محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{لَّـٰكِنِ ٱلرَّـٰسِخُونَ فِي ٱلۡعِلۡمِ مِنۡهُمۡ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ يُؤۡمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَۚ وَٱلۡمُقِيمِينَ ٱلصَّلَوٰةَۚ وَٱلۡمُؤۡتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ أُوْلَـٰٓئِكَ سَنُؤۡتِيهِمۡ أَجۡرًا عَظِيمًا} (162)

( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما162 ) .

( لكن الراسخون في العلم منهم ) أي : الثابتون في العلم المستبصرون فيه . كعبد الله بن سلام .

قال الرازي : الراسخون في العلم : الثابتون فيه . وهم في الحقيقة المستدلون . لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك يشك . وأما المستدل فإنه لا يتشكك ، البتة . فالراسخون هم المستدلون ( والمؤمنون ) أي : من الأميين اللاحقين بهم في الرسوخ ، بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يؤمنون بما أنزل إليك ) من القرآن ( وما أنزل من قبلك ) على سائر الأنبياء لاطلاعهم على كمالات المنزل عليك وأنه صدق ما أنزل من قبلك . فلا بد من الإيمان به أيضا ( والمقيمين الصلاة ) قال ابن كثير : هكذا هو في مصاحف الأئمة . وكذا هو في مصحف أبي بن كعب .

قال الزمخشري : ارتفاع ( الراسخون ) على الابتداء . و ( يؤمنون ) خبره و ( المقيمين ) نصب على المدح . لبيان فضل الصلاة . وهو باب واسع قد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد . ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف . وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم فيه النصب على الاختصاص من الافتنان . وغبي عليه أن السابقين الأولين ، الذين مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل ، كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام ، وذب المطاعن عنه ، من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم . وخرقا يرفوه من يلحق بهم .

/ وقيل : هو عطف على ( بما أنزل إليك ) أي يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة وهم الأنبياء . وفي مصحف عبد الله ( والمقيمون ) بالواو . وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي . انتهى .

وجوز عطف ( المقيمين ) على الضمير في ( منهم ) وعطفه على الضمير في ( إليك ) . والكتاب أنزل للنبي ولأتباعه . قال تعالى{[2614]} : ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم ) . كذا في ( حواشي الشذور ) . وقد أشار الزمخشري بقوله : ( كانوا أبعد همة ) إلى رد ما نقل ، أن عثمان رضي الله عنه ، لما فرغ من المصحف أتي به إليه . فقال : " قد أحسنتم وأجملتم . أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها . ولو كان المملي من هذيل ، والكتاب من قريش ، لم يوجد فيه هذا " .

قال الحافظ السخاوي : هذا الأثر ضعيف . والإسناد فيه اضطراب وانقطاع . لأن عثمان رضي الله عنه جعل للناس إماما يقتدون به . فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها ؟ وقد كتب مصاحف سبعة وليس فيها اختلاط قط ، إلا فيما هو من وجوه القراءات . وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع ، كيف يقيمه غيرهم{[2615]} ؟

/ وتأول قوم اللحن في كلامه ( على تقدير صحته عنه ) بأن المراد الرمز والايماء كما في قوله{[2616]} :

منطق رائع وتلحن أحيا *** نا وخير الكلام ما كان لحنا

/ أي : المراد به الرمز : بحذف بعض الحروف خطا ، كألف ( الصابرين ) مما يعرفه القراء إذا رأوه . وكذا زيادة بعض الحروف . كذا في ( عناية الراضي ) ( والمؤتون الزكاة ) رفعه بالعطف على ( الراسخون ) أو على الضمير في ( يؤمنون ) أو على أنه مبتدأ ، والخبر ( أولئك سنؤتيهم ) . والوجوه المذكورة تجري في ( المقيمين ) على قراءة الرفع ( والمؤمنون بالله واليوم الآخر ) يعني : والمصدقون بوحدانية الله تعالى وبالبعث بعد الموت وبالثواب والعقاب . وإنما قدم الإيمان بالأنبياء والكتب وما يصدقه من إتباع الشرائع ، لأنه المقصود في هذا المقام . لأنه لبيان حال أهل الكتاب وإرشادهم . وهم كانوا يؤمنون ببعض ذلك ويتركون بعضه . فبين لهم ما يلزمهم ويجب عليهم ( أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما ) يعني الجنة . لجمعهم بين الإيمان الصحيح والعمل الصالح .

لطيفة :

في الآية وجوه من الإعراب . أحسنها ما اعتمده أبو السعود ، من أن جملة ( أولئك سنؤتيهم ) الخ خبر للمبتدأ الذي هو ( الراسخون ) وما عطف عليه . وأن جملة ( يؤمنون بما أنزل ) الخ حال من المؤمنون ( مبنية لكيفية إيمانهم . أو اعتراض مؤكد لما قبله . قال : وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم . كأنه قيل إثر قوله تعالى : ( واعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما ) لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما . وأما ما جنح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى : ( يؤمنون بما أنزل ) الخ خبرا للمبتدأ ، ففي كمال السداد ، خلا أنه غير متعرض لتقابل الطرفين .


[2614]:|10/ يونس/ 57| (... وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين57).
[2615]:وقد نقل ابن هشام في شرح شذور الذهب عن الامام تقي الدين أبي العباس أحمد بين تيمية رحمه الله أنه قال: وقد زعم قوم ان قراءة من قرأ (ان هذان) لحن. وأن عثمان رضي الله عنه قال: ان في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه: أحدها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتسارعون الى انكار أدنى المنكرات، فكيف يقرون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في ازالته. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام، فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟ والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في (الصحيح) أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب (التابوت) بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه الى عثمان رضي الله عنه فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ (عتى حين) على لغة هذيل –أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش فان الله تعالى انما أنزله ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلامه ملخصا (قاله ابن هشام).
[2616]:قائله مالك بن أسماء. قال ابن قتيبة في (الشعر والشعراء): كان مالك شاعرا غزلا (ظريفا). وهو القائل في جارية له: أمغطى مني على بصري بالح ***ب أم أنت أكمل الناس حسنا وحديث ألذه هو مما*** يشتهي الناعتون يوزن وزنا منطق صائب وتلحن أحيا*** نا وأحلى الحديث ما كان لحنا وقال المرزباني: انما أراد وصفها بالظرف والفطنة وأنها توري عما قصدت له وتتنكب التصريح. وعلى هذا فبعيد جدا تأول اللحن، في القول المزعوم نسبته الى عثمان، بهذا المعنى. اذ لا يستقيم مع قوله: ستقيمه العرب بألسنتها. وانما تقيم العرب بألسنتها اللحن الذي هو الخطأ في الاعراب، وهو ضد الصواب.