ومن ابتغيتَ ممن عزلتَ : ومن طلبتَ ممن أبعدت من نسائك .
ذلك أدنى أن تقر أعينهن : ذلك أقرب أن تسر نفوسهن .
يخّير الله الرسول الكريم في هذه الآية بأن يدنيَ إليه من يشاءُ من نسائه ويؤخّر منهنّ من يشاء . وإذا أراد أن يطلب واحدةً كان أبعدَها فله الخيارُ في ذلك دون حَرَجٍ أو تضييق عليه . وكلُّ ذلك حتى يكنَّ مسرورات قريراتِ الأعين ، ولا يحزنّ بل يرضين بما قَسَم بينهن ، ويعلمن أن هذا كلَّه بأمرِ الله وترخيصِه لرسوله الكريم .
روى ابن جرير عن أبي رزين قال : لما نزلت آية التخيير السابقةُ خاف نساء النبي أن يطلّقهن فقلن : يا رسول الله ، لنا من مالك ومن نفسِك ما شئت ، ودعنا كما نحنُ ، فنزلت هذه الآية ، فأرجأ رسول الله خمساً من نسائه وهن : أم حبيبة ، وميمونة ، وصفية ، وجويرية ، وسودة ، فكان لا يقسم بينهن ما شاء ، يعني لم يجعل دورا في المبيت عندَهن منتظَما .
وآوى إليه أربع نساء هن : عائشة ، وحفصة ، وزينب ، وأم سلمة ، وكان يقسِم بينّهن على السواء ، لكل واحدة ليلة .
{ والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } من الميل إلى بعضِهن دون بعض مما لا يمكن دفعُه ، { وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً } .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم : { ترجئ } بالهمزة ، والباقون : { ترجي } بدون همزة .
{ ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } معنى ترجي تؤخر وتبعد ، ومعنى تؤوي تضم وتقرب . واختلف في المراد بهذا الإرجاء والإيواء ، فقيل : إن ذلك في القسمة بينهن أي : تكثر لمن شئت ، وتقلل لمن شئت ، وقيل : إنه في الطلاق أي : تمسك من شئت وتطلق من شئت ؛ وقيل : معناه تتزوج من شئت ، وتترك من شئت ، والمعنى على كل قول توسعة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإباحة له أن يفعل ما يشاء ، وقد اتفق الناقلون على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه : أخذا منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له ، والضمير في قوله : { منهن } يعود على أزواجه صلى الله عليه وسلم خاصة أو على كل ما أحل الله له على حسب الخلاف المتقدم .
{ ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } في معناه قولان :
أحدهما : من كنت عزلته من نسائك فلا جناح عليك في رده بعد عزله .
والآخر : من ابتغيت ومن عزلت سواء في إباحة ذلك فمن للتبعيض على القول الأول وأما على القول الثاني فنحو قولك من لقيك ومن لم يلقك سواء .
{ ذلك أدنى أن تقر أعينهن } أي : إذا علمن أن هذا حكم الله قرت به أعينهن ورضين به ، وزال ما كان بهن من الغيرة ، فإن سبب نزول هذه الآية ما وقع لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة بعضهن على بعض .
ولما ذكر هاتين الصفتين ، أتبعهما ما خففه عنه من أمرهن إكراماً له صلى الله عليه وسلم مما{[55846]} كان من شأنه أن يتحمل فيه ويتخرج عن فعله ، فقال في موضع الاستئناف ، أو الحال من معنى التخفيف في الجمل السابقة : { ترجي } بالهمز على قراءة الجماعة أي تؤخر { من تشاء منهن } أي من الواهبات فلا تقبل هبتها أو من نسائك بالطلاق أو غيره مع ما يؤنسها من أن تؤويها ، وبغير همز عند حمزة والكسائي وحفص{[55847]} من الرجاء أي تؤخرها مع أفعال يكون بها راجية{[55848]} لعطفك { وتؤي } أي تضم وتقرب{[55849]} بقبول الهبة أو بالإبقاء في العصمة بقسم وبغير قسم بجماع وبغير جماع تخصيصاً له بذلك عن{[55850]} سائر الرجال { إليك من تشاء } وسيب نزول هذه الآية{[55851]} أنه لما نزلت آية التخيير أشفقن أن يطلقهن فقلن : يا نبي الله ! اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت . ودعنا على حالنا ، فنزلت .
ولما كانت ربما مال إلى من فارقها ، بين تعالى حكمها فقال : { ومن ابتغيت } أي مالت نفسك إلى طلبها { ممن عزلت } أي أوقعت عزلها بطلاق أو رد هبة { فلا جناح عليك } أي في إيوائها بعد ذلك بقبول هبتها أو بردها إلى ما كانت عليه من المنزلة عندك من قيد{[55852]} النكاح أو القسم .
ولما كانت المفارقة من حيث هي - ولا سيما إن كان فراقها لما فهم منها من كراهية يظن بها - أنها تكره الرجعة ، أخبر سبحانه أن نساءه صلى الله عليه وسلم على غير{[55853]} ذلك فقال : { ذلك } أي الإذن لك من الله والإيواء العظيم الرتبة ، لما لك من الشرف { أدنى } أي أقرب من الإرجاء ومن عدم التصريح بالإذن في{[55854]} القرآن المعجز ، إلى { أن تقر أعينهن } أي بما حصل لهن من عشرتك الكريمة ، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد ، لأن من كان كذلك كانت عينه قارة ، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب لما يخشاه - هذا إن كان من القرار بمعنى السكون ، ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد الحر ، لأن المسرور تكون{[55855]} عينه باردة ، والمهموم تكون عينه حارة ، فلذلك يقال للصديق : أقر الله عينك ، وللعدو : أسخن الله عينك{[55856]} { ولا يحزن } أي بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك { ويرضين } لعلمهن أن ذلك من الله لما للكلام من الإعجاز { بما آتيتهن } أي من الأجور وغيرها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها{[55857]} .
ولما كان التأكيد أوقع في النفس وأنفى للبس ، وكان هذا أمراً غريباً لبعده عن الطباع أكد فقال : { كلهن } أي ليس{[55858]} منهن واحدة إلا هي كذلك راغبة فيك راضية بصحبتك{[55859]} إن آويتها أو{[55860]} أرجأتها لما لك من حسن العشرة وكرم الأخلاق ومحاسن الشمائل وجميل الصحبة ، وإن اخترت فراقها علمت أن هذا أمر من الله جازم ، فكان ذلك أقل{[55861]} لحزنها فهو أقرب إلى قرار عينها بهذا الاعتبار ، وزاد ذلك تأكيداً لما له من الغرابة التي لا تكاد تصدق بقوله عطفاً على نحو { فالله يعلم ما في قلوبهم }{[55862]} : { والله } أي بما له من الإحاطة بصفات الكمال { يعلم } أي علماً مستمراً لتعلق { ما في قلوبكم } أي{[55863]} أيها الخلائق كلكم ، فلا بدع إن علم ما في قلوب هؤلاء .
ولما رغبه سبحانه في الإحسان إليهن بإدامة الصحبة بما أخبره من ودهن ذلك ، لكونه صلى الله عليه وسلم شديد المحبة لإدخال السرور على القلوب ، زاده ترغيبا بقوله : { وكان الله } أي أزلاً وأبداً { عليماً } أي بكل شيء ممن يطيعه ومن يعصيه { حليماً * } لا يعاجل من عصاه ، يل يديم إحسانه إليه في الدنيا فيجب أن يتقي{[55864]} لعلمه وحلمه ، فعلمه موجب للخوف منه ، وحلمه مقتض{[55865]} للاستحياء منه ، وأخذ الحليم شديد ، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه ، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه{[55866]} منه ، وأن يرفع قدره ويعلي ذكره ، روى البخاري{[55867]} في التفسير عن معاذة{[55868]} عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا{[55869]} بعد أن أنزلت هذه الآية { ترجي من تشاء منهن } الآية ، قلت لها : ما كنت تقولين ؟ قالت : كنت أقول له : إن{[55870]} كان{[55871]} ذاك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً .