ومالكم لا تؤمنون بالله والرسولُ يدعوكم إلى ذلك ويحثّكم عليه ! إنه يبين لكم الحججَ والبراهين على صحة ما جاءكم به ، وقد أخذ الله عليكم الميثاقَ بالإيمان من قبلُ { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
قرأ أبو عمرو : وقد أُخذ ميثاقكم بضم همزة اخذ ورفع ميثاقكم . والباقون : وقد أخذ ميثاقكم بفتح الهمزة ونصب ميثاقكم .
وقوله عز وجل : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله } استئناف قيل : مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الانكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط ، ونظيره قوله تعالى : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } [ نوح : 13 ] وقد يتوجه الانكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضاً كما في قوله تعالى : { وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ } [ يس : 22 ] الخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه ، وقوله تعالى : { والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ } حال من ضمير { لاَ تُؤْمِنُونَ } مفيدة على ما قيل : لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه ، ولام { لّتُؤْمِنُواْ } صلة يدعو وهو يتعدى بها وبإلى أي وأي عذر في ترك الإيمان { والرسول يَدْعُوكُمْ } إليه وينبهكم عليه ، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه : { وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعاً وماضياً ، وجوز كونه حالاً معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير { تُؤْمِنُونَ } والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة ، وأياً مّا كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر فقوله تعالى : { والرسول يَدْعُوكُمْ } إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي .
وقال البغوي : هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا وعليه لا مجاز والأول اختيار الزمخشري ، وتعقبه ابن المنير فقال : لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الإيمان به ، وروى ذلك عن مجاهد . وعطاء . والكلبي . ومقاتل ، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفي أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سبباً لإلزامهم الإيمان به ، وقال الطيبي : يمكن أن يقال : إن الضمير في { أَخَذَ } إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دل عليه قوله تعالى : { قُلْنَا اهبطوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } [ البقرة : 38 ] الخ لأن المعنى { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } [ طه : 123 ] برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم ، ويدل على الأول قوله سبحانه : { والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ } وعلى الثاني { هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ ءايات } [ الحديد : 9 ] الخ ، وإن كان للرسول صلى الله عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [ آل عمران : 81 ] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم ، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد ، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل . وعلى النفقة في العسر واليسر . وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى .
ويضعف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر ، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه .
والخطاب قال «صاحب الكشف » : عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعدم الانفاق في سبيله .
وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين ، وجعل { آمنوا } [ الحديد : 7 ] أمراً بالثبات على الإيمان ودوامه { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } الخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة .
وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل ، ولعل ما ذكره «صاحب الكشف » أولى إلا أنه قيل عليه : إن آمنوا إذا كان خطاباً للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظراً لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظراً للمتصفين وفيه ما فيه ، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين ، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده : أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل ، وقرئ { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } بالله ورسوله ، وقرأ أبو عمرو { وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم } بالبناء للمفعول ورفع { ميثاقكم } { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل ، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب مّا فهذا موجب لا موجب وراءه ، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه ، وقال الواحدي : أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه ؛ وأياً مّا كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } وقال الطبري في ذلك : المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن ؛ وقيل : المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن ، وقيل : المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة ، والكل كما ترى .
وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي ، وقال في هذا الشرط : يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى : { يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ البقرة : 278 ] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد .
قوله : { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } ما الذي يمنعكم من الإيمان الصحيح الصادق ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى الحق وبين لكم – بما لديه من الأدلة والحجج - صدق ما جاءكم به ، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكريم خصاله وحسن فعاله وروعة أخلاقه وشمائله وفرط عبقريته وصفاء فطرته لهو دليل مكشوف مستبين على أنه رسول أمين وأنه مبعوث من رب العالمين { وقد أخذ ميثاقكم } والمراد بالميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم . وقيل : بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول} محمد صلى الله عليه وسلم حين {يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} يعني يوم أخرجكم من صلب آدم، عليه السلام، وأقروا له بالمعرفة والربوبية {إن كنتم} يعني إذ كنتم {مؤمنين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: "وما لكم لا تؤمنون بالله"، وما شأنكم أيها الناس لا تقرّون بوحدانية الله، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يدعوكم إلى الإقرار بوحدانيته، وقد أتاكم من الحجج على حقيقة ذلك ما قطع عذركم، وأزال الشكّ من قلوبكم، واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق غير أبي عمرو "وَقَدْ أخَذَ مِيثاقَكُمْ":... وقد أخذ ربكم ميثاقكم... "وقوله: "إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "يقول: إن كنتم تريدون أن تؤمنوا بالله يوما من الأيام، فالآن أحرى الأوقات، أن تؤمنوا لتتابع الحجج عليكم بالرسول وإعلامه، ودعائه إياكم إلى ما قد تقرّرت صحته عندكم بالإعلام والأدلة والميثاق المأخوذ عليكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم قال الله تعالى على وجه التوبيخ لهم (وما لكم) معاشر المكلفين... ومعنى أخذ ميثاقكم: أنه نصب لكم الأدلة الدالة إلى الإيمان بالله ورسوله ورغبكم فيه وحثكم عليه وزهدكم في خلافه، ومعنى (إن كنتم مؤمنين) اي إن كنتم مؤمنين بحق فالإيمان قد ظهرت أعلامه ووضحت براهينه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وما لكم لا تؤمنون بالله} الآية توطئة لدعائهم وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة فإذا تقرر ذلك فلا مانع من الإيمان، وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلاً خلقته بخلق أهل ذلك الفعل وجعلت له رتبتهم...
وقوله: {إن كنتم مؤمنين}...أي إن دمتم على ما بدأتم به.
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى وبخ على ترك الإيمان بشرطين؛
(أحدهما): أن يدعو الرسول، والمراد أنه يتلو عليهم القرآن المشتمل على الدلائل الواضحة.
(الثاني): أنه أخذ الميثاق عليهم... وحاصل الأمر أنه تطابقت دلائل النقل والعقل، أما النقل فبقوله: {والرسول يدعوكم}، وأما العقل فبقوله: {وقد أخذ ميثاقكم} ومتى اجتمع هذان النوعان، فقد بلغ الأمر إلى حيث تمتنع الزيادة عليه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما} أي وأيّ شيء {لكم} من الأعذار أو غيرها في أنكم، أو حال كونكم {لا تؤمنون بالله} أي تجددون الإيمان -أي تجديداً مستمراً- بالملك الأعلى أي الذي له الملك كله والأمر كله بعد سماعكم لهذا الكلام: لأن "لا " لا تدخل على مضارع إلا وهو بمعنى الاستقبال... {والرسول} أي والحال أن الذي له الرسالة العامة {يدعوكم} صباحاً ومساء على ما له من مقتضيات القبول منه من حسن السمت وجلالة القدر وإظهار الخوارق وغير ذلك {لتؤمنوا} أي لأجل أن تجددوا الإيمان {بربكم} أي الذي أحسن تربيتكم بأن جعلكم من أمة هذه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وشرفكم به {وقد} أي والحال أنه قد {أخذ ميثاقكم} أي وقع أخذه فصار في غاية القباحة ترك ما وقع التوثق بسببه بنصب الأدلة والتمكين من النظر بإبداع العقول وذلك كله منضم إلى أخذ الذرية من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام وإشهادهم على أنفسهم وإشهاد الملائكة عليهم...والحاصل أنهم نقضوا الميثاق في الإيمان، فلم يؤاخذهم حتى أرسل الرسل. ولما حثهم على تجديد الإيمان على سبيل الاستمرار بالتعجب من ترك ذلك، وكان كل واحد يدعي العراقة في الخير، هيجهم وألهبهم بقوله: {إن كنتم} أي جبلة ووصفاً ثابتاً {مؤمنين} أي عريقين في وصف الإيمان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ظاهر استعمال أمثال قوله: {وما لكم لا تؤمنون} أن يكون استفهاماً مستعملاً في التوبيخ والتعجيب، وهو الذي يناسب كون الأمر في قوله: {آمنوا بالله ورسوله} مستعملاً في الطلب لا في الدوام.
وتكون جملة {لا تؤمنون} حالاً من الضمير المستتر في الكون المتعلق به الجار والمجرور كما تقول: ما لك قائماً؟ بمعنى ما تصنع في حال القيام. والتقدير: وما لكم كافرين بالله، أي ما حصل لكم في حالة عدم الإيمان.
وجملة {والرسول يدعوكم} حال ثانية، والواو واو الحال لا العطف، فهما حالان متداخلتان. والمعنى: ماذا يمنَعكم من الإيمان وقد بين لكم الرسولُ من آيات القرآن ما فيه بلاغ وحجة على أن الإِيمان بالله حق فلا عذر لكم في عدم الإِيمان بالله فقد جاءتكم بينات حقّيّته فتعين أن إصراركم على عدم الإِيمان مكابرة وعناد.
وعلى هذا الوجه فالميثاق المأخوذ عليهم هو ميثاق من الله، أي ما يماثل الميثاق من إيداع الإيمان بوجود الله وبوحدانيته في الفطرة البشرية فكأنه ميثاق قد أخذ على كل واحد من الناس في الأزل وشرط التكوين فهو ناموس فطري. وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} وقد تقدم في سورة الأعراف (172).
فضمير {أخذ} عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {وما لكم لا تؤمنون بالله} والمعنى: أن النفوس لو خلت من العناد وعن التمويه والتضليل كانت منساقة إلى إدراك وجود الصانع ووحدانيته وقد جاءهم من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يكشف عنهم ما غشى على إدراكهم من دعاء أيمة الكفر والضلال.
وجملة {إن كنتم مؤمنين} مستأنفة، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله: {والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم}.
واسم فاعل في قوله {إن كنتم مؤمنين} مستعمل في المستقبل بقرينة وقوعه في سياق الشرط، أي فقد حصل ما يقتضي أن تؤمنوا من السبب الظاهر والسبب الخفي المرتكز في الجبلة.
ويرجح هذا المعنى أن ظاهر الأمر في قوله: {آمنوا بالله ورسوله} [الحديد: 7] أنه لطلب إيجاد الإِيمان كما تقدم في تفسيرها وأن الآية مكية.