{ فورب السماء والأرض إنه لحق } : إنه لحق أي ما توعدون لحق ثابت .
{ مثل ما أنكم تنطقون } : أي إن البعث لحق مثل نطقكم فهل يشك أحد في نطقه إذا نطق والجواب لا يشك فكذلك ما توعدون من ثواب وعقاب .
وقوله تعالى { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } هذا قسم منه تعالى أقسم فيه بنفسه على أن البعث والجزاء يوم القيامة حق ثابت واجب الوقوع كائن لا محالة إذا كنا لا نشك في نطقنا إذا نطقنا أن ما نقوله ونسمعه لا يمكن أن يكون غير ما نطقنا به وسمعناه فكذلك البعث الآخر واقع لا محالة .
- بيان أن في السماء رزق العباد فلا يطلب إلا من الله تعالى وأن ما نُوعَدُ من خير وشر أمره في السماء ومنها ينزل بأمره تعالى فليكن طلبنا الخير من الله دائما وتعوذنا من الشر بالله وحده .
فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهًا ، ينتبه به الذكي اللبيب ، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق ، وشبه ذلك ، بأظهر الأشياء [ لنا ] وهو النطق ، فقال : { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم ، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت{[848]} .
ثم أقسم بنفسه فقال : { فورب السماء والأرض إنه لحق } أي : ما ذكرت من أمر الرزق لحق ، { مثل } قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وعاصم : ( مثل ) برفع اللام بدلاً من ( الحق ) وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل ، { ما أنكم تنطقون } فتقولون : لا إله إلا الله . وقيل : شبه تحقق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي ، كما تقول : إنه لحق كما أنت هاهنا ، وإنه لحق كما أنك تتكلم ، والمعنى : أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة . قال بعض الحكماء : يعني : كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره .
قوله تعالى : " فورب السماء والأرض إنه لحق " أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق ، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله : " مثل ما أنكم تنطقون " وخص النطق من بين سائر الحواس ؛ لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه ، كالذي يرى في المرآة ، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها ، والدَّوِيُّ والطنين في الأذن ، والنطق سالم من ذلك ، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به . وقال بعض الحكماء : كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره ، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره . وقال الحسن : بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى : " فورب السماء والأرض إنه لحق " . وقال الأصمعي : أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه ، فدنا وسلم وقال : ممن الرجل ؟ قلت من بني أصمع ، قال : أنت الأصمعي ؟ قلت : نعم . قال : ومن أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ؛ قال : وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت : نعم ، قال : فاتل علي منه شيئا ، فقرأت " والذاريات ذروا " إلى قوله : " وفي السماء رزقكم " فقال : يا أصمعي حسبك ! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها ، وقال : أعني على توزيعها ، ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول : " وفي السماء زرقكم وما توعدون " فمقت نفسي ولمتها ، ثم حججت مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر ، فسلم علي وأخذ بيدي وقال : اتل علي كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام فقرأت " والذاريات " حتى وصلت إلى قوله تعالى : " وفي السماء رزقكم وما توعدون " فقال الأعرابي : لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا ، وقال : وهل غير هذا ؟ قلت : نعم ، يقول الله تبارك وتعالى : " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " قال فصاح الأعرابي وقال : يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه . وقال يزيد بن مرثد : إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال : اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به ، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب . وعن أبي سعيد الخدري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت ) أسنده الثعلبي . وفي سنن ابن ماجه عن حبة وسواء ابني خالد قالا : دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه ، فقال : ( لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر{[14221]} ثم يرزقه الله ) . وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله ، فخرجت عليهم أعرابية فقالت : ما لي أراكم قد نكستم رؤوسكم ، وضاقت صدوركم ، هو ربنا والعالم بنا ، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء ! ثم أنشأت تقول :
لو كان في صخرةٍ في البحر راسيةٍ *** صَمَّا مُلَمْلِمَةٍ مَلْساً نواحيها
رِزْقٌ لنفسٍ براها الله لانفلقتْ *** حتى تؤدى إليها كُلُّ ما فيها
أو كان بين طِباقِ السبع مَسْلَكُها *** لسهل الله في المَرْقَى مَرَاقِيهَا
حتى تنال الذي في اللوح خُطَّ لها *** إن لم تنله وإلا سوف يأتيها قلت : وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمع قوله تعالى : " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " [ هود : 6 ] فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب ، وقد ذكرناه في سورة " هود{[14222]} " . وقال لقمان : " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة " [ لقمان : 16 ] الآية . وقد مضى في " لقمان{[14223]} " وقد استوفينا هذا الباب في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ) والحمد لله . وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء ، وهو فراغ القلب مع الرب ، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه .
قوله تعالى : " مثل ما أنكم تنطقون " قراءة العامة " مثل " بالنصب أي كمثل " ما أنكم " فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و " ما " زائدة ، قاله بعض الكوفيين . وقال الزجاج والفراء : يجوز أن ينتصب على التوكيد ، أي لحق حقا مثل نطقك ، فكأنه نعت لمصدر محذوف وقول سيبوبه : إنه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و " ما " زائدة للتوكيد . المازني : " مثل " مع " ما " بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قال : ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا ، فتقول : قال لي رجل مثلك ، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل{[14224]} . وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش " مثل " بالرفع على أنه صفة لحق ؛ لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة ، إذ لا يختص بالإضافة ، لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين . و " مثل " مضاف إلى " أنكم " و " ما " زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة . المصدر إذ لا فعل معه تكون معه مصدرا . ويجوز أن تكون بدلا من " لحق " .
{ إنه لحق } هذا جواب القسم ، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو لما توعدون .
{ مثل ما أنكم تنطقون } أي : حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه ، وما زائدة : وقرئ مثل بالنصب والرفع فالرفع صفة لحق ، والنصب على الحال من حق أو من الضمير المستتر فيه أو صفة لحق وبني لإضافته إلى مبني أو لتركيبه مع ما فيصير نحو أينما وكلما .
ولما أقسم بما له من المقدورات لمن وقف مع المحسوسات المشهورات ، فترقوا بذلك إلى أعلى الدرجات ، وانكشف ما له من الكمال انكشافاً تاماً ، وعلم أن في خزائنه سبحانه كل ما أخبرت عنه به الرسل من وعد ووعيد ، سبب عنه قوله مقسماً بنفسه الأقدس لكن بصفة مألوفة فقال : { فورب } أي مبدع ومدبر { السماء والأرض } بما أودع فيهما مما علمتموه وما{[61352]} لم تعلموه { إنه } أي الذي توعدونه من الخير والشر والجنة والنار وتقدم الإقسام عليه أنه صادق { لحق } أي ثابت يطابقه الواقع فقد جمع الحق مع{[61353]} الصدق { مثل ما أنكم } أي وأنتم مساوون لبقية ما في الأرض من الجمادات وغيرها { تنطقون{[61354]} * } نطقاً مجدداً في كل وقت مستمراً ، ليس{[61355]} هو بخيال ولا سحر ، {[61356]}أي أن{[61357]} ذلك لحق مثل ما أن هذا حق ، فالذي جعل لكم قوة النطق من بين ما في الأرض بأسباب لا ترونها وتحصونها ، ومع ما عداكم من{[61358]} ذلك بأسباب مثل ذلك-{[61359]} قادر على الإتيان بوعده من الرزق وغيره ما دمتم تحتاجون إلى ذلك بما جعل فيكم من الحياة التي يصح بها العلم الناشىء عنه النطق المحوج إلى الرزق من أي جهة أرادوا ، وإن لم تروا أسبابه كما أنه لو أراد لأنطق جميع من في السماوات والأرض من الجمادات بما يقيمه لها من الأسباب التي أقامها لكم وإن لم تروا ذلك .