رجل مؤمن من آل فرعون : يقال إنه ابن عم فرعون .
المسرف : الذي تجاوز الحد في المعاصي .
وهنا يتدخل الرجل المؤمن من آل فرعون فيما لا يعرفُ أحدٌ أنه آمن ، فيقول : أتقتلون رجلاً لأنه يقول : إن الهي الله ! ! ولقد جاءكم بالأدلة الواضحة من رب العباد ، وأفحمكم بالحجة القاطعة وعجزتم عن إقناعه !
{ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } وما عليكم من تبعته شيء .
{ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } .
ولما انقضى كلام الرأسين ، وكانت عادة من لم يكن لهم نظام من الله رابط أن قلوبهم لا تكاد تجتمع وأنه لا بد أن يجاهر بعضهم بما عنده ولو عظم شأن الملك القائم بأمرهم ، واجتهد في جمع مفترق علنهم وسرهم ، قال تعالى مخبراً عن كلام بعض الأتباع في بعض ذلك : { وقال رجل } أي كامل في رجوليته { مؤمن } أي راسخ الإيمان فيما جاء به موسى عليه السلام . ولما كان للإنسان ، إذا عم الطغيان ، أن يسكن بين أهل العدوان ، إذا نصح بحسب الإمكان ، أفاد ذلك بقوله : { من آل فرعون } أي وجوههم ورؤسائهم { يكتم إيمانه } أي يخفيه إخفاء شديداً خوفاً على نفسه لأن الواحد إذا شذ عن قبيلة يطمع فيه ما لا يطمع إذا كان واحداً من جماعة مختلفة ، مخيلاً لهم بما يوقفهم عن الإقدام على قتله من غير تصريح بالإيمان .
ولما رآهم قد عزموا على القتل عزماً قوياً أوقع عليه اسم القتل ، فقال منكراً له غاية الإنكار : { أتقتلون رجلاً } أي هو عظيم في الرجال حساً ومعنى ، ثم علل قتلهم له بما ينافيه فقال : { أن } أي لأجل أن { يقول } ولو على سبيل التكرير : { ربي } أي المربي لي والمحسن إليّ { الله } أي الجامع لصفات الكمال { وقد } أي والحال أنه قد { جاءكم بالبينات } أي الآيات الظاهرات من غير لبس { من ربكم } أي الذي لا إحسان عندكم إلا منه ، وكما أن ربوبيته له اقتضت عنه الاعتراف له بها فكذلك ينبغي أن تكون ربوبيته لكم داعية لكم إلى اعترافكم له بها .
ولما كان كلامه هذا يكاد أن يصرح بإيمانه ، وصله بما يشككهم في أمره ويوقفهم عن ضره ، فقال مشيراً إلى أنه لا يخلو حاله من أن يكون صادقاً أو كاذباً ، مقدماً القسم الذي هو أنفى للتهمة عنه وأدعى للقبول منه : { وإن } أي والحال أنه إن .
ولما كان المقام لضيقه غاية الضيق بالكون بين شرور ثلاثة عظيمة : قتلهم خير الناس إذ ذاك ، وإتيانهم بالعذاب ، واطلاعهم على إيمانه ، فأقل ما يدعوهم ذلك إلى اتهامه إن لم يحملهم على إعدامه داعية للإيجاز في الوعظ والمسارعة إلى الإتيان بأقل ما يمكن ، حذف النون فقال : { يك كاذباً فعليه } أي خاصة { كذبه } يضره ذلك وليس عليكم منه ضرر ، ولم يقل : أو صادقاً ، وإن كان الحال مقتضياً لغاية الإيجاز لئلا يكون قد نقص الجانب المقصود بالذات حقه ، فيكون قد أخل ببعض الأدب ، فقال مظهراً لفعل الكون عادلاً عما له إلى ما عليهم معادلاً لما ذكره عليه ونقصه عنه إظهاراً للنصفة ودفعاً للتهمة عن نفسه : { وإن يك } حذف نونه لمثل ما مضى { صادقاً يصبكم } أي على وجه العقوبة من الله وله صدقه ينفعه ولا ينفعكم شيئاً .
