : أيتولون عن الإيمان بعد هذا البيان فيبغون دينا غير دين الله الذى هو الإسلام .

ومعنى { يَبْغُونَ } يطلبون . يقال بغى الأمر يبغيه بغاء - بضم الباء - أى طلبه . وقوله - تعالى - { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } جملة حالية . أى أيبغون دينا غير دين الله والحال أن الله - تعالى - استسلم وانقاد وخضع له من فى السموات والأرض طوعا وكرها . أى طائعين وكارهين فهما مصدران فى موضع الحال .

والمراد أن كل من فى السموات والأرض قد انقادوا وخضعوا لله - تعالى - إما عن طواعية واختيار وهم المؤمنون لأنهم راضون فى كل الأحوال بقضائه وقدره ، ومستجيبون له فى المنشط والمكره والعسر واليسر . وإما عن تسخير وقهر وهم الكافرون لأنهم واقعون تحت سلطانه العظيم وقدرته النافذة ، فهم مع كفرهم لا يستطيعون دفع قضائه - سبحانه - وإذن فهم خاضعون لسلطانه - عز وجل - لأنهم لا سبيل لهم ولا لغيرهم إلى الامتناع عن دفع ما يريده بهم .

هذا ، وقد ساق الفخر الرازى جملة آراء فى معنى الآية الكريمة ثم اختار أحدها فقال ما ملخصه : فى خضوع من فى السموات والأرض لله وجوه : أصحها عندى أن كل ما سوى الله - سبحانه - ممكن لذاته ، ولك ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ، ولا يعدم إلا بإعدامه ، فإن كل ما سوى الله فهو منقاد خاضع لجلال الله فى طرفى وجوده وعدمه . وهذا هو نهاية الخضوع والانقياد . ثم إن فى هذا الوجه لطيفة آخرى : وهى أن قوله

{ وَلَهُ أَسْلَمَ } يفيد الحصر ، أى وله كل ما فى السموات والأرض لا لغيره .

فهذه الآية تفيد أن واجب الوجود واحد ، وأن كل ما سواه فإنه لا يوجد إلا بتكوينه ، ولا يفنى إلا بإفنائه والآيات فى هذا المعنى كثيرة .

وقوله { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أى إليه وحده يرجع الخلق فيجازى كل مخلوق بما يستحقه من خير أو شر .

ففى الجملة الكريمة تحذير من الإعراض عن دينه ، لأنه ما دام مرجع الخلق جميعا إليه - سبحانه - فعلى العاقل أن يسلم نفسه إلى خالقه اختياراً قبل أن يسلمها اضطرارا ، وأن يستجيب لأوامره ونواهيه ، حتى ينال رضاه .

وبذلك تكون هذه الآيات الكريمة قد أقامت للناس الأدلة على صدق النبى صلى الله عليه وسلم وأمرتهم بالدخول فى دينه ، وحذرتهم من الإعراض عنه بأجلى بيان وأقوى برهان .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَفَغَيۡرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبۡغُونَ وَلَهُۥٓ أَسۡلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ طَوۡعٗا وَكَرۡهٗا وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُونَ} (83)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

اختلف القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز من مكة والمدينة وقراء الكوفة : «أفغير دين الله تبغون » ، «وإليه ترجعون » ، على وجه الخطاب . وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُون . . . وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } بالياء كلتيهما على وجه الخبر عن الغائب . وقرأ ذلك بعض أهل البصرة : { أَفَغَيْر دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ } على وجه الخبر عن الغائب ، «وإليه تُرجعون » بالتاء ، على وجه المخاطبة .

وأولى ذلك بالصواب قراءة من قرأ : «أفَعَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ » على وجه الخطاب «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » بالتاء ، لأن الآية التي قبلها خطاب لهم ، فإتباع الخطاب نظيره أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره ، وإن كان الوجه الاَخر جائزا لما قد ذكرنا فيما مضى قبل من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانا على الخطاب كله ، وأحيانا على وجه الخبر عن الغائب ، وأحيانا بعضه على الخطاب ، وبعضه على الغيبة ، فقوله : «تَبْغُونَ . . . وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » في هذه الآية من ذلك .

وتأويل الكلام : يا معشر أهل الكتاب : «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ » يقول : أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ } يقول : وله خشع من في السموات والأرض ، فخضع له بالعبودية ، وأقرّ له بإفراد الربوبية ، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية { طَوْعا وكَرْها } يقول : أسلم لله طائعا ، من كان إسلامه منهم له طائعا ، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين ، فإنهم أسلموا لله طائعين ، وكرها من كان منهم كارها .

واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام ، وصفته ، فقال بعضهم : إسلامه : إقراره بأن الله خالقه وربه ، وإن أشرك معه في العبادة غيره . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ } قال : هو كقوله : { وَلَئِنْ سألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالأرْضِ لَيَقُولُنّ اللّهُ } .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قال : كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربي وأنا عبده ، فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها ، ومن أخلص له العبودية فهو الذي أسلم طوعا .

وقال آخرون : بل إسلام الكاره منهم كان حين أخذ منه الميثاق ، فأقرّ به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها } قال : حين أخذ الميثاق .

وقال آخرون : عنى بإسلام الكاره منهم : سجود ظله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا سوَار بن عبد الله ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها } قال : الطائع : المؤمن ، وكرها : ظل الكافر .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : { طَوْعا وكَرْها } قال : سجود المؤمن طائعا ، وسجود الكافر وهو كاره .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَرْها } قال : سجود المؤمن طائعا ، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : سجود وجهه وظله طائعا .

وقال آخرون : بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله واستقادته لأمره ، وإن أنكر ألوهته بلسانه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ } قال : استقاد كلهم له .

وقال آخرون : عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرها حذر السيف على نفسه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها } . . . الاَية كلها ، فقال : أكره أقوام على الإسلام ، وجاء أقوام طائعين .

حدثني الحسن بن قزعة الباهلي ، قال : حدثنا روح بن عطاء ، عن مطر الورّاق في قول الله عزّ وجلّ : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } قال : الملائكة طوعا ، والأنصار طوعا ، وبنو سليم وعبد القيس طوعا ، والناس كلهم كرها .

وقال آخرون : معنى ذلك أن أهل الإيمان أسلموا طوعا ، وأن الكافر أسلم في حال المعاينة حين لا ينفعه إسلام كرها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ » . . . الآية ، فأما المؤمن فأسلم طائعا ، فنفعه ذلك ، وقبل منه¹ وأما الكافر فأسلم كارها ، حين لا ينفعه ذلك ، ولا يقبل منه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها } قال : أما المؤمن فأسلم طائعا ، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأس الله { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لمّا رَأَوْا بَأْسَنَا } .

وقال آخرون : معنى ذلك : في عبادة الخلق لله عزّ وجل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : «أفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ تَبْغُونَ وَلَهُ أسْلَمَ مَنْ فِي السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وَكَرْها » قال : عبادتهم لي أجمعين طوعا وكرها ، وهو قوله : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعا وَكَرْها } .

وأما قوله : «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » فإنه يعني : وإليه يا معشر من يبتغي غير الإسلام دينا من اليهود والنصارى ! وسائر الناس . «ترجعون » يقول : إليه تصيرون بعد مماتكم ، فمجازيكم بأعمالكم ، المحسن منكم بإحسانه ، والمسيء بإساءته . وهذا من الله عزّ وجلّ تحذير خلقه أن يرجع إليه أحد منهم ، فيصير إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام .