محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۚ جَعَلَ لَكُم مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ أَزۡوَٰجٗا وَمِنَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ أَزۡوَٰجٗا يَذۡرَؤُكُمۡ فِيهِۚ لَيۡسَ كَمِثۡلِهِۦ شَيۡءٞۖ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (11)

{ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي من جنسكم { أَزْوَاجًا } / أي نساء { وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا } أي أصنافا مختلفة ، أو ذكورا وإناثا { يذرؤكم فِيهِ } أي يكثركم . من ( الذرء ) وهو البث . يقال : ذرأ الله الخلق ، بثهم كثّرهم . وفسر ب ( يخلقكم ) . وضمير ( فيه ) للبطن أو الرحم . وقال الزمخشري : أي في هذا التدبير ، وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا ، حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل . والضمير في { يذرؤكم } يرجع إلى المخاطبين والأنعام ، مغلبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيّب مما لا يعقل . فإن قلت : ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير ؟ وهلا قيل : يذرؤكم به ؟ قلت : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير . انتهى .

وقيل ( في ) مستعارة للسببية { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } قال ابن جرير {[6439]} : فيه وجهان : أحدهما أن يكون معناه : ليس هو كشيء . وأدخل المثل في الكلام ، توكيدا للكلام ، لكونهما بمعنى واحد . والآخر أن يكون معناه : ليس مثله شيء . وتكون الكاف هي المدخلة في الكلام . انتهى .

وبقي ثالث وهو أن المثل بمعنى الصفة . أي ليس كصفته صفة . ورابع - وهو ما عول عليه المحققون- أن المراد من { مثله } ذاته . كما في قولهم : مثلك لا يبخل ، على قصد المبالغة في نفيه عنه . فإنه إذا نفى عمن يناسبه . كان نفيه عنه أولى . ثم سلكت هذه الطريقة في شأن من لا مثل له سبحانه . ووجه المبالغة أن الكناية من باب دعوى الشيء ببيّنة . وقد بينت الكناية في الآية بوجه أشار إليه الشُّمُنِّيّ . وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه . لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال ليس لأخي زيد أخ فأخ زيد ملزوم والأخ لازمه . لأنه لابد لأخي زيد من أخ هو زيد . فَنُفِيَ هذا اللازم . والمراد نفي ملزومه . أي ليس لزيد أخ . إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ . هو زيد . فكذا نفى أن يكون لمثل الله مثل . والمراد نفي مثله تعالى - إذ لو كان له مثل ، لكان هو تعالى مثل مثله ، لتحقق المماثلة من الجانبين . / فلا يصح نفي مثله ( أي نفي مثل ذلك المثل ) وبالجملة ، فأطلق نفي مثل المثل ، وأريد لازمه من نفي المثل . قال بعض الأفاضل : طالما كنت أجد في نفسي من هذا شيئا . وذلك أن محصل هذا أن نفي المثل لازم لحقيقة الآية . وقد تقرر أولا أنها تقتضي إثباته . ولذا أوّلوها بالأوجه المذكورة . فكيف يعقل أن إثبات الشيء ونفيه يلزمان معا لشيء واحد ؟ مع تصريحهم بأن تنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات . وبفرض صحة أن كلا منهما لازم لها ، فقصرها على هذا دون ذاك تحكم . مع أن القصد إبطال دلالتها على المحال . ولا يكفي فيه قولنا إنه غير مراد كما لا يخفى . ثم ظهر أن إثبات المثل ليس لازما لحقيقة الآية قطعا . بل هو محتمل فقط . كما تحتمل نفيه . وإن كان الأول أقرب ، لكن عارضه في خصوص هذه المادة ، أنه لو كان له مثل الخ . فبطل ذلك الاحتمال من أصله . فالتعويل في نفي المثل على هذه المقدمة القطعية بخلاف المثال ، فافهم ذلك . وقال العصام : هذا - أي كون الآية من باب الكناية - وجه تلقاه الفحول بالقبول . ورجّحوه بأن الكناية أبلغ من التصريح . وعدم الزيادة أحق بالترجيح . وفيه بحث ، وهو أن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل . لأن الشيء ليس مثل مثله . بل المثل المشارك للشيء في صفة ، مع كون الشيء أقوى منه فيها وبمنزلة الأصل والمثل بمنزله الملحق به المتقارب منه . انتهى .

ورده السيلكوتّي فقال : ما قيل إن نفي مثل المثل لا يستلزم نفي المثل لأن مثل الشيء أضعف منه ، فتوهم محض . لأن المماثلة هي الشركة في أخص الصفات والمساواة في جميع الوجوه مما به المماثلة . صرّح به في ( شرح العقائد النسفية ) انتهى . ومثل هذه اللطائف الأدبية مما تتحلى به أجياد الأفهام . وتتشعب في أودية بدائعه عيون محاسن الكلام .

تنبيه :

قال السيوطيّ في ( الإكليل ) : في الآية ردّ على المشبهة . وأنه تعالى ليس بجوهر ولا بجسم ولا عرض ولا لون ولا حال في مكان ولا زمان . انتهى .

وكان حقه أن يتم الاستنباط . فكما أن صدر الآية فيه رد عل المشبهة ، فكذا تتمتها وهو قوله تعالى : { وهو السميع البصير } رد على المعطلة . ولذا كان أعدل المذاهب مذهب السلف . فإنهم اثبتوا النصوص بالتنزيه من غير تعطيل ولا تشبيه . وذلك أن المعطلين لم يفهموا من أسماء الله تعالى وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق . ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات ، فجمعوا بين التمثيل والتعطيل . فمثلوا أولا وعطلوا آخرا . فهذا تشبيه وتمثيل منهم ، للمفهوم من أسمائه وصفاته تعالى ، بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم . فعطلوا ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء والصفات اللائقة به عز وجل . بخلاف سلف الأمة وأجلاء الأئمة . فإنهم يصفون الله سبحانه وتعالى بما وصف به نفسه وبما وصف به نبيه صلى الله عليه وسلم . من غير تحريف ولا تشبيه . قال تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فرد على المشبهة بنفي المثلية . ورد على المعطلة بقوله : { وهو السميع البصير } قال الحافظ ابن عبد البرّ : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز . إلا أنهم لم يكيّفوا شيئا من ذلك . وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل منها شيئا على الحقيقة . ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه ، وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود . انتهى .

قال الذهبي : صدق والله  ! فإن من تأول سائر الصفات ، وحمل ما ورد منها على مجاز الكلام ، أدّاه ذلك السلب إلى تعطيل الرب وأن يشابه المعدوم . كما نقل عن حماد بن زيد أنه قال : مثل الجهمية كقوم قالوا : في دارنا نخلة . قيل : لها سعف ؟ قالوا : لا . قيل لها كَرَب ؟ قالوا : لا . قيل لها رطب ؟ قالوا : لا . قيل : فلها ساق ؟ قالوا : لا . قيل : فما في داركم نخلة . قلت : كذلك هؤلاء النفاة قالوا إلهنا الله تعالى . وهو لا في زمان ولا في مكان ولا يرى ولا يسمع ، ولا يبصر ولا يتكلم ، ولا يرضى ولا يريد ، ولا ولا . وقالوا : سبحان المنزه عن الصفات . بل نقول : سبحان الله العلي العظيم السميع البصير المريد ، الذي كلم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا ، ويرى في الآخرة ، المتصف بما وصف به نفسه ، ووصفه به / رسله ، المنزه عن سمات المخلوقين وعن جحد الجاحدين . ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

وقال الذهبيّ رحمه الله أيضا : مقال متأخري المتكلمين ، أن الله تعالى ليس في السماء ولا على العرش ولا على السماوات ولا في الأرض ولا داخل العالم ولا خارج العالم ولا هو بائن عن خلقه ولا متصل بهم . وقالوا : جميع هذه الأشياء صفات الأجسام والله تعالى منزه عن الجسم . قال لهم أهل السنة والأثر : نحن لا نخوض في ذلك ونقول ما ذكرناه اتباعا للنصوص ولا نقول بقولكم . فإن هذه السلوب نعوت للمعدوم . تعالى الله جل جلاله عن العدم . بل هو موجود متميز عن خلقه ، موصوف بما وصف به نفسه ، من أنه فوق العرش بلا كيف . انتهى .

وقال الإمام ابن تيمية في ( الرسالة التدمرية ) في القاعدة الأولى : إن الله سبحانه موصوف بالإثبات والنفي . فالإثبات كإخباره بأنه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، وأنه سميع بصير ، ونحو ذلك . والنفي كقوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } وينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال ، إلا إذا تضمن إثباتا . وإلا فمجرد النفي ليس فيه مدح ولا كمال . لأن النفي المحض عدم محض . والعدم المحض ليس بشيء . وما ليس بشيء فهو كما قيل ليس بشيء ، فضلا عن أن يكون مدحا أو كمالا . ولأن النفي المحض يوصف به المعدوم والممتنع . والمعدوم والممتنع لا يوصف بمدح ولا كمال . فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمنا لإثبات مدح ، كقوله{[6440]} { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } إلى قوله : { ولا يؤده حفظهما } فنفي السِنَةِ والنوم يتضمن كمال الحياة والقيام ، فهو مبين لكمال أنه الحيّ القيوم وكذلك قوله { ولا يؤده حفظهما } أي لا يكرثه ولا يثقله . وذلك مستلزم لكمال قدرته وتمامها . بخلاف المخلوق القادر ، إذا كان يقدر على الشيء بنوع كلفة / ومشقة ، فإن هذا نقص في قدرته وعيب في قوته . وكذلك قوله{[6441]} : { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } فإن نفي العزوب مستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات والأرض . وكذلك قوله{[6442]} : { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } فإن نفي مس اللغوب ، الذي هو التعب والإعياء ، دل على كمال القدرة ونهاية القوة . بخلاف المخلوق الذي يلحقه من التعب والكلال ما يلحقه . وكذلك قوله{[6443]} : { لا تدركه الأبصار } إنما نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قاله أكثر العلماء ، ولم ينف مجرد الرؤية . لأن المعدوم لا يرى ، وليس في كونه لا يرى مدح . إذ لو كان كذلك لكان المعدوم ممدوحا . وإنما المدح في كونه لا يحاط به ، وإن رُئِيَ . كما أنه لا يحاط به وإن علم ، فكما أنه إذ علم لا يحاط به علما ، فكذلك إذ رئي لا يحاط به رؤية . فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته . ما يكون مدحا وصفة كمال . وكان ذلك دليلا على إثبات الرؤية لا على نفيها . لكنه دليل على إثبات الرؤية مع عدم الإحاطة . وهذا هو الحق الذي اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها . وإذا تأملت ذلك وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتا ، هو مما لم يصف الله به نفسه . فالذين لا يصفونه إلا بالسلوب ، لم يثبتوا في الحقيقة إلها محمودا ، بل ولا موجودا . وكذلك من شاركهم في بعض ذلك . كالذين قالوا لا يتكلم أو لا يُرى أو ليس فوق العالم أو لم يستو على العرش . ويقولون : ليس بداخل العالم ولا خارجه ولا مباين للعالم ولا مجانب له ، إذ هذه الصفات يمكن أن يوصف بها المعدوم ، وليست هي صفة مستلزمة صفة ثبوت . ولهذا قال محمود بن سبكتكين لمن ادعى ذلك في الخالق : ميّز لنا بين هذا الرب الذي نثبته وبين المعدوم . وكذلك كونه لا يتكلم ولا ينزل ، ليس في ذلك صفة مدح ولا كمال . بل هذه الصفات فيها تشبيه له بالمنقوصات أو المعدومات . فهذه الصفات منها ما لا يتصف به إلا المعدوم ومنها ما لا يتصف به إلا الجمادات والناقص . فمن قال لا هو مباين للعالم ولا مداخل للعالم ، فهو بمنزلة ن قال لا هو قائم بنفسه ولا بغيره ولا قديم ولا محدث ولا متقدم على العالم ولا مقارن له . ومن قال إنه ليس بحيّ ولا سميع ولا بصير ولا متكلم ، لزمه أن يكون ميتا أصم أعمى أبكم . فإن قال العمى عدم البصر عما من شأنه أن يقبل البصر ، وما لم يقبل البصر كالحائط لا يقال له أعمى ولا بصير ، قيل له هذا اصطلاح اصطلحتموه . وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعجمة . وأيضا فكل موجود يقبل الاتصاف بهذه الأمور ونقائضها . فإن الله قادر على جعل الجماد حيا كما جعل عصا موسى حية ابتلعت الحبال والعصيّ . وأيضا فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصا مما يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها . فالجماد الذي لا يوصف بالبصر ولا العمى ولا الكلام ولا الخرس ، أعظم نقصا من الحي الأعمى الأخرس . فإن قيل إن البارئ لا يمكن اتصافه بذلك ، كان في ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وصف بالخرس والعمى والصمم ونحو ذلك . مع أنه إذا جعل غير قابل لها كان تشبيها له بالجماد الذي لا يقبل الاتصاف بواحد منها . وهذا تشبيه بالجمادات لا بالحيوانات . فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي . وأيضا فنفس نفي هذه الصفات نقص ، كما أن إثباتها كمال . فالحياة من حيث هي هي ، مع قطع النظر عن تعيين الموصوف بها ، صفة كمال . وكذلك العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والعقل ونحو ذلك . وما كان صفة كمال فهو سبحانه أحق أن يتصف به من المخلوقات . فلو لم يتصف به مع اتصاف المخلوق به ، لكان المخلوق أكمل منه .


[6439]:انظر الصفحة رقم 12 من الجزء الخامس والعشرين (طبعة الحلبي الثانية).
[6440]:[2 / البقرة / 255].
[6441]:[34 / سبأ / 3].
[6442]:[50 / ق / 38].
[6443]:[6 / الأنعام / 103].