ولما كان العاقل من نظر لنفسه فلم يرد كلام خصمه من غير حجة ، وكان أقل ما يكون من توعد من بانت مخايل صدقه البعض ، قال ملزماً الحجة بالبعض ، غير ناف لما فوقه إظهاراً للانصاف وأنه لم يوصله حقه فضلاً عن التعصب له نفياً للتهمة عن نفسه : { بعض الذي } وقال : { يعدكم } دون " يوعدكم " إشارة إلى أنهم إن وافوه أصابهم جميع ما وعدهموه من الخير ، وإلا دهاهم ما توعدهم من الشر ، والآية من الاحتباك : ذكر اختصاصه بضر الكذب أولاً دليلاً على ضده وهو اختصاصه بنفع الصدق ثانياً ، وإصابتهم ثانياً دليلاً على إصابته أولاً ، وسره أنه ذكر الضار في الموضعين ، لأنه أنفع في الوعظ لأن من شأن النفس الإسراع في الهرب منه ، ولقد قام أعظم من هذا المقام - كما في الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما - أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مظهر إيمانه وقد جد الجد بتحقق الشروع في الفعل حيث اخذ المشركون بمجامع ثوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فالتزمه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول هذه الآية ، ودموعه تجري على لحيته حتى فرج الله وقد مزقوا كثيراً من شعر رأسه - رضي الله عنه .
ولما كان فرعون قد نسب موسى عليه الصلاة والسلام بما زعمه من إرادته إظهار الفساد إلى الإسراف بعد ما نسبه إليه من الكذب ، علل هذا المؤمن قوله هذا الحسن في شقي التقسيم بما ينطبق إلى فرعون منفراً منه مع صلاحيته لإرادة موسى عليه الصلاة والسلام على ما زعمه فيه فرعون فقال : { إن الله } أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز { لا يهدي } أي إلى ارتكاب ما ينفع واجتناب ما يضر { من هو مسرف } أي بإظهار الفساد متجاوز للحد ، وكأنه رضي الله عنه جوز أن يتأخر شيء مما توعد به فيسموه كذباً ، ولذا قال { يصبكم بعض الذي يعدكم } فعلق الأمر بالمبالغة فقال : { كذاب * } لأن أول خذلانه وضلاله تعمقه في الكذب ، ويهدي من هو مقتصد صادق ، فإن كان كاذباً كما زعمتم ضره كذبه ، ولم يهتد لوجه يخلصه ، وإن كان صادقاً أصابتكم العقوبة ولم تهتدوا لما ينجيكم ، لاتصافكم بالوصفين .
قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ( 28 ) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } .
الظاهر أن الرجل المؤمن كان قبطيّا من آل فرعون وقد آمن بموسى سرّا . وقيل إنه من بني إسرائيل وكونه قبطيّا أولى بالصواب .
وقوله : { مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ } صفة لرجل .
قوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } الاستفهام للإنكار والتعنيف الشديد وأن يقول ، يعني كراهية أن يقول ربي الله ؛ فقد أنكر عليهم الرجل المؤمن عزمهم على قتل موسى لقوله : { رَبِّيَ اللَّهُ } والمعنى : أتفعلون هذه الفعلة الفظيعة الشنعاء وهي قتل نفس مؤمنة محرمة دون على أو سبب إلا قول كلمة الحق ودعوتكم إلى توحيد الله وعبادته وحده . وقد استدرجهم هذا المؤمن إلى الاعتراف بنبوة موسى عليه السلام لتليين قلوبهم القاسية وكسر سَوْرَتهم الجامحة وترغيبا لهم في الإيمان بالله ورسوله .
قوله : { وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } بيَّن لقومه جملة البراهين من المعجزات الظاهرة التي جاءهم بها موسى فشاهدوها وعاينوها . وهي تشهد بصدق رسالته وأنه مبعوث أمين قد جاءهم برسالة الحق واليقين من عند الله .
قوله : { وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } احتج عليهم بأن هذا الذي جاءكم يدعوكم إلى دين الله ، لا يخلو من كونه كاذبا أو صادقا ، فإن كان كاذبا فإنما يعود ضرر كذبه عليه { وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ } يعني إن تعرضتم له بالسوء يصبكم بعض الذي يعدكم ؛ فقد ذكر { بعضُ } مع تقديره أنه نبي صادق في كل ما يقوله ، وهو يبتغي بذلك أن يسلك معهم سبيل المناصحة والبرهان بما يبين لهم أنه لا يتعصب لهذا الرجل فيكون ذلك أقرب إلى تسليمهم له وقبولهم به .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } لا يجعل الله الهداية والتوفيق للذي يشتط ويفتري الكذب ، ومن كان كذلك لا يستقيم أمره بل إن الله خاذله ومهلكه . أو لو كان ذا إسراف وكذب فيما يقول لما عضده الله بالبينات الظاهرة والمعجزات العجاب . وكذلك قال لهم : { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ } .