غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۖ كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡۚ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَآءَ ذَٰلِكُمۡ أَن تَبۡتَغُواْ بِأَمۡوَٰلِكُم مُّحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَۚ فَمَا ٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِهِۦ مِنۡهُنَّ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةٗۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيۡكُمۡ فِيمَا تَرَٰضَيۡتُم بِهِۦ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡفَرِيضَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمٗا} (24)

23

الصنف الرابع عشر { والمحصنات من النساء } وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان : أحدها الحرية { والذين يرمون المحصنات فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب }[ النور :4 ] وثانيها العفة { محصنات غير مسافحات } أحصنت فرجها . وثالثها الإسلام { فإذا أحصن } قيل في تفسيره إذا أسلمن . ورابعها كونها ذات زوج { والمحصنات من النساء } أي ذوات الأزواج منهن . والوجوه كلها مشتركة في أصل المعنى اللغوي وهو المنع . يقال : مدينة حصينة ودرع حصينة مانعة صاحبها من الآفات والجراحات . والحرية سبب لمنع الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه ، والعفة مانعة من ارتكاب المناهي ، وكذا الإسلام والزوج مانع لزوجته من كثير من الأمور ، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا . قرئ بكسر الصاد لأنهن أحصن فروجهن بالتزوج . ومعنى قوله : { إلاّ ما ملكت أيمانكم } أن اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين ؛ وهكذا إذا سبى الزوجان معاً خلافاً لأبي حنيفة قياساً على شراء الأمة واتهابها وارثها فإن كلاً منها لا يوجب الفرقة . وأجيب بأنّ الحاصل عند السبي إحداث الملك فيها ، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص ، والأول أقوى فظهر الفرق . وقيل : المعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلاّ إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع الفراق بينهن وبين أزواجهنّ . وقيل : المحصنات الحرائر . والمعنى حرمت عليكم الحرائر إلاّ العدد الذي جعله الله ملكاً لكم وهو الأربع ، أو إلاّ ما أثبت الله لكم ملكاً عليهن لحصول الشرائط المعتبرة من حضور الولي والشهود وغير ذلك ، والقول هو الأول لما روي عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : { والمحصنات من النساء إلاّ ما ملكت أيمانكم } فاستحللناهن . ثم أكد تحريم المذكورات بقوله : { كتاب الله عليكم } قال الزجاج : يحتمل أن يكون منصوباً باسم فعل ويكون { عليكم } مفسراً له أي الزموا كتاب الله . { وأحلّ لكم ما وراء ذلكم } أي ما وراء هذه المذكورات سواء كن مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو خفية أو ببيان النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا في تحريم الجمع بين الأختين وغيرهما . وقد دخل بعد هذه العناية في الآية تخصيصات أخر منها : أنّ المطلقة ثلاثاً لا تحل ودليل ذلك قوله :{ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }

