سورة الجمعة مدنية وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة الصف . وهي على غرار السور المدنية في معالجتها لتهذيب الأخلاق ، وتثبيت الإيمان ، وبناء مجتمع إسلامي فاضل .
فبعد أن وصف الله تعالى نفسه بصفات الكمال ، وأن كل شيء في هذا الوجود يسبح له ، بين أنه بعث في هذه الأمة رسولا منهم يتلو عليهم القرآن الكريم ، ويزكيهم بالأخلاق الفاضلة ، ويطهرهم من الشرك والخرافات ، ويفقّههم في الدين ويسلحهم بالعلم النافع ، ليحملوا راية الإسلام ، وينشروا مشعل الهداية في العالم .
وأنه سيجيء بعدهم آخرون منهم يسيرون على هدى الإسلام وينشرون هذا الدين في الشرق والغرب تحت راية القرآن .
ثم نعى على اليهود تركهم العمل بالتوراة ، وتعاليهم على الناس ، ودعواهم بأنهم أولياء الله وأحباؤه ، وتحداهم أن يتمنوا الموت إن كانوا صادقين ، ولكنهم لا يتمنونه أبدا ، لحرصهم على الحياة ، وجمع المال ، وعبادة المادة ، مع أن كل إنسان في هذا الوجود مصيره إلى الموت .
ثم يأتي إلى موضوع صلاة الجمعة ، وبذلك سميت " سورة الجمعة " بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } .
فعلى المؤمنين أن يسارعوا إلى صلاة الجمعة عندما يسمعون النداء ، ويجب أن يتركوا أعمالهم وتجارتهم ويتوجهوا إلى المساجد أينما كانوا ، وبعد أن تنقضي الصلاة لهم أن يسعوا إلى أعمالهم وطلب الرزق .
وفي ختام السورة يعاتب الله بعض المؤمنين على تركهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب ، وذهابهم إلى السوق لرؤية العير القادمة من الشام . ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمنين ، فعليهم أن يلزموا المسجد إلى نهاية الصلاة ، والله قد تكفل لهم بالرزق وهو خير الرازقين .
القدّوس : صفة من صفات الله ومعناها : المنزه عن النقائص .
يسبّح لله وينزّهه عما لا يليق به كلُّ ما في هذا الوجود من بشرٍ وحيوان وشجر وجماد ، هو الملكُ القُدّوس المنزه عن النقائص ، المتصفُ بالكمال ، { العزيز الحكيم } .
مدنية في قول الجميع ، وهي إحدى عشرة آية . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ) . وعنه قال : قال رسول الله :( نحن الآخرون الأولون{[1]} يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد{[2]} أنهم أوتوا الكتاب بن قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له - قال - يوم الجمعة فاليوم لنا وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ) .
تقدم الكلام فيه . وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم " الملك القدوس العزيز الحكيم " كلها رفعا ، أي هو الملك .
سورة الجمعة{[1]}
مقصودها بيان مسمى الصف بدليل هو أوضح شرائع الدين وأوثق عرى الإسلام ، وهو الجمعة التي اسمها مبين للمراد منها من فرضية{[2]} الاجتماع فيها وإيجاب الإقبال عليها وهو التجرد عن غيرها والانقطاع لما وقع من التفرق حال الخطبة عمن {[3]}بعث للتزكية بالاجتماع عليه في الجهاد{[4]} و{[5]}غيره في العسر واليسر والمنشط والمكره ، واسمها الجمعة أنسب شيء فيها لهذا المقصد بتدبر آياته وتأمل أوائله وغاياته الحاثة{[6]} على قوة التواصل والاجتماع ، والحاملة على دوام الإقبال على المزكى والحب له والاتباع ( بسم الله ) الذي [ أحاط-{[7]} ] . علمه بكل معلوم فتم بيانه ( الرحمان ) الذي عمت{[8]} نعمة بيانه بعد شمول كرامة إيجاده فهو العظيم شأنه ( الرحيم ) الذي خص حزبه بالتوفيق لما يرضاه فثبت في سويداء كل منهم حبه له وإيمانه به .
ولما ختمت الصف بالإقبال ببعض بني إسرائيل على{[65184]} جنابه الأقدس بعد أن زاغوا فأزاغ الله{[65185]} قلوبهم كلهم أو الشاذ منهم بما أفهمه إطلاق الضمير عليهم ثم تأييدهم على من استمر منهم على الزيغ ، فثبت أن له تمام القدرة المستلزم لشمول العلم {[65186]}اللازم منه{[65187]} التنزه عن كل شائبة نقص ، وكان سبحانه قد ذكر{[65188]} التسبيح الذي هو الأعظم الأشهر للتنزيه بلفظ الماضي ثلاث مرات في افتتاح ثلاث سور ، وذلك نهاية الإثبات المؤكد ، فثبت بذلك أنه وقع تنزيهه من كل ناطق وصامت ، أخبر أول هذه السورة{[65189]} أن ذلك التنزيه على وجه التجديد{[65190]} والاستمرار بالتعبير بالمضارع لاستمرار ملكه فقال : { يسبح } أي يوقع{[65191]} التنزيه الأعظم الأبهى الأكمل { لله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وأكد بذلك لما في التغابن ولم يحتج بعد الإقرار بالوقوع على هذا الوجه إلى{[65192]} التأكيد بأكثر من مرة وجعل بين كل مسبحتين سورة خالية من ذلك ليكون ذلك أدل{[65193]} على قصد التأكيد من حيث شدة الاعتناء بالذكر ، وإن وقع فصل ويكون التأكيد أكثر تنبيهاً وأعظم صدعاً وتذكيراً .
ولما كان تقريع العاقل الناطق بطاعة الصامت أعظم ، قال : { ما في السماوات } وإن كان العاقل يدخل في ذلك ما عليه فيكون تسبيحه تارة طوعاً موافقة للأمر ، وتارة كرهاً بالانقياد مع الإرادة ، وتسبيح الصامت طوعاً في كل حال . ولما كان الخطاب مع الذين آمنوا ، دعا ذلك إلى التأكيد لاحتياجهم إليه فقال : { وما في الأرض } كذلك .
ولما ثبت بالسور الثلاث الماضية أن الموجودات أوقعت له التسبيح ، وأخبرت هذه باستمرار ذلك على سبيل التجديد ، دل ذلك مع التنزيه عن النقائص على إثبات الكمال الذي لا يكون إلا{[65194]} لملك عظيم الشأن مطاع الأمر ، وكان الاقتصار على الصامت بالتعبير بما هو ظاهر فيه ربما أوهم شيئاً ، قال مصرحاً بما أفهمه السياق : { الملك } أي الذي ثبتت{[65195]} له جميع الكمالات فهو ينصر من يشاء من جنده ولو كان ذليلاً فيصبح{[65196]} ظاهراً { القدوس } الذي انتفت عنه جميع النقائص ، فلا يكون شيء إلا بإذنه وتنزه عن إحاطة أحد من الخلق بعلمه أو إدراك كنه ذاته فليس في أيدي الخلق إلا التردد في شهود أفعاله ، والتدبر لمفاهيم نعوته وجلاله ، وأحقهم بالقرب والعداد في حزبه المتخلق بأوصافه على قدر اجتهاده ، فينبغي للمؤمن التنزه عن أن يقول ما لا يفعل {[65197]}أو يبني{[65198]} شيئاً من أموره على غير إحكام ، وقد مضى شرح الاسمين الشريفين قريباً وذكر خلاصة شرحهما{[65199]} بما هو خاصة الملك وآية الطهارة للطاهر{[65200]} فقال : { العزيز } أي الذي يغلب كل شيء ، لا يغلبه شيء ، فلو أراد لجعل العقلاء كلهم أيضاً مع تسبيحهم بالجري تحت مراده طوعاً وكرهاً مسبحين بالموافقة لأمره طوعاً { الحكيم * } الذي يوقع كل ما أراده في أحكم مواقعه وأتمها وأتقنها .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما ختمت سورة الصف بالثناء على الحواريين في حسن استجابتهم وجميل إيمانهم ، وقد أمر المؤمنين بالتشبه بهم في قوله تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله }[ الصف : 14 ] كان ذلك مما يوهم فضل أتباع عيسى عليه السلام على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم فاتبع ذلك بذكر هذه الأمة ، والثناء عليها{[65201]} ، فافتتحت السورة بالتنزيه عما أشار إليه قوله :{ وكفرت طائفة }[ الصف : 14 ] فإنهم ارتكبوا العظيمة وقالوا بالبنوة ، فنزه سبحانه نفسه عن ذلك ثم{[65202]} قال : { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } [ الجمعة : 2 ] إلى قوله : { ذو الفضل العظيم } [ الجمعة : 4 ] ثم{[65203]} أعلم تعالى بحال طائفة لاح لهم نور{[65204]} الهدى و{[65205]}وضح لها سبيل{[65206]} الحق فعميت عن ذلك وارتبكت في ظلمات جهلها ولم تزدد بما حملت إلا حيرة وضلالة فقال تعالى :{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً }[ الجمعة : 5 ] الآيات وهي في معرض التنبيه لمن تقدم الثناء عليه ورحمه الله إياه لئلا يكونوا فيما يتلو عليهم نبيهم من الآيات ويعلمهم من الكتاب والحكمة مثل أولئك الممتحنين ، فإنهم مقتوا ولعنوا بعد حملهم التوراة ، وزعموا أنهم التزموا حمله والوفاء به فوعظ هؤلاء بمثالهم{[65207]} لطفاً من الله لهذه الأمة { وما يذكر إلا أولوا الألباب } انتهى .