محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٖ وَتَغۡشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ} (50)

وقوله تعالى :/ [ 50 ] { سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار 50 } .

{ سرابيلهم من قطران } تشبيه لهم بأكره ما يوجد منظرا عند العرب . وهو الإبل الجربى التي تطلى بالقطران . وإعلام بأن لهم أعظم ما ينال الجلد داء وهو تقرحه بالجرب . وأخبث ما يكون دواء لقبحه لونا وريحا ، وهو القطران . فإنه أسود منتن الريح .

قال الزمخشري : تطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص لتجتمع عليهم الأربع : لذع القطران ، وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح . على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين . وكل ما وعده الله وأوعد به في الآخرة فبينه وبين ما نشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره . وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي . والمسميات ثمة . فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه . ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه . انتهى .

ويؤيد ما بيناه من أن في الآٍية إشارة إلى ابتلائهم بجرب جهنم : ما رواه الإمام أحمد{[5172]} ومسلم{[5173]} عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت . والنائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " .

وقد وقفت على رسالة لشمس البلغاء الخوارزمي أنفذها لمن شكا إليه داء الجرب . جاء منها قوله : الجرب حكة مادتها يبوسة وحرارة ووقود والتهاب . وعسكر من عساكر البلاء تمده القذارة . كما تزيد فيه اليبوسة والحرارة . وعلة تدل على تضييع واجب النفس من التعهد . / وعلى التفريط في العلاج والتفقد . تنطق بأن صاحبها ضعيف المنّة في التوقي . أسير في يد الحرص والتشهي . غاش لنفسه . قليل البقيا على روحه . وهذه العلة تكسب صاحبها خزيا وحياء . وتورثه خجلا واسترخاء . ينظر إلى الناس بعين المريب . ويتستر عنهم كتستر المعيب . تنفر عنه الطباع ، وتستقذره النفوس . وتنبو عن مواكلته العيون . وأقل ما يصيبه أنه يحرم آلة المطاعم وهي يداه . وآلة اللقاء والزيارة وهي رجلاه . ولو لم يكن من دقائق آفاتها ، ومن عجيب هباتها ، إلا أنها تشيخ الفتيان . وتمسخ الإنسان ، وتجعله أميا بعد أن كان غير أميّ . وأعجميا وليس بأعجميّ . تنفر عن نفسه نفسه . وتهرب من فراشه عرسه . ويتباعد عنه أقرب الناس منه . ثم هي ربع من أرباع الخذلان وقسم من أقسام الحرمان . قال الشاعر :

أعاذك الله من أشياء أربعة : *** الموت والعشق والإفلاس والجرب

وما الظن بداء قد سارت به الأمثال وقيلت فيه ، دون سائر الأدواء ، الأقوال .

قال أبو تمام{[5174]} :

لما رأت أختها بالأمس قد خربت *** كان الخراب لها أعدى من الجرب

/ وقال لبيد{[5175]} :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم *** وبقيت في خلف كجلد الأجرب

فجعله رأس الأدواء . ووصفه بأنه غاية البلاء . انتهى . وقوله تعالى :

{ وتغشى وجوههم النار } أي تعدوها وتحيط بها النار التي تمس جسدهم المسربل بالقطران . وتخصيص الوجوه لكونها أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه ، كالقلب في باطنه ولذلك قال{[5176]} : { تطلع على الأفئدة } ولكونها مجمع الحواس التي خلقت لإدراك الحق ، وقد أعرضوا عنه ، ولم يستعملوها في تدبره . كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملئوها بالجهالات . أفاده الزمخشري وأبو السعود .


[5172]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة رقم 342 من الجزء الخامس (طبعة الحلبي).
[5173]:أخرجه مسلم في صحيحه في: 11- كتاب الجنائز، حديث 29 (طبعتنا).
[5174]:انظر الصفحة رقم 8 من الديوان (طبعة بيروت). والصفحة رقم 57 من الجزء الأول (طبعة المعارف). والبيت من قصيدة مطلعها: السيف أصدق إنباء من الكتب*** في حده الحد بين الجد واللعب يمدح بها أمير المؤمنين المعتصم بالله. قال الخطيب التبريزي، شارح الديوان: الهاء في (أختها) راجعة على عمّورية. ويريد بأختها أنقرة. أي أنها لما خربت، وهي أخت عمورية، أعدتها بالجرب. والجرب يوصف بالعدوى.
[5175]:ديوانه، القصيدة: 8 من قصيدة مطلعها: قض اللبانة لا أبالك واذهب *** والحق بأسرتك الكرام الغيب يرثي بها أخاه لأمه، أربد. يقال: خلف خير، وخلف سوء.
[5176]:[104 / الهمزة / 7].