وحيث علمتم أن كل ما يجري هو بعلم اله وقضائه وقدَره ، عليكم ألا تحزنوا على ما لم تحصَلوا عليه حزناً مفرطاً يجرّكم إلى السخط ، ولا تفرحوا فرحاً مبطِرا بما أعطاكم ، فاللهُ لا يحب كلّ متكبرٍ فخور على الناس بما عنده .
قال عكرمة : ليس أحدٌ إلا وهو يحزَن أو يفرح ، ولكنِ اجعلوا الفرحَ شُكرا والحزنَ صبراً . وما من إنسان إلا يحزن ويفرح ، ولكنّ الحزنَ المذمومَ هو ما يخرجُ بصاحبه إلى ما يُذهِبُ عنه الصبرَ والتسليم لأمرِ الله ورجاءِ الثواب ، والفرحَ المنهيَّ عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويُلهيه عن الشكر .
قرأ أبو عمرو : بما أتاكم بغير مد . والباقون : بما آتاكم بمد الهمزة .
وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم ، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر ، فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم ، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه ، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ ، لا بد من نفوذه ووقوعه ، فلا سبيل إلى دفعه ، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر ، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم ، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه ، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم ، ولهذا قال : { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي : متكبر فظ غليظ ، معجب بنفسه ، فخور بنعم الله ، ينسبها إلى نفسه ، وتطغيه وتلهيه ، كما قال تبارك وتعالى : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بل هي فتنة }
قوله تعالى : " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه . وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ) ثم قرأ " لكيلا تأسوا على ما فاتكم " إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم " ولا تفرحوا بما آتاكم " أي من الدنيا ، قال ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : من العافية والخصب . وروى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا . والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، قال الله تعالى : " والله لا يحب كل مختال فخور{[14727]} " أي متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس . وقراءة العامة " آتاكم " بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا . واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو " أتاكم " بقصر الألف واختاره أبو عبيد . أي جاءكم ، وهو معادل ل " فاتكم " ولهذا لم يقل أفاتكم . قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت ، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت . وقيل لبرزجمهر : أيها الحكيم ! مالك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعَبْرَة ، والآتي لا يستدام بالحَبْرَة . وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى : الدنيا مُبِيد ومُفِيد ، فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد آذن بالرحيل . وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار ، وكلاهما شرك خفي . والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن ، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك ، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدّع فهو الفخور .
ولما بين هذا الأمر العظيم الدال على ما له سبحانه من الكبرياء والعظمة ، بين ثمرة أعماله بقوله : { لكيلا } أي أعملناكم بأن على ما لنا من العظمة قد فرغنا من التقدير ، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير ، لأن الحزن لا يدفعه ، ولا السرور يجلبه ويجمعه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ليقلّ همك ما قدر يكن " لأجل أن لا { تأسوا } أي تحزنوا حزناً كبيراً زائداً { على } ما{[62594]} في أصل الجبلة ، يوصل إلى المبلغ{[62595]} بتعاطي أسبابه والتمادي فيها ليتأثر عنها السخط وعدم الرضا بالقضاء ، فربما جر ذلك إلى أمر عظيم { ما فاتكم } من المحبوبات الدنيوية { ولا تفرحوا } أي تسروا سروراً يوصل إلى البطر بالتمادي مع ما في أصل الجبلة { بما آتاكم } أي جاءكم منها على قراءة أبي عمرو{[62596]} بالقصر ، وأعطاكم الله{[62597]} على قراءة الباقين بالمد ، وهي تدل على أن النعم لا بد في إيجادها وإبقائها من حافظ ، ثم إنها لو خليت ونفسها فاتت لأنه ليس من ذاته إلا العدم ، وقد بين سبحانه أن في تقديره هذا وكتبه من السر أن من وطن نفسه على فقد ما لديه من أعيان ومعان{[62598]} قبل أن تأمره بالعدم والوجدان ، فلم يغيره ذلك عن المسابقة المذكورة ، فالمنهي عنه التمادي مع الحزن حتى يخرج عن الصبر ومع الفرح حتى يلهي عن الشكر ، لا أصل المعنى لأنه ليس من الأفعال الاختيارية ، قال جعفر الصادق : ما لك تأسف على مفقود ولا يرده إليك الفوت ، وما لك تفرح بوجود ولا يتركه في يدك{[62599]} الموت - انتهى ، ولقد عزى الله المؤمنين رحمة لهم في مصائبهم وزهدهم في رغائبهم بأن أسفهم على فوت المطلوب لا يعيده ، وفرحهم بحصول المحبوب لا يفيدهم ، ولأن ذلك لا مطمع في بقائه إلا بادخاره عند الله ، وذلك بأن يقول في المصيبة : قدر الله وما شاء الله{[62600]} فعل ويصير وفي النعمة هكذا قضى ، وما أدري ما مثاله
( هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر }[ النمل : 40 ] فلا يزال خائفاً عند النقمة راجياً أثر النعمة ، قائلاً في الحالين : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وأكمل من هذا أن يكون مسروراً بذكر ربه له في كلتا الحالتين كما قال القائل{[62601]} :سقياً لمعهدك الذي لو لم يكن *** ما كان قلبي للصبابة معهدا
وهذه صفة المتحررين{[62602]} من رق النفس ، وقيمة الرجال إنما تعرف بالواردات المغيرة ، فمن لم تغيره المضار ولم يتأثر بالمسار فهو سيد وقته ، أشار إليه القشيري . ولما كان الإمعان في استجلاب الأسى إنما هو من اليأس ونسيان النعم وزيادة الفرح الموصل إلى المرح إنما يجره الكبر والمرح ، وكان في أوصاف أهل الدنيا التفاخر ، قال تعالى مبيناً أن المنهي عنه سابقاً التمادي مع الجبلة في الحزن والفرح ، عاطفاً على ما تقديره : { فإن الله لا يحب كل يؤوس كفور } { والله لا يحب }{[62603]} أي لا يفعل فعل المحب بأن يكرم{[62604]} { كل مختال } أي متكبر نظر إلى ما في يده من الدنيا { فخور * } قال القشيري : الاختيال من بقايا النفس ورؤيتها ، والفخر من{[62605]} رؤية خطر ما به يفتخر .
{ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( 23 ) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( 24 ) }
لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا ، ولا تفرحوا بما آتاكم فرحَ بطر وأشر . والله لا يحب كل متكبر بما أوتي من الدنيا فخور به على غيره .
قوله : { لكيلا تأسوا على ما فاتكم } يعني حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا من خيراتها ومتاعها . فإن ذلك لم يقدّره الله لكم ولو قدّره لكم لما فاتكم . وقد روي عن ابن مسعود في هذا الصدد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه " .
قوله : { ولا تفرحوا بما آتاكم } أي لا تفرحوا بما أعطاكم الله في الدنيا من الرزق والعافية والخصب فتفاخروا به على الناس وانتم بطرون أشرون { والله لا يحب كل مختال فخور } مختال ، من الاختيال والخيلاء وهو التكبر والتفاخر{[4465]} يعني : إن الله لا يحب كل متكبر مباه بنفسه وماله وما أوتيه من أوجه النعم ، مفاخر بذلك على الناس .