{ 4-6 } { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا * وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }
يخبر تعالى عن منته على المؤمنين بإنزال السكينة في قلوبهم ، وهي السكون والطمأنينة ، والثبات عند نزول المحن المقلقة ، والأمور الصعبة ، التي تشوش القلوب ، وتزعج الألباب ، وتضعف النفوس ، فمن نعمة الله على عبده في هذه الحال أن يثبته ويربط على قلبه ، وينزل عليه السكينة ، ليتلقى هذه المشقات بقلب ثابت ونفس مطمئنة ، فيستعد بذلك لإقامة أمر الله في هذه الحال ، فيزداد بذلك إيمانه ، ويتم إيقانه ، فالصحابة رضي الله عنهم لما جرى ما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ، من تلك الشروط التي ظاهرها أنها غضاضة عليهم ، وحط من أقدارهم ، وتلك لا تكاد تصبر عليها النفوس ، فلما صبروا عليها ووطنوا أنفسهم لها ، ازدادوا بذلك إيمانا مع إيمانهم . وقوله : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } أي : جميعها في ملكه ، وتحت تدبيره وقهره ، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه ، ولكنه تعالى عليم حكيم ، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام ، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر .
قوله تعالى : " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " " السكينة " : السكون والطمأنينة . قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن هي الطمأنينة إلا التي في " البقرة " {[13984]} . وتقدّم معنى زيادة الإيمان في " آل عمران " {[13985]} . " ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " قال ابن عباس : بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما صدقوه فيها زادهم الصلاة ، فلما صدقوه زادهم الزكاة ، فلما صدقوه زادهم الصيام ، فلما صدقوه زادهم الحج ، ثم أكمل لهم دينهم ، فذلك قوله : " ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " أي تصديقا بشرائع الإيمان مع تصديقهم بالإيمان . وقال الربيع بن أنس : خشية مع خشيتهم . وقال الضحاك : يقينا مع يقينهم . " ولله جنود السماوات والأرض " قال ابن عباس : يريد الملائكة والجن والشياطين والإنس " وكان الله عليما " بأحوال خلقه " حكيما " فيما يريده .
ولما كان صلى الله عليه وسلم قد أخبر المؤمنين برؤياه أنه يطوف بالكعبة الشريفة ، وعز على العمرة عام الحديبية ، وخرج صلى الله عليه وسلم وخرج معه خلاصة أصحابه ألف وخمسمائة ، فكانوا مؤقنين أنهم يعتمرون في وجههم{[60117]} ذلك ، وقر ذلك{[60118]} في صدورهم وأشربته قلوبهم ، فصار نزعه منها أشق شيء يكون ، قصدهم المشركون بعد أن بركت ناقته وصالحهم صلى الله عليه وسلم على أن يرجع عنهم في ذلك العام ويعتمر في مثل ذلك الوقت من القابل ، وكان ذلك - بل أدنى منه - مزلزلاً للاعتقاد مطرقاً للشيطان الوسوسة في الدين ، وقد كان مثله في الإسراء ولم يكن صلى الله عليه وسلم أخبر بما يوهم في أمره فارتد ناس كثير بسببه ، قال تعالى دالاً على النصر بتثبيت المؤمنين{[60119]} في هذا المحل الضنك إظهاراً لتمام قدرته ولطيف حكمته : { هو } أي وحده { الذي أنزل } في يوم الحديبية { السكينة } أي الثبات على الدين { في قلوب المؤمنين } أي الراسخين في الإيمان وهم أهل الحديبية بعد أن دهمهم فيها ما من شأنه أن يزعج النفوس ويزيغ القلوب من صد الكفار ورجوع الصحابة رضي الله تعالى عنهم دون مقصودهم ، فلم يرجع أحد منهم عن الإيمان بعد أن ماج الناس وزلزلوا حتى عمر رضي الله عنه - مع أنه الفاروق ومع وصفه في الكتب السالفة بأنه قرن من حديد - فما الظن {[60120]}بغيره في فلق{[60121]} نفسه وتزلزل قلبه ، وكان للصديق رضي الله عنه من القدم الثابت والأصل الراسخ ما علم به رضي الله عنه أنه لا يسابق ، ثم ثبتهم الله أجمعين ، قال الرازي : والسكينة الثقة بوعد الله ، والصبر على حكم الله ، بل السكينة ههنا معين بجمع فوزاً وقوة وروحاً ، يسكن إليه الخائف ويتسلى به الحزين ، وأثر هذه السكينة الوقار والخشوع وظهور الحزم في الأمور - انتهى . وكل من رسخ في الإيمان ، له في هذه الآية نصيب {[60122]}جناه دان{[60123]} .
