ليُخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ : يعني أن المنافقين هم أصحاب العزة ، والمسلمين هم الأذلاء كما يزعمون .
وهم الذين { يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } يعني بذلك عبد الله بن أُبي ومن معه من المنافقين ، { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فالله له العزة والغلبة ، ولمن أعزه الله من الرسول الكريم والمؤمنين ، { ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } .
روي أن عبد الله بن عبد الله بن أُبي ، وكان من خيار الصحابة المؤمنين عندما أشرف على المدينة وقف وسلّ سيفه وقال لأبيه : لله عليَّ أن لا أغمده حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل . فلم يبرح حتى قال عبد الله بن أبيّ ذلك .
{ لئن رجعنا إلى المدينة } : أي من غزوة كانوا فيها هى غزوة بنى المصطلق .
{ ليخرجن الأعز منها الأذل } : يعنون بالأعز أنفسهم ، وبالأذل المؤمنين .
{ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } : أي الغلبة والعلو والظهور .
والثانية هي قوله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قالها في غزوة بني المصطلق وهي غزوة سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُعلم أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويرية زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدى أمهات المؤمنين . فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقبهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فوقع القتال فهزم الله بني المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم وأفاءها على المؤمنين ، واصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه جويرية بوصفها بنت سيد القوم إكراماً لها ثم عتقها وتزوجها فرأى المؤمنون أن ما بأيديهم من السبي لا ينبغي لهم وقد أصبحوا أصهار نبيهم فعتقوا كل ما بأيديهم فقالت عائشة رضى الله عنها ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية بنت الحارث فقد أُعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بني المصطلق .
في هذه الغزاة قال ابن أبي قولته الخبيثة وذلك أن رجلين أنصاريا ومهاجراً تلاحيا على الماء فكسع المهاجر الأنصاري برجله فصاح ابن أبي قائلا عليكم صاحبكم ، ثم قال : والله ما مثلنا ومحمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وغاب عن ذهن هذا المنافق أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين أي الغلبة والظهور والعلو لا للمنافقين والمشركين الكافرين ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولا غيره لعمى بصائرهم ولما بلغ الغزاة المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي في عرض الطريق واستل سيفه فلما جاء أبوه يمر قال له والله لا تمر حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل ، فلم يبرح حتى قالها : وكان ولده مؤمناً صادقاً من خيرة الأنصار .
- العزة الحقة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فلذا يجب على المؤمن أن لا يذل ولا يهون لكافر .
{ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } وذلك في غزوة المريسيع ، حين صار بين بعض المهاجرين والأنصار ، بعض كلام كدر الخواطر ، ظهر حينئذ نفاق المنافقين ، وأظهروا ما في نفوسهم{[1106]} .
وقال كبيرهم ، عبد الله بن أبي بن سلول : ما مثلنا ومثل هؤلاء -يعني المهاجرين- إلا كما قال القائل : " غذ كلبك يأكلك " {[1107]}
وقال : لئن رجعنا إلى المدينة { لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } بزعمه أنه هو وإخوانه من المنافقين الأعزون ، وأن رسول الله ومن معه{[1108]} هم الأذلون ، والأمر بعكس ما قال هذا المنافق ، فلهذا قال [ تعالى : ] { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فهم الأعزاء ، والمنافقون وإخوانهم من الكفار [ هم ] الأذلاء . { وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } ذلك زعموا أنهم الأعزاء ، اغترارًا بما هم عليه من الباطل ، ثم قال تعالى : } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }
{ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة } يعني عبد الله ابن أبي وكان قد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى غزوة بني المصطلق وجرى بينه وبين واحد من المؤمنين جدال فأفرط عليه المؤمن فقال عبد الله بن أبي { لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى { ولله العزة } القوة والغلبة { ولرسوله } بعلو كلمته واظهار دينه { وللمؤمنين } بنصر الله اياهم على من ناوأهم
ودل على عدم فقههم بقوله تعالى : { يقولون } أي يوجدون هذا القول ويجددونه مؤكدين له لاستشعارهم بأن أكثر قومه ينكره : { لئن رجعنا } أي نحن أيتها العصابة المنافقة{[65551]} من غزاتنا هذه - التي قد رأوا فيها من نصرة النبي صلى الله عليه وسلم ما يعجز الوصف وهي غزوة بني المصطلق حي{[65552]} من هذيل بالمريسيع{[65553]} وهو ماء من مياههم من ناحية قديد إلى الساحل وفيها تكلم{[65554]} ابن أبي بالإفك وأشاعه - { إلى المدينة } و{[65555]}دلوا على تصميمهم على عدم المساكنة بقولهم : { ليخرجن الأعز } يعنون أنفسهم { منها الأذل } وهم كاذبون في هذا ، لكنهم تصوروا لشدة غباوتهم أن العزة لهم وأنهم يقدرون على إخراج المؤمنين { ولله } أي والحال أن{[65556]} كل من له{[65557]} نوع بصيرة يعلم أن للملك{[65558]} الأعلى الذي له وحده عز الإلهية { العزة } كلها ، فهو قهار لمن دونه وكل ما عداه دونه{[65559]} .
ولما حصر{[65560]} العزة بما دل على ذلك من تقديم المعمول ، أخبر أنه يعطي منها من أراد وأحقهم بذلك من أطاعه فترجم ذلك بقوله : { ولرسوله } لأن{[65561]} عزته من عزته بعز النبوة والرسالة وإظهار الله دينه على الدين كله ، {[65562]}وكذلك أيضاً أن العزة لمن أطاع الرسول بقوله{[65563]} : { وللمؤمنين } أي الذين صار الإيمان لهم وصفاً راسخاً لأن عزتهم بعزة الولاية ، ونصر الله إياهم عزة لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ومن تعزز بالله لم يلحقه ذل .
ولما كان جهلهم في هذا أشد لكثرة ما رأوا من نصرة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن تابعه رضي الله عنهم وإعلائهم على كل من ناواهم ، قال منبهاً على ذلك : { ولكن المنافقين } أي الذين استحكم فيهم مرض القلوب .
ولما كانت الدلائل على عزة الله لا تخفى على أحد لما تحقق من قهره للملوك وغيرهم بالموت الذي لم يقدر{[65564]} أحد على الخلاص منه ولا المنازعة فيه ، ومن المنع من أكثر المرادات ، ومن نصر الرسول وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك ، وبأنه سبحانه ما قال شيئاً إلا تم ولا قالت الرسل شيئاً إلا صدقهم فيه ، ختم الآية بالعلم الأعم من الفقه فقال : { لا يعلمون * } أي لا {[65565]}لأحد لهم{[65566]} علم الآن ، ولا يتجدد في حين من الأحيان ، فلذلك{[65567]} هم يقولون مثل هذا الخراف ، وروي{[65568]} أنه لما نزلت هذه الآية جاء عبد الله ولد عبد الله بن أبي ابن{[65569]} سلول الذي نزلت بسببه إلى أبيه ، وذلك في غزوة المريسيع لبني المصطلق فأخذ بزمام ناقة أبيه وقال : أنت والله الذليل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز ، ولما دنوا من المدينة الشريفة جر سيفه وأتى أباه فأخذ بزمام ناقته . وزجرها إلى ورائها وقال : إياك وراءك والله لا تدخلها حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولئن لم تقر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنت الأذل لأضربن عنقك ، قال : أفاعل أنت ؟ قال : نعم ، قال : أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وشكا ولده{[65570]} إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يدعه{[65571]} يدخل المدينة ، فأطلقه فدخل .