[ البقرة :230 ] ومنها الحربية والمرتدة بدليل قوله :{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن }[ البقرة :221 ] ومنها المعتدة بدليل قوله :{ والمطلّقات يتربصن }[ البقرة :228 ] ومنها أن من في نكاحه حرة لم يجز له أن ينكح أمة بالاتفاق . وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة بدليل { ومن لم يستطع منكم طولاً } ومنها الخامسة بدليل { مثنى وثلاث ورباع }[ النساء :3 ] ومنها الملاعنة لقوله صلى الله عليه وسلم : " المتلاعنان لا يجتمعان أبدا " . وقوله : { أن تبتغوا } مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم في حال كونكم محصنين ولا في حال كونكم مسافحين ، لئلاّ تضيّعوا أموالكم التي جعل الله لكم قياماً فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم . ويجوز أن يكون { تبتغوا } بدلاً من { ما وراء ذلك } ومفعول { تبتغوا } مقدر وهو النساء . والأجود أن لا يقدر لأنّه مفهوم من سوق الكلام وكأنه قيل : أن تخرجوا أموالكم . ومعنى محصنين متعففين عن الزنا وسمي الزنا سفاحاً لأنّه لا غرض للزاني إلاّ سفح النطفة أي صبّها . قال أبو حنيفة : لا يجوز المهر بأقل من عشرة دراهم لأنّه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالاً . وقال الشافعي : يجوز بالقليل والكثير لأنّ قوله : { بأموالكم } مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد ، فيتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالاً ، والقليل والكثير في هذه الحقيقة سواء . وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق فقد استحل " وقال أبو حنيفة : لو تزوّج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهراً ولها مهر مثلها ، لأنّ الابتغاء بالمال شرط والمال اسم للأعيان لا للمنافع ، وكذا قوله : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه }[ النساء :4 ] والإيتاء والأكل من صفة الأعيان . ولو تزوّج امرأة على خدمة سنة وإن كان حراً فلها مهر مثلها ، وإن كان عبداً فلها خدمة سنة . وقال الشافعي : الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه أن الابتغاء بغيره جائز أو لا . وأيضاً قد خرج الخطاب مخرج الأعم الأغلب فلا يدل على نفي ما سواه . ومما يدل على جواز جعل المنفعة صداقاً قوله تعالى في قصة شعيب { على أن تأجرني ثماني حجج }[ القصص :27 ] والأصل في شرع من قبلنا البقاء إلى أن يظهر الناسخ . وأيضاً التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد التزوّج بها شيئاً قال صلى الله عليه وسلم : " هل معك شيء من القرآن ؟ قال : نعم ، سورة كذا وكذا . فقال : زوّجتكها بما معك من القرآن . ومنه يعلم جواز عتق الأمة صداقاً لها لا سيما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وكونه من خواصه ممنوع " .

{ فما استمتعتم به منهن } أي فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن أو خلوة صحيحة عند أبي حنيفة { فآتوهن أجورهن } أي عليه فأسقط الراجع للعلم به .

ويجوز أن يراد بما النساء " ومن " للتبعيض أو البيان لا لابتداء الاستمتاع ، ويكون رجوع الضمير إليه في { به } على اللفظ وفي { فآتوهن } على المعنى . والأجور المهور لأنّ المهر ثواب على البضع كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجراً . و { فريضة } حال من الأجور بمعنى مفروضة ، أو أقيمت مقام إيتاء لأنّ الإيتاء مفروض ، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة . ولا يخفى أنه إن استمتع بها بدخول بها يجب تمام المهر ، وإن استمتع بعقد النكاح فقط فالأجر نصف المهر . قال أكثر علماء الأمة : إنّ الآية في النكاح المؤبد . وقيل : المراد بها حكم المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم ليجامعها ، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها . واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام ، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة . وذهب الباقون ومنهم الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت ، ويروى هذا عن ابن عباس وعمران بن الحصين . قال عمارة : سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح ؟ قال : لا سفاح ولا نكاح . قلت : فما هي ؟ قال : هي متعة كما يقال . قال : قلت هل لها عدة ؟ قال : نعم ، عدّتها حيضة . قلت : هل يتوارثان ؟ قال : لا . وفي رواية أخرى عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال : قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكني قلت : إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير لم ، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال : اللهم إني أتوب إليك من قولي في الصرف والمتعة . وأما عمران بن الحصين فإنه قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه ومات ولم ينهنا عنها ، ثم قال رجل برأيه ما شاء - يريد أن عمر نهى عنها - وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي أنه قال : لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلاّ شقي . حجة الجمهور على حرمة المتعة أنّ الوطء لا يحل إلاّ في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى :{ إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم }[ المؤمنون :6 ] وهذه المرأة ليست بمملوكة ولا بزوجة وإلاّ لحصل التوارث ولثبت النسب ولوجبت العدة عليها بالأشهر والتوالي باطلة بأسرها بالاتفاق . وروي عن عمر أنه نهى عن المتعة على المنبر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم ، فلو سكتوا لعلمهم بحرمتها فذاك ، ولو سكتوا لجهلهم بحلها وحرمتها فمحال عادة لشدة احتياجهم إلى البحث عن أمور النكاح ، ولو سكتوا مع علمهم بحلها فإخفاء الحق مداهنة وكفر وبدعة وذلك محال منهم ، وما روي عن عمر أنه قال : لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلاّ رجمته .

ثم إنّ الصحابة لم ينكروا عليه مع أنّ الرجم لا يجوز في المتعة فلعله ذكر ذلك على سبيل التهديد والسياسة ومثل ذلك جائز للإمام عند المصلحة . ألا ترى أنه قال صلى الله عليه وسلم : " من منع منا الزكاة فإنا آخذوها منه وشطر ماله " مع أن أخذ شطر المال من مانعي الزكاة غير جائز إلاّ للسياسة ، وروى الواحدي في البسيط عن مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية . قال : وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال : " غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول : يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء ، ألا وإن الله قد حرمه عليكم إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً " . القائلون بإباحة المتعة قالوا : الابتغاء بالأموال يتناول الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأبيد وعلى سبيل التوقيت ، بل الآية مقصورة على نكاح المتعة لما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ { فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن } وبه قرأ ابن عباس أيضاً ، والصحابة ما أنكروا عليهما فكان إجماعاً . وأيضاً أمر بإيتاء الأجور لمجرد الاستمتاع أي التلذذ وهذا في المتعة ، وأما في النكاح المطلق فيلزم الأجر بالعقد . وأيضاً قال في أول السورة :{ فانكحوا }[ النساء :3 ] فناسب أن تحمل هذه الآية على نكاح المتعة لئلاّ يلزم التكرار في سورة واحدة ، والحمل على حكم جديد أولى . ومما يدل على ثبوت المتعة ما جاء في الروايات أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر . وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح . وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه يومئذٍ طول العزوبة فقال : استمتعوا من هذه النساء . وقول من قال إنه حصل التحليل مراراً والنسخ مراراً ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلاّ الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات . ونهي عمر يدل على أنه كان ثابتاً في عهد الرسول ، وما كان ثابتاً في عهده لم يمكن نسخه بقول عمر كما أشار إليه عمران بن الحصين . وأجيب بأنّ المراد من قول عمر " وأنا أنهي عنها " أنه قد ثبت عندي نسخها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سلموا له ذلك فكان إجماعاً .

{ ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة } الذين حملوا الآية على بيان حكم النكاح قالوا : المراد أنه إذا كان المهر مقدّراً بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئاً أو تبرّئه عنه بالكلية كقوله :{ فإن طبن لكم عن شيء }[ النساء :4 ] وقال الزجاج : لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر ، إذا طلّقها قبل الدخول . قال أبو حنيفة : إلحاق الزيادة بالصداق جائز لأنّ التراضي قد يقع على الزيادة وقد يقع على النقصان وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها ، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد . وقال الشافعي : الزيادة بمنزلة الهبة . فإن أقبضها ملكته بالقبض وإن لم يقبضها بطلت ، والدليل على بطلان هذه الزيادة أنها لو التحقت بالأصل فإما أن ترفع العقد الأول وتحدث عقداً ثانياً وهو باطل بالإجماع ، وإما أن تحصل عقداً مع بقاء العقد الأول وهو تحصيل الحاصل . والذين حملوا الآية على حكم المتعة قالوا : المراد أنه ليس للرجل سبيل على المرأة من بعد الفريضة وهي المقدار المفروض من الأجر والأجل ، فإن قال لها زيدي في الأيام وأزيد في الأجر فهي بالخيار . { إنّ الله كان عليماً حكيماً } لا يشرع الأحكام إلاّ على وفق الحكمة والصواب .

/خ30