ولما أخبر بما لا-{[60124]} يقدر عليه غيره ، علله بقوله : { ليزدادوا } أي بتصديق الرسول حين قال{[60125]} لهم : إنهم لا بد أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت العتيق ، وحلهم الله به من الشبهة {[60126]}بتذكرهم أنه{[60127]} لم يقل لهم : إنهم يدخلون العام { إيماناً } بهذا التصديق بالغيب من أن-{[60128]} صلحهم للكفار ورجوعهم من غير-{[60129]} بلوغ قصدهم هو عين الفتح لترتب الصلح عليه وترتب فشو الإسلام على الصلح كما كشف عنه الوجود بعد ذلك ليقيسوا عليه غيره من الأوامر { مع إيمانهم } الثابت من قبل هذه الواقعة ، قال القشيري رحمه الله : بطلوع أقمار اليقين على نجوم علم اليقين ، ثم بطلوع شمس حق-{[60130]} اليقين على بدر عين اليقين .
ولما كان ربما ظن شقي من أخذ{[60131]} الأمور بالتدريج شيئاً في القدرة قال : { ولله } أي الذي أنزل السكينة عليهم ليكون نصرهم في هذه العمرة بالقوة ثم يكون عن قريب بالفعل والحال أنه له وحده { جنود السماوات والأرض } أي جميعها ، ومنها السكينة ، يدبرهم بلطيف{[60132]} صنعه وعجيب تدبيره{[60133]} ، فلو شاء لنصر المؤمنين الآن بالفعل ، ودمر على أعدائهم بجنود من جنوده أو بغير سبب ، لكنه فعل ذلك ليكون النصر بكم ، فيعلوا أمركم ويعظم أجركم ، ويظهر الصادق في نصره من الكاذب ، فإن الدار دار البلاء ، وبناء المسببات على الأسباب{[60134]} على وجه{[60135]} الأغلب فيه الحكمة ، لا القهر وظهور الكلمة ، فاسمه الباطن هو الظاهر في هذه الدار ، فلذلك ترى المسببات مستورات بأسبابها ، فلا يعلم الحقائق إلا البصراء{[60136]} ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت {[60137]}عليه هذه السورة{[60138]} فتلاها عليه قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين : أي رسول الله وفتح هو ؟ قال بعضهم : لقد صدونا عن البيت وصدوا هدينا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتح ، أما رضيتم أن تطرقوهم في بلادهم فيدفعوكم{[60139]} عنها بالراح ويسألوكم{[60140]} التضير ويرغبوا{[60141]} إليكم في الأمان{[60142]} وقد رأوا منكم ما كرهوا وأظفركم الله عليهم وردكم سالمين مأجورين ، فهو أعظم الفتوح ، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم ، أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون " ، فقال المسلمون : صدق الله ورسوله فهو أعظم الفتوح . والله يا نبي الله ما فكرنا فيما فكرت فيه ولأنت أعلم بالله وأمره منا . وأنزل الله تأكيدا لأمر الرؤيا لمن أشكل عليهم حالها { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام } الآية ، فهذه الأشياء كلها كما ترى راجعة إلى الخفاء بالتعجب{[60143]} في أستار الأسباب ، فلا يبصرها إلا أرباب التدقيق{[60144]} في النظر في حكمة الله سبحانه .
ولما كان مبنى ما مضى كله على القدرة بأمور خفية يظهر{[60145]} منها من الضعف غير ما كشف عنه الزمان من القوة ، وكان تمام القدرة متوقفاً على شمول العلم ، قال تعالى : { وكان الله } أي الملك الأعظم أزلاً وأبداً { عليماً } بالذوات والمعاني { حكيماً * } في إتقان ما يصنع ، فرده لهم عن هذه العمرة بعد أن دبر أمر الصلح ليأمن الناس فيداخل بعضهم بعضاً لما{[60146]} علم من أنه لا يسمع القرآن أحد له عقل مستقيم ويرى ما عليه أهله من شدة الاستمساك به والبغض لما كانوا فيه{[60147]} من متابعة الآباء {[60148]}إلا بادر{[60149]} إلى المتابعة ودخل في الدين برغبة ، وأدخل سبحانه خزاعة في صلح النبي صلى الله عليه وسلم وبني بكر وهم أعداؤهم في صلح قريش ليبغوا عليهم فتعينهم قريش الصلح بعد أن كثرت جنود الله وعز ناصر الدين ، فيفتح الله بهم مكة المشرفة ، فتنشر أعلام الدين ، وتخفق ألوية النصر المبين ، ويدخل الناس في الدين أفواجاً ، فيظهر دين الإسلام على جميع الأديان .
قوله تعالى : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما 4 ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما 5 ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين بالله ظن السّوء عليهم دائرة السّوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا 6 ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما } .
أنزل الله سكينته على رسوله والمؤمنين يوم الحديبية إذ صدهم المشركون عن بلوغ البيت الحرام فأصابهم من الحزن والكآبة والارتباك ما أصابهم . وراودت بعض نفوس المسلمين الشكوك ، ورأى المنافقون في ذلك منفذا للطعن وإشاعة الظنون والأراجيف والفوضى . لكن الله بفضله ورحمته قد سلّم ، إذ أفاض على المؤمنين بشؤبوب رخيّ مستعذب من الأمن والطمأنين والراحة . وهو قوله : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } أنزل الله على المؤمنين السكينة وهي الطمأنينة والرحمة تمس قلوبهم فتسكن وترتاح ويتبدد منها الإحساس بالضيق والكرب والحزن والعنت .
قوله : { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } لقد أمرهم الله بتكاليف ، واحدا بعد آخر ، فآمنوا بكل واحد منها . فقد أمروا بالتوحيد فآمنوا واستقاموا ، ثم أمروا بالصلاة والصيام والزكاة والحج والقتال فاستجابوا وأطاعوا ، وبذلك ازدادوا بما جدد لهم من الفرائض إيمانا مع إيمانهم . وقيل : ازدادوا إيمانا بالاستدلال والبرهان والنظر مع إيمانهم الفطري الذي جبلوا عليه .
قوله : { ولله جنود السماوات والأرض } وذلك تهديد من الله يخوف به المشركين ويحذرهم شديد بأسه وعظيم انتقامه ، فهو سبحانه بيده القوة والسلطان والجبروت . وعنده جنود السماوات والأرض من الملائكة العظام . لو أراد الله أن يهلك المشركين لأرسل إليهم واحدا من ملائكته فأهلكهم وقطع دابرهم .
قوله : { وكان الله عليما حكيما } الله عليم بحال عباده ويعلم ما يصلح عليه حالهم . وهو سبحانه حكيم في شرعه وتدبيره وتقديره . فلم يشأ الله أن ينتقم من المشركين بتسخيره الملائكة ليفنوهم ويستأصلوهم استئصالا ، ولكن شرع الجهاد ليتميز الصالحون من الخائرين ، وليكتب الله الخير وحسن الجزاء للطائعين الصابرين المخلصين ، ويبوء الظالمون والمنافقون والعصاة بالخسران المبين وهو
قوله : { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } .